إن كتاب تلبيس إبليس للإمام بن الجوزى من الكتب النافعة التى لا
يستغنى عنها طالب العلم حتى يصفوا قلبه من مكائد إبليس بالإستعانة بالله ، فمعرفة
طرق الشيطان ومداخله على جميع أصناف الناس أمر هام لمعرفة قدوم الخطر حين تشعر
بالإمان حيث أن مكائد أبليس دقيقة جداً لا ينتبه لها إلا من أخذ الله بيده وصفّى قليه ونقّاه ،
والإمام بن الجوزى يعرض لنا فى هذا الكتاب ما قد خفى علينا من مكائد إبليس على جلِّ
أصناف الناس ، ولست بصدد أن أقدم لكتاب هو غنى عن تقديم أمثالى ولكن أحببت أن أنوه
إلى أهمية هذا الكتاب لمن يريد أن يكون على علم بمكائد إبليس وحبائله الشيطانية ،
فلا ينفك عن طلب العون والإستعاذه بالله من ذلك العدو اللدود سلمنا الله منه ومن
شره ،
وبعد فقد أخترت مقتطفات من الكتاب لنقرأها سوياً من تلبس أبليس على
بعض أصناف الناس :
ذكر
تلبيسه عَلَى القراء
فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراآت الشاذة وتحصيلها فيفني
أكثر عمره فِي جمعها وتصنيفها والأقراء بِهَا ويشغله ذلك عَنْ معرفة الفرائض
والواجبات فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للأقراء ولا يعرف مَا يفسد الصلاة وربما
حمله حب التصدر حتى لا يرى بعين الجهل عَلَى أن يجلس بين يدي العلماء ويأخذ عنهم
العلم1 ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به
ثم الإقبال عَلَى مَا يصلح النفس ويطهر أخلاقها ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع
ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم قَالَ الْحَسَن البصري أنزل القرآن
ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا يعني أنهم اقتصروا عَلَى التلاوة وتركوا العمل
به ومن ذلك أن أحدهم يقرأ فِي محرابه بالشاذ ويترك المتواتر المشهور والصحيح عند
العلماء أن الصلاة لا تصح بهذا الشاذ وإنما مقصود هَذَا إظهار الغريب لاستجلاب مدح
الناس وإقبالهم عَلَيْهِ وعنده أنه متشاغل بالقرآن ومنهم من يجمع القراآت فيقول ملك
مالك ملاك وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقرآن عَنْ نظمه .
ذكر
تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء
قال
المصنف: كان الفقهاء فِي قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص
حتى قَالَ المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد عَلَى الكتب
المشهورة فِي الحديث كسنن أبي داود ونحوها ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا وصار أحدهم
يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا وربما اعتمد عَلَى قياس
يعارضه حديث صَحِيح ولا يعلم لقلة التفاته إِلَى معرفة النقل وإنما الفقه استخراج
من الْكِتَاب والسنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه ومن القبيح تعليق حكم عَلَى حديث
لا يدري أصحيح هو أم لا ولقد كانت معرفة هَذَا تصعب ويحتاج الإنسان إِلَى السفر
الطويل والتعب الكثير حتى تعرف ذلك فصنفت الكتب وتقررت السنن وعرف الصحيح من
السقيم ولكن غلب عَلَى المتأخرين الكسل بالمرة عَنْ أن يطالعوا علم الحديث حتى إني
رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يَقُول فِي تصنيفه عَنْ ألفاظ فِي الصحاح لا يجوز أن
يكون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا ورأيته يحتج
فِي مسألة فيقول دليلنا مَا روى بعضهم أن رَسُول اللَّهِ قَالَ كذا ويجعل الجواب
عَنْ حديث صَحِيح قد احتج به خصمه أن يَقُول هَذَا الحديث لا يعرف وهذا كله جناية
عَلَى الإسلام.
ذكر
تلبيسه عَلَى أهل اللغة والأدب
قال
المصنف: قد لبس عَلَى جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي
هي فرض عين عَنْ معرفة مَا يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب
النفوس وصلاح القلوب وبما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه فأذهبوا الزمان
كله فِي علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها فَإِن الانسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن
يترقى إِلَى العمل بِهَا إذ هي مرادة لغيرها فترى الانسان منهم لا يكاد يعرف من
آداب الشريعة إلا القليل ولا من الفقه ولا يلتفت إِلَى تزكيه نفسه وصلاح قلبه ومع
هَذَا ففيهم كبر عظيم وَقَدْ خيل لهم إبليس أنكم علماء الإسلام لأن النحو واللغة
من علوم الإسلام وبها يعرف معنى القرآن الْعَزِيز ولعمري أن هَذَا لا ينكر ولكن
معرفة مَا يلزم من النحو لإصلاح اللسان وما يحتاج إليه من اللغة فِي تفسير القرآن
والحديث أمر قريب وَهُوَ أمر لازم وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه وإنفاق الزمان
فِي تحصيل هَذَا الفاضل وليس بمهم مَعَ ترك المهم غلط وإيثاره عَلَى مَا هو أنفع
وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا ولكن العمر
قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل.
ذكر
تلبيس إبليس عَلَى الكاملين من العلماء
قال
المصنف: إن أقواما علت هممهم فحصلوا علوم الشرع من القرآن والحديث والفقه والأدب
وغير ذلك فأتاهم إبليس يخفي التلبيس فأراهم أنفسهم بعين عظيمة لما نالوا وأفادوا
غيرهم فمنهم من يستفزه لطول عنائه فِي الطلب فحسن لَهُ اللذات وقال لَهُ إِلَى متى
هَذَا التعب فأرح جوارحك من كلف التكاليف وافسح لنفسك من مشتهاها فان وقعت فِي زلة
فالعلم يدفع عنك العقوبة وأورد عَلَيْهِ فضل العلماء فان خذل هَذَا العبد وقبل
هَذَا التلبيس يهلك وان وفق فينبغي لَهُ أن يَقُول جوابك من ثَلاثَة أوجه أحدها
أنه إنما فضل العلماء بالعمل ولولا العمل به مَا كان لَهُ معنى وإذا لم أعمل به
كنت كمن لم يفهم المقصود به ويصير مثلي كمثل رجل جمع الطعام وأطعم الجياع ولم يأكل
فلم ينفعه ذلك من جوعه والثاني أن يعارضه بما ورد فِي ذم من لم يعمل بالعلم لقوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم
ينفعه اللَّه بعلمه" وحكايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رجل
يلقي فِي النار فتندلق أقتابه فيقول كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عَن المنكر
وآتيه وقول أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عنه ويل لمن يعلم مرة وويل لم علم ولم يعمل
سبع مرات والثالث أن يذكر لَهُ عقاب من هلك من العلماء التاركين لِلْعَمَل بالعلم
كإبليس وبلعام ويكفي فِي ذم العالم إذا لم يعمل قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَاراً} .
تلبيسه
على الناس بطول الأمل
قال
المصنف رحمه الله: كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حب الإسلام فلا يزال إبليس
يثبطه ويقول لا تعجل وتمهل في النظر فيسوفه حتى يموت على كفره وكذلك يسوف العاصي
بالتوبة فيجعل له غرضه من الشهوات ويمنيه الإنابة كما قال الشاعر:
لا
تعجل الذنب لما تشتهي ... وتأمل التوبة ما قابل
وكم
من عازم على الجد سوفه وكم ساع إلى فضيلة ثبطه فلربما عزم الفقيه على إعاده درسه
فقال استرح ساعة أو انتبه العابد في الليل يصلي فقال له عليك وقت ولا يزال يحبب
الكسل ويسوف العمل ويسند الأمر إلى طول الأمل فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم
والحزم تدارك الوقت وترك التسوف والاعراض عن الأمل فإن المخوف لا يؤمن والفوات لا
يبعث وسبب كل تقصير في خير أو ميل أن شر طول الأمل فان الإنسان لا يزال يحدث نفسه
بالنزوع عن الشر والاقبال على الخير إلا أنا يعد نفسه بذلك ولا ريب أنه من الأمل
أن يمشي بالنهار سار سيرا فاترا ومن أمل أن يصبح عمل في الليل عملا ضعيفا ومن صور
الموت عاجلا جد وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صل صلاة
مودع".
وقال
بعض السلف أنذركم سوف فإنها أكبر جنود إبليس ومثل العامل على الحزم والساكن لطول
الأمل كمل قوم في سفر فدخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس
متأهبا للرحيل وقال المفرط سأتأهب فربما أقمنا شهرا فضرب بون الرحيل في الحال
فاغتبط المحترز واغتبط الآسف المفرط فهذا مثل الناس في الدنيا مهم المستعد
المستيقظ فإذا جاء ملك الموت لم يندم ومنهم المغرور المسوف يتجرع مرير الندم وقت
الرحلة فإذا كان في الطبع حب التواني وطول الأمل ثم جاء إبليس يحث على العمل
بمقتضى ما في الطبع صعبت المجاهدة إلا أنه من أنتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن
عدوه لا يفتر عنه فإن افتر في الظاهر بطن له مكيدة وأقام له كمينا ونحن نسأل الله
عز وجل السلامة من كيد العدو وفتن الشيطان وشر النفوس والدنيا انه قريب مجيب جعلنا
الله من أولئك المؤمنين.
تلبيس إبليس
ابن الجوزى
Comments