حين أصيبت الأمة بهذا المرض أصبحت غثاً من البشر أصبحت غثاءاً يعيش على مجرى الحياة الإنسانية كدول أو دويلات متناثرة متضاربة متحاربة تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة ونعرات قومية جاهلية وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية وتحكم الأمة بسبب هذا المرض قوانين الغرب العلمانية وتدور بالأمة الدوامات الفكرية والثقافية والسياسية والعسكرية والإقتصادية والتعليمية ؛ وحين أصيبت الأمة بهذا المرض ذلت بعد عزة وجهلت بعد علم وضعفت بعد قوة وأصبحت فى ذيل القافلة البشرية بعد أن كانت بالإمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة وإقتدار وأصبحت الأمة مستعدة للذوبان فى بوتقات شرقية وغربية تصطدم إصطداماً مباشراً مع منهج الأمة الأصيل ألا وهو كتاب الله وهدى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وصدق فيها قول الصادق الذى لا ينطق عن الهوى والحديث فى الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدرى ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب وفى لفظ حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قالوا يا رسول الله :اليهود والنصارى ، قال : فمن؟ )
ما هو الوهن
الوهن لغة الضعف والجبن والخوف وقد فسر لنا معنى الوهن من اتاه الله جوامع الكلم فقال كما فى الحديث الصحيح من مجموع طرقه من حديث ثوبان رضى الله عنه والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أومن قلة نحن يا رسول الله قال لا ولكنكم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم ويقذف فى قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت ) وبهذا نستطيع أن نرجع كل الداءات إلى هذا الداء الخطير وهذا المرض العضال حب الدنيا وكراهية الموت أنه الوهن فلقد تهالكت الأمةعلى الدنيا وتصارعت إلا ما رحم ربى من افراد وتنازعت تنازعاً لا تاريخ له فى هذه الامة ولقد سادت الدنيا فى القرون الأول حين امتلئت القلوب بالأيمان والتوحيد والعلم والخُلق بل وزرعوا الدنيا بالأعمال الصالحة وعرفوا أن الدنيا إنما هى طريق إما إلى الجنة أو إلى النار عرفوا أن الليالى متجر الإنسان والأيام سوق فباعوا أنفسهم بجنة الرضوان ؛ ولقد أضاءت الأمة ثلثى الكرةالأرضية فى خمسون عاماً فقط وسجّلت أعظم حضارة عرفتها البشرية ففى الوقت الذى كان الظلام يُحيط بالغرب من اركانه الأربع كانت أمة الحبيب تشع نوراً يهدى الحيارى والتائهين ولقد عرفت الأندلس أعظم حضارة فى وقت لم يعرف فيه الغرب معنى الحضارة ، ولكن سرعان ما تركت الأمة هذا النور شيئاً فشيئا حتى أصابها ما اصابها وصدق فيها قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم . تكالبت على الدنيا ونسيت لقاء الله حتى أصبح الأخ لا يتورع عن قتل اخيه من أجل عرض زائل من أعراض الدنيا ؛ بل لا يتورع أن يتخلع عن دينه من أجل الدنيا والحديث فى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً ويُمسى مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا . أنه الوهن الذى جعل الأمة قسعة مستباحة لأهل الأرض جميعاً طمعاً فيما حباها الله من موارد فقد طمع فيه الضعيف قبل القوى والذليل قبل العزيز والقاص قبل الدان ولا حول ولا قوة إلا بالله . والغثاء هو الرغوة التى على سطح الماء والتى تنشا فى الموج لا تؤثر فى الموج ولا تُحركه ولا توقف شئ يمشى على سطح الماء لا وزن لهذا الغثاء ولا قيمة ولا تأثير وهكذا الأمة أصبحت الأن .وكما ذكرنا لا نعلم زماناً تكالب فيه أهل الدنيا على الدنيا مثل هذا الزمان رغم أخبار الموت التى تتردد فى كل وقت وحين ، فلا تكاد تخلو نشرة أخبار من أخبار الموت والقتلى ومع ذلك وكأن الناس يظنون بل يتيقنون أن الموت لن يباغتهم كما باغت غيرهم ؛ أرحامٌ تدفع وأرض تبلع وقومٌ ياتون وأخرون يرحلون فى كل لحظة ومع ذلك معظم الناس فى غفلة مثلهم كمثل أمواج البحر المتلاطمة كلما إنكسرت على الشاطئ موجة تبعتها موجة وموجة وموجة ؛ مثلهم كمثل الماء المتدفق فالماء الذى وقعت عليه عينك قبل لحظة يختلف عن الماء الذى تراه عينك اللحظة ؛ وسيأتى اليوم الذى تنقضى فيه نجوم السماء وتجف فيه عيون الأبار وتتوقف فيه مياه البحار والمحيطات والأنهار وينتهى الوجود الإنسانى كله ليقوم الخلق جميعهم بالوقوف بين يدى الخالق للحساب والجزاء (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) إبراهيم اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) الحديد ، فما قيمة متاع إذا كانت أخرته النار وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)الكهف . سأل سليمان بن عبد الملك أبو حازم الزاهد العابد الورع : يا أبا حازم مالنا نحب الدنيا ونكره الموت فقال أبو حازم لأنكم عمّرتم دنياكم و خرّبتم أُخراكم فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب ، قال صدقت ، قال فما لنا عند الله يا أبا حازم ن قال اعرض نفسك على كتاب الله قال أين اجد ذلك قال فى قوله تعالى ( إن الأبرار لفى نعيم ..) قال فاين رحمة الله ، قال ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) فقال سليمان بن عبد الملك فكيف العرض على الله فقال أبو حازم فأما العبد المحسن فيرجع إلى اهله وأحبابه وأما العبد المُسئ فيرجع إلى سيده ومولاه . وقيل لحاتم الأصم بما حققت الزهد فى الدنيا قال بأربعة أشياء : علمت أن رزقى لا يأخذه غيرى فأطمان قلبى وعلمت بأن عملى لا يتقنه غيرى فأنشغلت به وعلمت أن الموت ينتظرنى فأعددت الزاد للقاء الله وعلمت بأن الله مُطّلعٌ على فأستحييت أن يرانى على معصية . وقيل لإبراهيم بن أدهم بما حققت الزهد فى الدنيا قال بثلاثة أشياء رأيت القبر موحشاً ولا أجد مؤنساً ورأيت الطريق طويلا ولم احمل الزاد ورأيت جبار السموات والأرض قاضياً يوم القيامة وليس لى حجة ولا أجد من يدافع عنى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء ،
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا ، مستوحشاً قلق الأحشاءِ حيرانا
والنارُ تلهبُ من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاةِ وربُ العرش غضبانا
أقرأ كتابك يا عبدٍ على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان
فلمّا قرأت ولم تُنكر قِرأته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليلُ خذوه يا ملائكتى وأمضوا بعبدٍ عصى للنار عطشاناً
المشركون غداً فى النار يُمتهنوا والموحدون بدار الخلد سُكانا
. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم والحديث فى الترمذى بسندٍ حسن ( والله لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرُ منها شربة ماء ) يقول تعالى إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) محمد ،يقول بن عمر عش فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل إذ أصبحت لا تنتظر المساء وإذا أمسيت لا تنتظر الصباح ؛ وليكن هذا مبدؤك حتى تتخلص من الوهن خذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لمماتك ومن عافيتك لسقمك وأعلم أنك مُفارق هذه الدنيا فأعمل لما انت عليه راحل ؛ والغريب لابد أن يعود إلى وطنه وعابر السبيل لابد أن يعود إلى أرضه ؛ ستعود حتماً إلى الله نهايتك إبتداءاص ثم نهاية الدنيا إنتهاءاً ، ستعود إلى الله وستترك كل شئ ستترك كُرسيك الذى لو كان قد دام لغيرك ما كان وصل إليك وستترك مالك لورثتك وستُحاسب أنت عليه وستترك مكانتك ووجاهتك ولن يبقى منك إلا ما تركت من بصمات خير وذكر جميل طيب وإلا فكم من أناس رحلوا يلعنهم خلق الله ولا ذكر لهم ولا كرامة وكم من أناس رحلوا من مئات السنين وما زالوا معنا يُذكرون بالخير ؛ ما زال الحبيب معنا بهديه وعلمه وسنته لا يُذكر إلا وتدمع القلوب قبل العيون ؛ لا زال معنا أصحابه ما ذكرهم مؤمناً إلا ورق قلبه وخشع فؤاده ؛ لا زال معنا أهل العلم والصلاح تدعو لهم الدنيا بالخير ؛ الكل رحل العصاة والطائعون بل الأنبياء والمرسلون .
( كا نفس ذائقة الموت ..) كل باكٍ فسيُبكى ، وكل مذكورٍ فسينسى ، وكل مذخورٍ فسيفنى ، ليس غير الله يبقى ، من علا فالله أعلى .
دع عنك ما قد فات فى زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يامذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل اثبتاه وانت لاه تلعب
والروح منك وديعة اودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التى تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما انفاسنا بينهما تعد وتحسب
قال صلى الله عليه وسلم كما فى الصحيحين (من احب لقاء الله احب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالت عائشه يارسول الله اكراهية الموت ؟ كلنا يكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك ياعائشه ولكن المؤمن إذا بشر اى عند الموت برحمة الله ورضوانه وجنته احب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر أى على فراش الموت بسخط الله وعذابه كره لقاء الله فكره الله لقاءه.
وكان على زبن العابدين رضى الله عنه بن الحسين بن على رضى الله عنهم جميعاً يطوف حول البيت فإجتمع الناس حوله من أهل الفضل والإيمان ويُقّر الله أن يطوف فى الوقت ذاته أمير المؤمنين فيرى الناس قد إنشغلت عنه وإنصرفت عنه وإلتفوا حول رجل من آحاد المسلمين فقال أمير المؤمنين من هذا الذى الذى إلتف حوله الناس وإنشغلوا به عنى فقالوا هذا إبن بنت رسول الله قال من قالوا على زين العابدين بن الحسين ين على فأقبل عليه أمير المؤمنين وقابله وصافحه وقال له يا على ألك حاجة قال جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين إنى لأستحى أن أطلب من غير الله وأنا فى بيت الله فأستحى أمير المؤمنين وطلبه حتى خرج خارج بيت الله الحرام فقال يا على ها أنت قد خرجت من بيت الله عز وجل ألك حاجة فقال له يا أمير المؤمنين أتريد أن تقضى لى حاجة من حوائج الدنيا أم من حوائج الأخرة فقال أمير المؤمنين بل من حوائج الأخرة فأنا لا أملك لنفسى من حوائج الأخرة شيئاً فبكى على زين العابدين وقال يا أمير المؤمنين والله ما طلبت الدنيا ممن يملكها فكيف أطلبها ممن لا يملكها . ولما مرض هارون الرشيد مرض الموت قال أحملونى فقالوا إلى أين قال أريد أن أرى قبرى ؛ هارون الرشيد الذى كان يقول للسحابة فى كبد السماء أيتها السحابة فى أى مكانٍ شئتى فأمطرى فسوف يُحمل إلينا خراجك إن شاء الله فحين مرض وعرف أنه المرض الأخير فقال ( ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه ) فقال إحملونى إلى قبرى فحملوه إلى قبره فنظر إليه وبكى ثم رفع رأسه إلى السماء وقال يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه .
كلمة أخيرة
والله ما ذلت الامة وهانت بعد عزة وما ضعفت بعد قوة إلا حين أصيبت بالوهن حب الدنيا وكراهية الموت ، والموت واحد وإن تعددت أسبابه فمن لم يمت بالسيف مات بغيره وهو هو ذا خالد بن الوليد الذى شهد مائة زحف ( معركة ) يقول ما فى جسدى موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم وهأنذا أموتُ على فراشى رغم أنفى فلا نامت أعين الجبناء ؛ حين أصيبت الأمة بالوهن وتعلقت بالدنيا أُمتهنت كرامتها ولا أقول نترك الدنيا ونذمها على الأطلاق فوالله ما ذمّ الله الدنيا لمكانها ولا لزمانها ففيها الليل والنهار وهما ذكرى للمعتبرين وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) الفرقان ،وفيها الأنهار والبحيرات ونعم الله التى لا تعد ولا تحصى بل جعل الله هذا كله للتدبر والتذكر والتعقل والشكر وإنما الدنيا المذمومة هى التى يُرتكب فيها معاصى الله فأعلم عبد الله أن الدنيا ما هى إلا ممر إلى مقر ووسيلة إلى غاية فلا تجعلها هى المنتهى فتكون كمن قال الله فيهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) الروم ، وكن فطناً عاقلاً فالدنيا دار صدق لمن صدقها ودار غنى لمن تزوّد فيها لأخرته فهى متجر أولياء الله ربحوا فيها الرحمة وإكتسبوا فيها الجنة
إن لله عباداً فُطناً طلقوا الدنيا وخافو الفتن نظروا فيها فلمّا علموا أنها ليست لأحد وطنا جعلوها لجة وإتخذوا فيها صالح الأعمال سُفنا . وفقنا الله وإياكم للتخلص من الوهن ، والله المستعان ؛
Comments