U3F1ZWV6ZTE3NDMwODE4MzA4MTc5X0ZyZWUxMDk5Njg2NzQ0NjUyNQ==
أبحث فى جوجل
أبحث فى جوجل
إعلان

أبو حنيفة النعمان الإمام الشهيد 3( ملخص كتاب أئمة الفقه التسعة لعبد الرحمن الشرقاوى )

الداء والدواء
Home



ولد الإمام أبو حنيفة فى عصر ملئ بالتطرفات فهو ذلك العصر الباهر من الفتوحات  والثراء الفكرى .. عصر الأئمة العظام : محمد الباقر وزيد بن على وجعفر الصادق ومالك بن أنس والليث بن سعد .. وهو فى الوقت نفسه عصر الصعاليك الكبار ، والمنافقين المزيفين وكان الإمام عارفاً بأحوال الحياة ، مستوعباً كل ثقافة من سبقوه ومن عاصروه ، خبيراً بالرجال شديداً على أهل الباطل ، مرير السخرية بالمزيفين ، لاذعاً مع المنافقين من متعاطى الفقه والعلم والثقافة فى عصره . وكان للإمام إقتحاماته الفكرية الجسور ، ذلك أنه كان يدعو إلى الأخذ بالرأى لا يبالى فى رأيه بأحد ، ولقد إختلفت الأراء فى تقديره حتى زعموا أنه أُوتى الحكمة كلها بينما إتهمه البعض الأخر بالزندقة والمروق عن الدين . وُلد أبو حنيفة النعمان بالكوفة  سنة 80 هـ من أسرة فارسية ، وسُمى النعمان تيمناً بأحد ملوك الفرس . ومن أجل ذلك كبر على بعض المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربى الأصل . وشهد أبو حنيفة فى طفولته فظائع الحجاج والى العراق وبطشه بكل من يعارض الأمويين حتى الفقهاء الإجلّاء ، فدخل فى نفسه منذ صباه عزوف عن الأمويين وإستنكار لإستبدادهم ثم إنه ورث عن أبيه حب وإجلال لآل البيت .. عمل مع أبوه فى التجاره منذ صباه وأخذ يختلف إلى السوق ويحاور التجار حتى لفت نظر أحد الفقهاء الذى نصحه بالإختلاف إلى العلماء وقال له عليك بالنظر فى العلم ومجالسة العلماء فإنى أرى فيك يقظة وفطنة ، ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى نفسه للعلم وأتصل بالعلماء ، وأنطلق الفتى الأسمر الطويل النحيل بحُلٍّة فاخرة يسبقه عطره يرتاد حلقات العلماء فى مسجد الكوفة .. ثم مضى ينشُد العلم فى حلقات البصرة وأنتهى به المطاف إلى الإستقرار فى حلقات الفقه فى الكوفة لمواجهة الأقضية الحديثة التى أُستحدثت فى عصره ، ولدراسة طرائق إستباط الأحكام . وكان أبوه قد مات وترك له بالكوفة متجراً كبيراً للحرير يدر عليه ربحاً ضخماً ، فرأى أبو حنيفة أن يُشرك معه تاجراً آخر ليكون لديه من الوقت ما يكفى لطلب العلم والفقه فى الدين . ولما مات شيخ حلقته وأبو حنيفة فى الأربعين أصبح أبو حنيفة شيخاً للحلقة ثم إنه قد قسم وقته بين التجارة والعلم وأفادته التجارة فى الفقه ووضع أصول التعامل التجارى على أساس وطيد من الدين وكان أبو بكر هو مثله الأعلى فى التجارة : حسن التعامل والتقوى والربح المعقول الذى يدفع شٍُبهة الربا ، ولما باع شريكه ثوباً ولم يوضح عيباً كان بالثوب ما أنفك يبحث عن المشترى ولما لم يجده تصدق بثمن الثوب كله وفض التجارة مع شريكه ، وكان أبو حنيفة يربح من تجارته مالاً كثيراً .. وكان لا يكنز المال فهو ينفق أمواله على الفقراء من أصدقائه وتلاميذه . . يحتفظ بما يكفيه النفقه عام ويوزع الباقى على الفقراء والمعسرين . وكان الأمام واسع الأفق مع المخطئين فقد كان له جار يسكر بالليل ويرفع عقيرته بالغناء : أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر ، وكان صوت الجار يفسد الليل على أبى حنيفة حتى إذا كانت ليلة سكت فيها صوت الجار وعرف أبو حنيفة أنه سُجن فذهب أليه وما زال مع الحارس حتى أطلق سراحه ثم قال لهذا الجار : هل أضعناك ؟ فقال الرجل : بل حفظتنى رعاك الله ، ثم أنه أصبح فقيهاً بعد ذلك بعد أن لزم حلقات العلماء . وكان أبو حنيفة شديد التواضع كثير الصمت يقتصد فى الكلام لا يقول إلا إذا سُئل ، وإذا أغلظ عليه أحد أثناء الجدال صبر عليه وإذا جاءته إمرأة تستفيه قام من الحلقة وأسدل دونها ستاراً ليحفظها من عيون الرجال وأجابها عما تسأل ، ونبع هذا التقدير الكبير للمرأة من حبه  العميق  لأمه وحرصه الدائم على أن يرضيها ، ولقد كان  فى حرصه على إرضاء أمه يحملها على دابة ويسير بها الأميال لتصلى خلف أحد الفقهاء يرى هو فى نفسه أن أبا حنيفة أفضل منه ، لأن الأم كانت تعتقد بفضل ذلك الفقيه ، وكانت الأم لا ترضى بفتوى إبنها أحياناً ، فتأمره أن يحملها إلى أحد الوعاظ ، فيقودها إليه عن طيب خاطر ، ولقد قال لها الواعظ يوماً : كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفه ، وقاده إجتهاده وفهمه الواعى وإتباعه اليقظ للسنة أن الأسلام يبيح للمرأة حق تولى كل الوظائف العامة بلا إستثناء حتى القضاء .. وكان أبو حنيفة حليماً مع السفهاء والمتعصبين حتى لقد ظل أحد السفهاء يشتمه فلا يلتفت إليه إلى أن وصل أبو حنيفة إلى داره فألتفت إليه وقال له : هذه دارى فأتمم كلامك حتى لا يبقى عندك شئ أو يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل دارى .
كان خصوم أبى حنيفة صنفين : بعض الفقهاء ممن وجدوا إنصراف الناس عن حلقاتهم إلى حلقة أبى حنيفة وحكام ذلك الزمان . أما أعداء أبى حنيفة من الفقهاء فقد كان على رؤسهم إبن أبى ليلى وتابعة شبرمة وهم من منافقى الدولة الأموية ثم بعدها الدولة العباسية ، وقد زينوا للناس التقشف لكى لا يحاسبوا الحكام على ثرائهم الفاحش ، ورغم إستقلال أبى حنيفة عن الحكام لثرائه وسعة عيشه إلا أن ميله لآل البيت قد وأغر عليه صدور الأمويين والعباسين على حدٍ سواء وكان ينتقد أخطاء إبن أبى ليلى نقداً أوغر صدر الرجل فشكاه للمنصور والذى أصدر أمراً يمنع أبى حنيفة من الفتوى ومن التعليق على أحكام القضاء حتى إذا حتى إذا جاءه رجل يستفتيه إمتنع عن الفتوى إلا أن يأذن الخليفة ، فأذن له وعاد يفتى الناس ثانية . وأراد الخليفة يوماً أن يكتب عقداً فأرسل إلى أبى حنيفة فأملى العقد من فوره فأزرى الفقهاء من بطانة الخليفة بما صنعه حسداً من عند أنفسهم فزجرهم وصرّح أن أبا حنيفة هو أفقه الجميع وإن كان ليكره مواقفه وأرائه . ولما أراد الخليفة أن يتزوج أراد أن يحتكم إلى فقيه فرفضت زوجته إلاّ أن يحتكم إلى أبى حنيفة فلما حضر أفتاه بعدم الزواج قائلاً : إنما أحل الله هذا لأهل العدل ، فمن لم يعدل فواحده فينبغى علينا أن نتأدب بأداب الله ونتعظ بمواعظه ، وضاق الخليفة بفتواه لكنه أخذ بها ، ولما رجع أبو حنيفة إلى داره أرسلت إليه زوجة المنصور هدايا فاخرة فردها قائلاً : إنما فعل هذا لخدمة دينه .
كان أبو حنيفة لايقف عند النصوص ، وإنما يبحث فى دلالاتها ، ويحاول أن يواجه بالأحكام ما يقع من أحداث وما يُتوقع حدوثه من أقضية . وكان يناظر الفقهاء ببديهة حاضرة ، يُقلّب الرأى على وجوهه ويستقرئ ويستنبط ويُحسن الخلوص إلى الغاية والخلاص من المأزق وهو مع ذلك يقول : ربما كان ماقلته خطأ كله ، لا الصواب كله ، وكم من مرة خرج من المأزق بسرعة بديهته وسعة حيلته وقوة حجته ولكنه لم يستطع أن يفلت من مصائد أعدائه من المرتزقة فى بلاط الأمراء .
كانت مواقفه فى تأييد آل البيت تؤجج غضب الحكام عليه ، فلقد أعلن أن العلويين أولى بالحكم من العباسيين وجاهر بالإنحياز إلى العلويين ، ومن قبلها أيد ثورة الأمام زيد بن على زين العابدين أيام الحكم الأموى وسمى خروجه جهاداً ولولا ودائع أراد أن يسلّمها للناس كان سيخرج مع الإمام زيد ، ولم يجد إلا ماله يجاهد به فأرسل إليه مالاً كثيراً يمد به جيشه ويقويه . ثم إنه قد أيّد العباسيين أول ولايتهم ولكن لمّا كان منهم مثل أسلافهم من الأمويين حيث بطشهم بمعارضيهم ومصادرة حرية الرأى والتنكيل بالعلويين فقد عارضهم وإنحاز للعلويين ، ولما كانت ثورة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن على أعلن أبو حنيفة تأييده للثورة ، ثم إنه بكى مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور فى إخماد الثورة والقضاء على قائديها وفتك بأهل المدينة الذين أيدوا الثورة وكان عبد الله بن الحسن شيخ أبى حنيفة والد محمد النفس الزكية وإبراهيم فى سجن المنصور يُعذّب حتى الموت .
وأما أراءه التى أشعلت سخط الحاكم وحاشيته عليه فهى تلك التى إستنبطها بالقياس حتى لقد أتهمه بعض الفقهاء من خصومه بأنه يُفضّل القياس على الحديث والحق غير هذا ، حيث أن الظاهرة التى كانت فى عصره وهى وضع الأحاديث لخدمة أغراض الدولة جعلت أبو حنيفة يطلب النجاة بدينه فوقف أبو حنيفة من الحديث موقف إستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق وهو تحرى الرواة وتحرى معانى الأحاديث ورفض منها ما يشك فى رواتها فى صدقهم وتقواهم أوما يخالف نصاً قرأنياً أوسنة مشهورة أو مقصداً واضحاً من مقاصد الشريعة وقد فحص الإمام أبو حنيفة الأحاديث الموجودة فى عصره فلم يصح منها إلا القليل فى نظره وذهب إلى أن القياس الصحيح يحقق مقاصد الشريعة وهو خير من الإعتماد على أحاديث غير صحيحة .. وللقياس ضوابط هى تحقيق المصلحة بما لا يتنافى مع الحلال والحرام وهذا هو هدف الشريعة وكانت طريقة أبى حنيفة فى القياس هى إستنباط الأحكام الجديدة قياساً على أحكام ثابتة فى القرءان الكريم أو السنة الصحيحة أو أقوال الصحابة السابقين ولقد كان عبد الله بن مسعود يفضل أن يفتى بإجتهاده بدلاً من أن يسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يرى عين اليقين أنه حديث صحيح ، وما كان أبو حنيفة يبتدع فى قياسه كما رماه خصومه ، وما كان يُهدر السنة كما حاول إبن إبى ليلة وتابعة شبرمة أن يصورا كيدا له .
ولقد قاده إجتهاده إلى العديد من الأراء الحرة فقد أفتى بعدم جواز الحجر على أحد ، لأن فى الحجر إهداراً للأدمية وسحقاً للإرادة . وأفتى بكل ما ييسر الدين والحياة على الإنسان فذهب إلى أن الشك لا يلغى اليقين وضرب لذلك مثلاً بأن من توضأ ثم شك فى أن حدثاً نقض وضوءه ، ظل على وضوئه ، فشكه لا يضيع يقينه ، وأفتى بأن قراءة الإمام فى الصلاة تغنى عن قراءة المصلين خلفه فتصح صلاتهم دون قراءتهم إكتفاء بقراءة الإمام وحده .
دعا إلى ضرورة العفو عن المخطئ إن لم تثبت عليه أدلة الإدانة ثبوتاً قطعياً لا يشوبه الشك أو الظن ، إعتماداً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرء بدرء الحدود قدر المستطاع .. فالحدود تُدرأ بالشبهات فإن كان للمذنب مخرج أخلى سبيله ، وأن يُخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة . وهو يطالب الناس بأن يسألوا فى العلم بلا حرج ، على أن يحسنوا السؤال .. وكان يقول حسن السؤال نصف العلم . وكان واثقاً من مكانته العلمية رغم تواضعه الشديد وقد حاور الإمام مالك فى أمور أختلفا عليها فلما خرج مالك من المناظرة وقد عرق مالك عرقاً شديداً قال لصديقه الليث بن سعد : إنه لفقيه يا مصرى !
قام فقه الإمام أبى حنيفة على إحترام حرية الإرادة ذلك أن أفدح ضرر يصيب الإنسان هو تقييد حريته أو مصادرتها على أن هذه الحرية يجب أن تكون محكومة بالشرع ، وأن سؤ إستخدام الحرية أخف ضرر من تقييدها ، فإساءة الفتاة البالغة فى إختيار زوجها أخف ضرراً من قهرها زواج من لا تريده ، وسوء إستخدام السفيه لماله ، يمكن علاجه بإبطال التصرفات الضارة به أما الحجر على حريته فهو إهدار لإنسانيته ، وهو ضرر لا يصلحه شئ !! وعلى أية حال فأذى الحجر أخطر من أذى ضياع المال .. فالحجر إيذاء للنفس وإهدار للإرادة ، وإعتداء على إنسانية الإنسان . وأبو حنيفة لا يجيز الوقف إلا للمساجد لأن الوقف أو الحبس يقيد حرية المالك فى التصرف ولا يجوز للقاضى أن يقيد حرية المالك إلا إذا أنتقلت هذه الحرية إلى إيذاء الغير ولما جاءه رجل يشكو جاراً له قد حفر بئراً بجوار جداره مما يؤثر فى بيته طلب أبو حنيفة من الشاكى أن يُحدّث جاره ليردم البئر ، فقال الرجل إنه قد فعل ولكن الجار أمتنع ، قال أبو حنيفة للشاكى : أحفر فى دارك بالوعة فى مقابل بئره ، فأندفع ماء البئر إلى البالوعة فاضطر الجار أن يردم البئر ويحفرها فى مكان بعيد .
وقد أغنت أراؤه فى الفقه وجدان الناس وأيقظت ضمائرهم وحركتهم للدفاع عن حريّاتهم فى التصرفات متمسكين فى تصرفاتهم للحرية مبادئ الدين وأصوله وكانت هذه الأراء تناقض عصر أبى حنيفة الذى يقوم نظام الحكم فيه على تكفير الخصوم وإهدار دمائهم وتقييد حريّاتهم وإطلاق يد الحاكم وتمكين ذوى السلطة من الضعفاء من أجل ذلك أتهمه خصومه من الفقهاء وأصحاب المناصب بالخروج عن الإسلام .
ثم إنه قد أفتى بتحريم الخروج لقتال المسلمين والفتك بهم وبهذا صرف قواد الجيش فى عصره عن حرب العلويين وخصوم الحكام ومعارضى آرائهم حتى إن الحسن بن قحطبة أحد قواد المنصور جاء أبو حنيفة يسأله هل يتوب الله علىّ فأجابه إن تاب وندم وعزم على ألا يقتل أحد من المسلمين . ولما علم المنصور وقد إمتنع الحسن عن إخماد ثورة العلويين هم أن يقتله إلا أن أخوه إستشفع له عند المنصور مبرراً أن به جنون فسأل المنصور عمن يخالط القائد المتمرد فقال أخوه أبو حنيفة فأسرّها الخليفة لأبو حنيفة على أن خصوم أبو حنيفة قد أوغروا صدر الخليفة للفتك بأبى حنيفة وإتهموه بإثارة الفتنة وتثبيط قوّاد الجيش وتأليب العامة على ولى الأمر وتكوين حلقة من الفقهاء وكلهم يدعوا ألى الثورة على الخليفة .
ورفض أبو حنيفة منصب قاضى القضاة مرتين مرة فى عهد الأمويين فسُجن وعُذّب ولما قامت الثورة ضد الخليفة الأموى إحتجاجاً على ما يحدث لإبى حنيفة أُطلق سراحه ، ولما خرج من الكوفة موطنه الأصلى وأقام بالحجاز حتى سقطت الدولة الأموية ، ثم إن العباسيون قد عرضوا عليه منصب قاضى القضاة ثانيةً فأبى إلا أن يتفرغ للعلم . وكان الخليفة المنصور بعد أن فرغ من بناء بغداد وأقام فيها حرص على أن يجعل أكبر فقهاء العراق قاضى القضاة فيها وكان أبو حنيفة قد أصبح أكبر فقهاء العراق حتى أسماه ومريدوه الإمام الأعظم . وصممّ الإمام على الرفض ولم يكن لبطانة الخليفة أن تترك أبى حنيفة يمضى سالماً فأنتهزوا خروج أهل الموصل للثورة على الخليفة وقد أراد الخليفة البطش بهم إلا أنهم طلبوا من الخليفة أن يأخذوا رأى أبى حنيفة وهم يعرفون أن رأيه لن يقابل هوى الخليفة وقد كان حيث أفتى بأنه لا يحل للخليفة الفتك بأرواحهم ولا يحل له أموالهم فضاق الخليفة وأمره أن ينصرف إلا أن دسائس إبن أبى ليلى وتابعه شبرمه ووزيره الأول لم تنقضى بعد فقد عزموا هذه المرة على التخلص منه حتى إن أبو حنيفة قد عاد إلى بيته وهو يقول لنفسه : إن إبن أبى ليلى يستحل منى ما لا أستحله من حيوان . وكان خطتهم هذه المرة أن يطلبوا من الخليفة أن يعرض على أبى حنيفة منصب قاضى القضاة أوالمفتى العام للدولة بما أنه ينتقد أرائهم وإن رفض فهو يرفض واجب دينى وشرعى ثم إن الخليفة أرسل إليه الهدايا وعرض عليه المناصب وهو يرفض إلى أن سجنه الخليفة وظلّ يُعذّب فى سجنه  وكان أنذاك شيخ فى السبعين من عمره اثقلته المعارك والدسائس والهموم ومكابدة الفقه والعلم ، هو ذا يُضرب ويُضرب بالسياط فى قبو سجن مظلم ، ورسل الخليفة يعرضون عليه هدايا الخليفة ومنصب القضاء والإفتاء وهو يرفض فيُعاد إلى السجن ليُعذب من جديد، فخاف الخليفة من هلاكه وثورة الناس عليه فدسّوا له السم وخرج يكابد سكرات الموت ووصى بأن يُدفن فى أرض لم يغصبها الخليفة أو أحد من رجاله ؛ أرض طيّبة . وهكذا مات فارس الرأى الذى عُرف فى السنوات الأخيرة من حياته بإسم الإمام الأعظم ، وشيّعه خمسون ألفاً من أهل العراق وأُضطر الخليفة أن يصلى عليه ، فصلى عليه وهو يهمهم : من يعذرنى من أبى حنيفة حياً و ميتاً .
وهكذا مضى بطل الفكر الشجاع شهيد الحرية فى محنة من العذاب لم يعرفها أحد من الفقهاء من بعده حتى كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة فى عصر كذلك العصر ، عصر تحكمه الدسائس وسياط الجلادين على الرغم من روعة الفتوحات العسكرية وإنتصارات العقل الإنسانى .



Comments
NameEmailMessage