قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم الذى لا يفطر والقائم الذى لا يفتر ) ولاحظ معى الجهد الذى يبذله الصائم والذى يكون قد يسرد الصوم ( يصوم بصفة مستمرة ) والذى يقوم قد يغالب نفسه حتى يقوم الليل ولذلك لمّا ذكرهم الله قال ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) أى حصل جفاء بينه وبين مضجعه فلا يستطيع أن يرقد وقد يكون عنده عمل فى الصباح ومع ذلك يجاهد نفسه على القيام بالليل من أجل نيل الأجر.
ولكن كيف يُدرك الإنسان بحسن خلقه هذه المنزلة العظيمة ؟ المسألة تتعلق بالموازين فالرجل حسن الخلق ليس له خصومه عند أحد ما من حسنة يُثبتها إلا وتبقى كما هى ، أمّا الإنسان سئ الخلق ظالم متعد للحدود وهو الذى قال فى حقه النبى صلى الله عليه وسلم لمّا سأل أصحابة ( أتدرون من المفلس ) قالوا : المفلس فينا من ليس له درهم ولا متاع ولا دينار ، قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا ، المفلس رجل أتى بصلاة وصيام وزكاة وحج ولكنه شتم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاته ثم طُرحت عليه فطُرح فى النار . ويُذكرنا هذا المفلس بنوع أخر من المفلسين ، هو من يربى كلب فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من أقتنى كلب ليس كلب زرع ولا حرث ولا ضرع ( أى كلب ماشية يحرثها ) نقص من أجره كل يوم قيراطان ، والقيراط كأحد فهذا أيضاً ينقص من أجره بل يضيع كل اجره لو كان مجتهداً أشد الإجتهاد فما بالنا لو كان مُقصّر . ولو أصّلنا لسوء الخلق لوجدنا أن سئ الخلق شخص سريع الغضب حيث أن الشئ البسيط الذى يمكن أن يمر بحسن الخلق يُضخّمه ويُهوّله وكما يقولون فى المثل الشعبى ( يعمل من الحبة قبة ) وهذا الرجل سئ الخلق أشقى الناس به نفسه التى بين جنبيه فهو أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض من الذى يكون خلقه حسن فقد تصيبه الجلطات وإرتفاع ضغط الدم والسكتات القلبية وغيرها من الأمور التى يسببها الإنفعال وهو دائماً فى شقاء بسبب ضيق الصدر كما تشقى به زوجته وأولاده ودابته وإذا مات إستراحت منه البلاد والعباد والشجر والدواب ، وما يسود بين الناس إلا ذو الخلق الحسن ، وأفضل وأرقى مثال عندنا لحسن الخلق هو سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله الذى أسترق الناس جميعاً بحسن الخلق ، ولما قيل له من أصحابه فى قتل عبد الله أبن أبى بن سلول وهو بيّن النفاق لا يخفى نفاقه على رد صلى الله عليه وسلم كأرقى ما يكون الجواب وأبلغ ما يكون الرد والذى يدل على علو أخلاقه وبعد نظره صلى الله عليه وسلم فقد قال لإصحابه ( معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) وفى قوله أكثر من نكتة لطيفة أولها أنه سمى نفسه ولم يقل رسول الله كما أنه قال أصحابه ولم يقل صاحبه وهم يريدون قتل واحد معروف بالنفاق ، وهو قال محمد لئلا يعلم أهل البادية أجلاف الأعراب الذين كانوا لا يوقرون النبى فإذا أتى الواحد منهم قال يا محمد وأغلظ له القول فهم لا يعرفون مكانته فقال النبى محمد فهو هنا يتحدث عن محمد المعروف بين الناس جميعاً حتى قبل بعثته بالصدق والإمانة وعلو الأخلاق ، والنكتة الثانية ( والنكتة هى القول الجميل المستملح ) أنه قال أصحابه لأنه يعلم أن الناس يزيدون فى الخبر فلو قال صاحبه سيصل الخبر حينما يصل إلى أخر الجزيرة أن محمد قتل جميع اصحابه فهو يقول لإصحابه إن بقاءه حى مع معرفتنا بسوء خلقه أفضل من أن نقتله وهذا هو النبى عظيم الأخلاق صلى الله عليه وسلم .
وعليه يجب أن يراقب الإنسان ربه ويجعل خلقه حسن حتى يصلح الله له الحال ، يقول سفيان بن عيينه عن أبى حازم ( لا يُحسن أحد فيما بينه وبين الله إلا أحسن الله بينه وبين العباد ولا يُعوّر بينه وبين الله إلا عوّر الله بينه وبين العباد ، لمُصانعة وجه واحد أيسر من مُصانعة كل الوجوه ؛ إنك إذا صانعته مالت الوجوه كلها إليك وإذا إستفسدت ما بينك وبينه شنئِاتك كل الوجوه ) ومحور الكلام أن الجزاء من جنس العمل ولهذا الكلام شواهد فى الكتاب والسنة ، فمن القرأن قوله تعالى ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) وقوله أيضاً ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) وقوله ( ثم إنصرفوا صرف الله قلوبهم ) وفى السنة قوله صلى الله عليه وسلم والحديث عن جندب وهو فى الصحيحين ( من يُسمّع يُسمّع الله وبه ، ومن يراءى يُراءى الله به ) وبعد نسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق إنه ولى ذلك والقادر عليه ؛
Comments