U3F1ZWV6ZTE3NDMwODE4MzA4MTc5X0ZyZWUxMDk5Njg2NzQ0NjUyNQ==
أبحث فى جوجل
أبحث فى جوجل
إعلان

مختصر تفسيرة سورة البقرة




مختصر تفسيرة سورة البقرة للشيخ أبى بكر الجزائرى

مختصر تفسير السورة من أيسر التفاسير

الربع الأول

الأيات من 1 : 5
{ آلم } : هذه من الحروف المقطعة تكتب آلم . وتقرأ هكذا :
ألِفْ لام مِّيمْ . والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم « ن » ومنها الأحادية مثل ص . وق ، ون ، ومنها الثنائية مثل طه ، ويس ، وحم ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت فى تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وكونها من المتشابه الذى استأنثر الله تعالى بعلمه إلى الصواب ولذا يقال فيها : آلم : الله أعلم بمراده بذلك .
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين : الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر فى نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حم .
طس . ق . كهيعص وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة .
والثانية لما انكر المنكرون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدِّى لهم كأنها تقول لهم : ان هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا انتم مثله . ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو { الم ذلك الكتاب } . { الر تلك آيات الكتاب } { طس تلك آيات القرآن } كأنها تقول : إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا .
{ ذلِكَ الكِتبُ لاَ ريْبَ فيهِ هْدىً للمُتَّقِينَ }
شرح الكلمات :
{ ذلك } : هذا ، وانما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك . لما تفيده الإِشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن .
معنى الآية :
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحى الله وكتابه بحال ، وذلك لإعجازه ، وما يحمله من هدى ونور لأهل الايمان والتقوى يهتدون بهما الى سبيل السلام والسعادة والكمال .
الأية 6 ، 7
{ كفروا } : الكفر : لُغة التغطية والجحود ، وشرعاً التكذيب بالله وبما جاءت به رسلُه عنه كلا أو بعضا .
{ ختم الله } : طبع إذا الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى لا يعلم ما فيه ، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير .
{ الغشاوة } : الغطاء يغشَّى به ما يراد منع وصول الشىء إليه .
الأيات 8 ، 9 ، 10
{ فى قلوبهم مرض } : فى قلوبهم شك ونفاق والم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على أيديهم .
{ فزادهم الله مرضا } : شكاً ونفاقاً والماً وخوفاً حسب سنة الله فى أن السيئة لا تعقب إلاّ سيئة .
الأيات 11 ، 12 ، 13
{ الفساد فى الأرض } : الكفر وارتكاب المعاصى فيها .
{ الإِصلاح فى الأرض } : يكون بالإِيمان الصحيح والعمل الصالح ، وترك الشرك والمعاصى .
{ السفهاء } : جمع سفيه : خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير .
من هداية الآيات :
1- ذم الادعاء الكاذب وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين .
2- الإِصلاح فى الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله ، والافساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
3- العاملون بالفساد فى الأرض يبررون دائما إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد .
الأيات 14 ، 15 ، 16
{ شياطينهم } : الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من انسان أو جان والمراد بهم هنا رؤساؤهم فى الشر والفساد .
{ مستهزئون } : الاستهزاء : الاستخفاف والاستسخار بالمرء .
{ الطغيان } : مجاوزة الحد فى الأمر والاسراف فيه .
{ الْعَمَه } : للقلب كالعمى للبصر : عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلال { اشتروا } : استبدلوا بالهدى الضلالة اى تركوا الإيمان وأخذوا الكفر .
{ تجارتهم } : التجارة : دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه ، والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإِيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنى فى الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذُلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم .
الأيات من 17 : 20
{ صمٌ ، بكم عميٌ } : لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون .
{ الصيّب } : المطر .
{ الظلمات } : ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر .
{ الرعد } : الصوت القاصف يُسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر .
{ البرق } : ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر .
{ الصواعق } : جمع صاعقة : نار هائلة تنزل اثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء .
مثل هؤلاء المنافقين فيما يظهرون من الايمان مع ما هم مبطنون من الكفر كمثل من أوقد ناراً للاستضاءة بها فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون . لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي وبما يضمرون من الكفر اذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شىء حتى أنفسهم هذا المثل تضمنته الآية الأولى ( 17 ) وأما الآية الثانية ( 18 ) فهى إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره وذلك لتوغلهم فى الفساد فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الايمان بحال من الأحوال . واما الآية الثالثة والرابعة ( 19 ) ( 20 ) فهما تتضمنان مثلا آخر لهؤلاء المنافقين . وصورة المثل العجيبة والمنطقية على حالهم هى مَطر غزير فى ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف وهم فى وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعون صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا ، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون ، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا فى ضوئه واذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيراى خائفين ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم لأنه تعالى على كل شىء قدير هذه حال اولئك المنافقين والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد وبالحجج والبينات وهى كالبرق فى قوة الاضاءة ، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وازاحة الستار عنهم فيؤخذوا ، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا فى إيمانهم الظاهر . وإذا نزل بآيات فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل لأنهم لذلك أهل وهو على كل شىء قدير :
من هداية هذه الآيات ما يلى :
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعانى إلى الأذهان .
2- خيبة سعى أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم .
3- القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر .
4- شر الكفار المنافقون .
الأيتين 21 ، 22
{ الناس } : لفظ جمع لا مفرد له من لفظه ، واحده إنسان .
{ خلقكم } : أوجدكم من العدم بتقدير عظيم .
{ فراشا } : وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها .
{ بناءً } : مَبْنيّة للجلوس عليها والنوم فوقها .
هداية الآيتين
1- وجوب عبادة الله تعالى ، اذ هى عله الحياة كلها .
2- وجوب معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .
3- تحريم الشرك صغيره وكبيره ظاهره وخفيه .
الأيتين 23 ، 24
{ الريب } : الشك مع اضطراب النفس وقلقها .
{ عبدنا } : محمد صلى الله عليه وسلم .
{ من مثله } : مثل القرآن ومثل محمد فى أمّيته .
{ شهداءكم } : أنصاركم . وآلهتكم التى تدعون انها تشهد لكم عند الله وتشفع .
لما قرر تعالى فى الآية السابقة أصل الدين وهو التوحيد الذى هو عبادة الله تعالى وحده قرر في هذه الآية أصل الدين الثانى وهو نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من طريق برهانى وهو ان كنتم فى شك من القرآن الى أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فاتوا بسورة من مثل سوره أو من رجل أمى مثل عبدنا فى أميته فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار بالإيمان بالوحى الإِلهى وعبادة الله تعالى بما شرع فيه .
الأية 25
{ بشر } : التبشير : الإِخبار السَّار وذلك يكون بالمحبوب للنفس .
{ تجرى من تحتها } : تجرى الأنهار من خلال أشجارها وقصورها والأنهار هى أنهار الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل .
{ وأتوا به متشابهاً } : أعطوا الثمار وقدم لهم يشبه بعضه بعضاً فى اللون مختلف فى الطعم .
{ مطهّرة } : من دم الحيض والنفاس وسائر المعائب والنقائص .

الربع الثانى

الأيتين 26 ، 27
{ أن يضرب مثلاً } : أن يجعل شيئاً مثلا لآخر يكشف عن صفته وحاله فى القبح أو الحسن
{ الفاسقون } : الفسق الخروج عن الطاعة ، والفاسقون : هم التاركون لأمر الله تعالى بالايمان والعمل الصالح ، وبترك الشرك والمعاصى .
{ ينقضون } : النقض الحلّ بعد الإبرام .
{ من بعد ميثاقه } من بعد إبراهمه وتوثيقه بالحلف أو الإِشهاد عليه .
{ يقطعون ما أمر الله به أن يوصل } : من إدامة الإِيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام .
سبب النزول والمعانى
لما ضرب الله تعالى المثلين السابقين النارى والمائى قال المنافقون : الله أعلى وأجل أن يضرب هذا المثل فانزل الله تعالى رداً عليهم قوله { إن الله لا يستحى } الآية .
فأخبر تعالى أن لا يمنعه الاستحياء ان يجعل مثلا بعوضة فما دونها فضلا عما هو أكبر . وان الناس حيال ما يضرب الله من أمثال قسمان مؤمنون فيعلمون أنه الحق من ربهم . وكافرون : فينكرونها ويقولون كالمعترضين : ماذا أراد الله بهذا مثلا!؟ .
من هداية الآيتين ما يلي :
1- أن الحياء لا ينبغى أن يمنع من فعل المعروف وقوله والأمر به .
2- يستحسن ضرب الأمثال لتقريب المعانى الى الاذهان .
3- اذا أنزل الله خيراً من هدى وغيره ويزداد به المؤمنون هدى وخيراً ، ويزداد به الكافرون ضلالاً وشرا ، وذك لاستعداد الفريقين النفسى المختلف .
الأيتين 28 ، 29
{ كيف تكفرون بالله } : الاستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ . لعدم وجود مقتض للكفر .
{ وكنتم أمواتاً فأحياكم } : هذا برهان على بطلان كفرهم ، إذ كيف يكفر العبد ربه وهو الذى خلقه بعد أن لم يك شيئا .
{ ثم يميتكم ثم يحييكم } : إن إماتة الحى واحياء الميت كلاهما دال على وجود الرب تعالى وقدرته .
{ ثم استوى الى السماء } : علا وارتفع قهرا لها فكونها سبع سماوات .
{ فسواهن } : أتمّ خلقهن سبع سماوات تامات .
من هداية الآيتين :
1- إنكار الكفر بالله تعالى .
2- إقامة البرهان على وجود الله وقدرته ورحمته .
3- حلّية كل ما فى الأرض من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب الا ما حرمه الدليل الخاصر من الكتاب أو السنة لقوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } .
الأية 30
{ نسبح بحمدك } : نقول سبحان الله وبحمده . والتسبيح : التنزيه عما لا يليق بالله تعالى .
{ ونقدس لك } : فننزهك عما لا يليق بك . والتقديس : التطهير والبعد عما لا ينبغى . واللام فى لك زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدّسَه .
من هداية الآية :
1- سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم .
2- عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف .
3- معرفة بدء الخلق .
4- شرف آدم وفضله .
الأيات من 31 : 33
{ الأسماء } : أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والانسان .
{ عرضهم } : عرض المسميات أمامهم ، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم ، وإلا لقال عرضها
{ غيب السموات } : ما غاب عن الأنظار فى السموات والأرض .
{ تبدون } : تظهرون من قولهم { أتجعل فيها من يُفسد فيها } الآية .
{ تكتمون } : تبطنون وتخفون يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته .
{ الحكيم } : الحكيم الذى يضع كل شىء فى موضعه ، ولا يفعل ولا يترك الا لحكمه .
من هداية الآيات :
جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها .
الأية 34
{ اسجدوا } : السجود هو وضع الجبهة والأنف على الأرض ، وقد يكون بانحناء الرأس دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع .
{ إبليس } : قيل كان اسمه الحارث ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أى أيأسه من كل خير ومسخه شيطاناً
من هداية الآية
التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب ابلاس الشيطان ، وامتناع اليهود من قبول الاسلام .
التنبيه الى أن من المعاصى ما يكون كفراً أو يقود الى الكفر .
الأيات من 35 : 37
{ رغداً } : العيش الهنيّ الواسع يقال له الرَّغَد .
{ الشجرة } : شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرماً أو تيناً أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغى السؤال عنها .
{ فأزلهما } : أوقعهما في الزلل ، وهو مخالفتهما لنهى الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة
{ مستقر } : المستقر : مكان الاستقرار والاقامة .
{ إلى حين } : الحين : الوقت مطلقا قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة .
{ فتلقى آدم } : أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة .
{ كلمات } : هى قوله تعالى : { ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } { فتاب عليه } : وفقه للتوبة فتاب وقبل توبته ، لأنه تعالى تواب رحيم .
الأيتين 38 ، 39
الأيات من 40 : 43
{ بنو إسرائيل } : اسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام وبنوه هم اليهود ، لأنهم يعودون فى أصولهم الى أولاد يعقوب الأثنى عشر .
{ أوفوا بعهدى } : الوفاء بالعهد اتمامه وعهد الله عليهم أن يبينّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به
{ أوف بعهدكم } : أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم فى الدنيا وعزكم فيها .
{ ولا تشتروا بآياتي } : لا تعتاضوا عن بيان الحق فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
{ ثمناً قليلاً } : متاع الحياة الدنيا .
{ وإياى فاتقون } : واتقونى وحدى فى كتمانكم الحق وجحدكم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن أنزل بكم نقمتى .
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } : أى لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به ، وذلك قولهم : محمد نبىّ ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بنى إسرائيل .
{ واركعوا مع الراكعين } : الركوع الشرعى : انحنا الظهر فى امتداد واعتدال مع وضع الكفين على الركبتين والمراد بها هنا : الخضوع لله والإسلام له عز وجل .
لما كان السياق في الآيات السابقة فى شأن آدم وتكريمه ، وسجود الملائكة له وامتناع إبليس لكِبْره وحسده وكان هذا معلوماً لليهود لأنهم أهل كتاب ناسب أن يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكراً إياهم بما يجب عليهم من الإِيمان والاستقامة . فناداهم بعنوان بُنوتهم لإِسرائيل عليه السلام فأمرهم ونهاهم ، أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد لينجز لهم ما وعدهم ، وأمرهم أن يرهبوه ولا يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم . وان لا يكونوا أول من يكفر به . ونهاهم عن الاعتياض عن بيان الحق في أمر الإِيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ثمناً قليلا من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه فى ذلك وحذرهم ان هم كتموا الحق ان ينزل بهم عذابه . ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعاً للحق وبعدا عنه حتى لا يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بإقام الصلاة وايتاء الزكاة الاذعان لله تعلى بقبول الاسلام والدخول فيه كسائر المسلمين .

الربع الثالث

الأيتين 45 ، 46
{ البر } : البر لفظ جامع لكل خير . والمراد هنا : الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول فى الاسلام .
{ تلاوة الكتاب } : قراءته ، والكتاب هنا التوراه التى بأيدى اليهود .
{ العقل } : قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار ، والصالح والفاسد
{ الاستعانة } : طلب العون للقدر على القول والعمل .
{ الصبر } : حبس النفس على ما تكره .
{ الخشوع } : حضور القلب وسكون الجوارح ، والمراد هنا الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه .
{ يظنون } : يوقنون .
{ ملاقوا ربهم } : بالموت ، راجعون إليه يوم القيامة .
معنى الآيتين :
ينعى الحق تبارك وتعالى فى الآية الأولى على علماء بنى اسرائيل أمرهم بعض العرب بالإِيمان بالإسلام ونبيه ، ويتركون أنفسهم فلا يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة ، وفيها بعث النبى محمد بالإِيمان به واتباعه ويقرعهم موبخاً لهم بقوله : أفلا تعقلون ، إذ العاقل يسبق الى الخير ثم يدعو إليه .
وفى الآيتين الثانية والثالثة يرشد الله تعالى بنى اسرائيل الى الاستعانة بالصبر والصلاة حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها وهى الإيمان بمحمد الدخول في دينه ، ثم يعلمهم أن هذه المواجهة صعبه شاقة على النفس لا يقدر عليها الا المخبتون لربم الموقنون بلقاء الله ، والرجوع إليه .
من هداية الآيات :
1- قبح السلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله .
2- السيئة قبيحة وكونها من عالم أشد قبحا .
3- مشروعية الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة ، إذْ كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع الى الصلاة .
الأيتين 47 ، 48
{ فضلتكم على العالمين } : آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك على عهد موسى عليه السلام وفى أزمنة صلاحهم واستقامتهم .
{ ولا يقبل منها شفاعة } : هذه النفس الكافرة اذ هى التى لا تنفعها شفاعة الشافعين .
{ ولا يؤخذ منها عدل } : على فرض أنها تقدَّمت بِعَدْلٍ وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها .
الأيات من 49 : 53
{ يسومونكم سوء العذاب } : يبغونك سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه
{ يستحيون نساءكم } : يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة ، ويذبحون الأولاد خوفاً منهم إذا كبروا .
{ اتخذتم العجل } : عجل من ذهب صاغه لهم السامرى ودعاه الى عبادته فعبدوه أكثرهم ، وذلك فى غيبة موسى عنهم .
{ الشكر } : اظهار النعمة بالاعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها فى مضاته .
{ الكتاب والفرقان } : الكتاب : التوراة ، والفرقان : المعجزات التى فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل .
{ تهتدون } : إلى معرفة الحق فى كل شئونكم من أمور الدين والدنيا .
الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة بنى اسرائيل أربعين ليلة وهى القعدة وعشر الحجة ليعطيه التوراه يحكم بها بنى اسرائيل فحدث فى غيابه ان جمع السامرى حلى لنساء بني إسرائيل وصنع منه عجلاً ودعاهم الى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله منّ عليهم بالعفو ليشكروه .
الأيات 54 : 57
{ المن والسلوى } : المنّ : مادة لزجة حُلْوَةٌ كالعسل ، والسلوى : طائر يقال له السُّمانى
لما ذكّر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالباً إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله . ذكرهم هنا ببعض ذنوب اسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلهاً وعبادتهم له . وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى ، وتركه هارون خليفة له فيهم ، فصنع السامرى لهم عجلاً من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه فأطاعه أكثرهم وعبدوا العجل فكانا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم ان يقتل من لم يعبد العجل من عبده فقتلوا منهم سبعين ألفاً فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم انه هو التواب الرحيم كما ذكرهم بحادثة أخرى وهى انه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بامر الله تعالى منهم سبعين رجلاً من خيارهم ممن لم يتورطوا فى جريمة عبادة العجل ، وذهب بهم الى جبل الطور ليعتذروا الى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل ، فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يُسمعنا كلامه فأسمعهم قوله : إنى أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيدٍ شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى . ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم ، قالوا : لن نؤمن لك أى لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة وكان هذا منهم ذنباً عظيماً لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحدا واحدا وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة ، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى وهى اكرامه لهم وانعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ والسلوى أيام حادثة التيه فى صحراء سيناء وفى قوله تعالى : { وما ظلمناهم } إشارة الى ان محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيّهم اذ قالوا له : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } . وما ظلمهم فى محنة التيه ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم .
الأيتين 58 ، 59
{ القرية } : مدينة القدس .
{ حِطّة } : حِطّة : فِعْلَةٌ مثل ردة وحدة من رددت وحددت ، أمرهم أن يقولوا حِطة بمعنى احطط عنا خطايانا ورفع ( حِطةٌ ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : دخولنا الباب سجداً حِطةٌ لذنوبنا .
{ فبدل } : غيروا القول الذى قيل لهم قولوه وهو حِطة فقالوا : حبَّة في شَعْرة .
{ رجزاً } : وباء الطاعون .
تضمنت الآية الأولى تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها نعمة الله على بنى اسرائيل وهى حال تستوجب الشكر ، وذلك أنه لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من موسى وهارون وخلفهما فى بنى اسرائيل فتى موسى يوشع بن نون وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليه بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمرٍ إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً . واشكروا لى هذا الإِنعام بان تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين . دخولنا الباب سجداً حطةٌ لذنُوبنا التى اقترفناها بنكولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون . نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثواباً كما تضمنت الآية الثانية حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الى أمروا به والقول الى قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين : حبة فى شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فأنزل على الظالمين منهم طاعوناً أفنى منهم خلقاً كثيراًجزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل . وكان فيما ذكر عظة لليهو لو كانوا يتعظون .

الربع الرابع

الأيتين 60 ، 61
{ استسقى } : طلب لهم من الله السقيا أى الماء للشرب وغيره .
{ فانفجرت } : الانفجار : الانفلاق فانفجرت : انفلقت من العصا العيون
{ مشربهم } : ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية .
{ ولا تعثوا } : العَثَيّ والعِثِيّ : أكبر الفساد وفعله عِثي كرضي يعثي كيرضي وعثا يعثوا كعدا يعدو .
{ مفسدين } : الافساد : العلم بغير طاعة الله ورسوله فى كل مجالات الحياة .
{ القثاء } : الخيار والقته ونحوها .
{ الفُوم } : الفوم : الحِنطة وقيل الثوم لذكر البصل بعده .
{ مصراً } : مدينة من المدن قيل لهم هذا وهم فى التيه كالتعجيز لهم والتحدى لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين فاصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين .
{ ضربت عليهم الذلة } : احاطت بهم ولازمتهم الذلة وهى الصغار والاحتقار .
والمسكنة : والمسكنة وهى الفقر والمهانة
{ الاعتداء } : مجاوزة الحق الى الباطل ، والمعروف إلى المنكر . والعدل الى الظلم .
الأية 62{ النصارى } : الصليبيون سموا نصارى إما لأنهم يتناصرون أو لنزول مريم بولدها عيسى قرية الناصرة ، والواحد نصران أو نصرانى وهو الشائع على الألسنة .
{ الصابئون } : امة كانت بالموصل يقولون لا إله إلا الله . ويقرأون الزبور . ليسوا يهودا ولا نصارى واحدهم صابيء ، ولذا كانت قريش تقول لمن قال لا إله الا الله صابيء أى مائل عن دين آبائه الى دين جديد وحَدَ فيه الله تعالى .
مناسبة الآية ومعناها :
لما كانت الآية فى سياق دعوة اليهود إلى الاسلام ناسب أن يعلموا أن النِّسَبَ لا قيمة لها وانما العبرة بالإِيمان الصحيح والعمل الصالح المزكى للروح البشرية والمطهرة لها فلذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وغيرهم كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإِيمان وعمل صالحاً مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تكروا من الدنيا ، إذ الآخرة خير وأبقى .
والإِيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالايمان بالنبى الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبى الخاتم فى كتابه وما أوحى إليه ، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهى لا تزكى النفس ولا تطهرها . والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها .
الأيات من 63 : 66
{ الميثاق } : العهد المؤكد باليمين .
{ اعتدوا فى السبت } : تجاوزوا الحدَّ فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا
{ خاسئين } : مبعدين عن الخير ذليلين مهانين .
{ نكالاً } : عقبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سبباً فيه .
الأيات من 67 : 71
{ الجاهل } : الذى يقول او يفعل مالا ينبغي قوله أو فعله .
{ الفارض } : المسنة ، والبكر الصغيرة التى لم تلد بعد . والعوان : النّصَفُ وسط بين المسنة والصغيرة .
{ فاقع } : يقال : أصفر فاقع شديدة الصفرة كأحمر قانىء وأبيض ناصع .
{ الذلول } : الرّيّضة التى زالت صعوبتها فاصبحت سهلة منقادة .
{ تثير الأرض } : تقبلها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى أنها لم تستعمل فى الحرث ولا فى سقاية الزرع أى لم يُسن عليها ، وذلك لصغرها .
{ مسلّمة } : سليمة من العيوب كالعور والعرج .
{ لا شية فيها } : الشية العلامة أي لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض .
من هداية الآيات :
- بيان ما كان عليه قوم موسى من بنى اسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون .
2- حرمة الاعتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهى وعلتها .
3- الندب الى الأخذ بالمتيسر وكراهة التشدد فى الأمور .
4- بيان فائدة الاستثناء بقوله إن شاء الله ، إذ لو لم يقل اليهود ان شاء الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة .
5- ينبغي تحاشي الكلمات التى قد يفهم منها إنتقاص الأنبياء مثل قولهم الآن جئت بالحق ، اذ مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إلا فى هذه المرة من عدة مرات سبقت!!

الربع الخامس : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم .... 75

عن ابن عباس: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } أي بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. { وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم.
عن قتادة: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } قال: كانوا يقولون: سيكون نبي. فخلا بعضهم ببعض (5) فقالوا: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ }
وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم، فيحاجوكم (12) به عند ربكم، فيخصموكم.
يقول تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد: والأميون جمع أمي، وهو: الرجل الذي لا يحسن الكتابة.
عن ابن عباس، في قوله: { إِلا أَمَانِيَّ } يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبًا. وقال مجاهد: إلا كذبًا.
عن مجاهد: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ } قال: أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أمانيّ يتمنونها. وعن الحسن البصري، نحوه.
والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه. ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ما تغنيت ولا تمنيت". يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب .
والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري، عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل: صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار. الويل: واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله: { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده .
ولكن هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
عن الربيع بن خُثَيم: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال: الذي يموت على خطايا من قبل أن يتوب.
يقول، تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت (1) بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه.
عن ابن عباس: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } الآية، قال: أنبهم الله من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم حلفاء الخزرج، والنضير، وقريظة وإنهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حلالا ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به؛ بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم بذلك: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي: يفاديه بحكم التوراة ويقتله، وفي حكم التوراة ألا يفعل، ولا يُخرج من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله، ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني-نزلت هذه القصة .
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم.
عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [قال] هي القلوب المطبوع عليها. وقال أيضاً قالوا: قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: { غُلْفٌ } قال: يقول: قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول، قرأ (2) { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: القلوب أربعة. فذكر منها: وقلب أغلف مَغْضُوب عليه، وذاك قلب الكافر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: { غُلْفٌ } قال: يقول: قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول، قرأ { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: القلوب أربعة. فذكر منها: وقلب أغلف مَغْضُوب عليه، وذاك قلب الكافر.
{ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
عن ابن عباس: أن يَهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته. فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار. قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا. فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به أحمد.
{ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } قال ابن عباس: فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.وقال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله]
قلت: ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب.
الربع السادس : ولقد جاءكم موسى بالبينات ...92

عن قتادة: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [بِكُفْرِهِمْ] قال: أشربوا [في قلوبهم] حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا [على] (9) أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في (10) أمر نبوته. عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي
ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه لتتابِعُنِّي على الإسلام". فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني عما شئتم". فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أيّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ووليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنِّي؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق. فقال: "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها؟". فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد عليهم. وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟". قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد". قال: "وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟". قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد". قالوا: أنت الآن، فحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: "فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليُّه". قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: "فما مَنَعكم أن تصدقوه؟" قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلى قوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 103] فعندها باؤوا بغضب على غضب . رواه الطبرى فى تفسيره
وقال قتادة: { نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } أي: نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير: أصل النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط: منبوذًا، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء.
عن ابن عباس، قال: كان سليمان، عليه السلام، إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة -وهي امرأة-خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي فقالت: كذبت، لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرئ الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }قاله الطبرى فى تفسيره
وقوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي: واتبعت اليهود -الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان.
قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. وقال مَعْمَر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } .
بعد أن أورد بن كثير ما جاء من الإسرائيليات فى قصة هاروت وماروت قال :
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن [البصري] وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية:
الأول: سحر الكلُدْانيين والكُشْدانيين، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مُدَبّرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بَعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلا لمقالتهم ورادا لمذهبهم.
النوع الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدلّ على أن الوهم له تأثير، بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودًا على نهر أو نحوه. قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المَرْعُوف عن النظر إلى الأشياء الحُمْر، والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مُطِيعة للأوهام.
قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق.
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "العين حَقّ، ولو كان شيء سَابِقَ القدر لسبقته العين"صحيح مسلم .
النوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن، خلافًا للفلاسفة والمعتزلة: وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار، وهم الشياطينُ. قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية، لما بينهما من المناسبة والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخل والتجريد. وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير .
النوع الرابع من السحر: التخيلات، والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه [على] أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى أن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئًا آخر عَمَلا بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه. فيتعجَّبون منه جدًا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل أشد، كان العمل
أحسنَ، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا، أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها بكلالها والحالة هذه.
قلت: وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة، ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66] قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر. والله أعلم.
النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة من النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق، من غير أن يمسه أحد. ومنها الصور التي تُصَوِّرها الرومُ والهند، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل. قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل.
قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي، فحشوها زئبقًا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها.
قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جَرِّ الأثقال بالآلات الخفيفة.
قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسبابًا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها.
قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم، بما يُرُونَهم إياه من الأنوار، كقضية قُمَامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام [منهم] وأما الخواص فهم يعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم. وفيه شبه للجهلة الأغبياء من متعبدي الكَرّامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم : "من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار ". وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار" .
ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور تَرِقّ له فتذهب فتلقي في وَكْره من ثمر الزيتون، ليتبلغ به، فعَمَد هذا الراهبُ إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع له صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيه، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فَيُسْمَعُ صوتها كذلك الطائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة والدهانات . قال: واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن أثر المغناطيس مشاهد.
قلت: يدخل في هذا القبيل كثير ممن يَدّعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص، مدعيًا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
قال: النوع السابع من السحر: تعليق القلب، وهو أن يدعي الساحرُ أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون ذلك السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرهب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
قلت: هذا النمط يقال له التنبلة، وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان المُتَنْبِلُ حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له مِنَ الناس مِنْ غيره.
قال: النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس.
قلت: النميمة على قسمين، تارة تكون على وجه التحريش [بين الناس] وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه. فأما إذا كانت على وجه الإصلاح [بين الناس]وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء في الحديث: "ليس بالكذاب من يَنمّ خيرًا" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة" فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: "الحرب خدعة". وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت. وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة. والله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت: وإنما أدخل كثيرًا من هذه الأنواع المذكورة في فَنّ السحر، للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطُف وخفي سببه. ولهذا جاء في الحديث: "إن من البيان لسحرًا . وسمي السحور لكونه يقع خفيًا آخر الليل والسَّحْر: الرئة، وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحرك أي: انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة، رضي الله عنها: توفي رسول صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري. وقال: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم .
نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن الله-فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون بالرعونة، كما قال تعالى: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 46]
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون: السامُ عليكم. والسام هو: الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم". وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.

الربع السابع : ما ننسخ من أية ..... 106


قال ابن جرير: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص (1) بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل، وعكسه، والنسخ لا إلى بدل. وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه.
عن ابن عباس: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسئهَا } يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها.
وقوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي: في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال قتادة: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله -في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا،ً وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة
بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله أعلم.
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) }
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصحيح: "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته" . ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنزل الله حكم الملاعنة . ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال وفي صحيح مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" . وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال، عليه السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم قال: "ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي عشرة مسألة، كلها في القرآن: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } [البقرة:219] ، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة: 217] ، و { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه .
وقال مجاهد: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفَا ذهبًا. قال: "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم"، فأبوا ورجعوا.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن شَيء، على وجه التعنُّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السلام، تعنتًا وتكذيبًا وعنادًا.
عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه (3) أنزل الله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.
عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أهلُها اليهودَ-أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا]  إلى قوله: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] } وقال: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
عن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرد على النصارى - عليهم لعائن الله-وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممن  جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولدا. فقال تعالى: { سُبْحَانَهُ } أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومُقَدِّرهم ومسخرهم، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101] وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا* تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 88 -95] وقال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] .
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد. فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا".رواه البخارى فى تفسير هذه الأية.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" .
عن مجاهد: { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قال: مطيعون، كن إنسانًا فكان، وقال: كن حمارًا فكان.
وقوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: خالقهما على غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث: بدعة. كما جاء في الصحيح لمسلم: "فإن كل محدثة بدعة [وكل بدعة ضلالة] " . والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعْمَتْ البدعةُ هذه.
وقال ابن جرير: وبديع السماوات والأرض: مبدعهما. وإنما هو مُفْعِل فصرف إلى فَعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع. ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد.
قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: فسبحان الله أنى يكون لله ولد، وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته.



الربع الثامن : وإذ أبتلى إبراهيم ربه ...124


يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله، عليه السلام (2) وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى (3) قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } أي: واذكر -يا محمد -لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين (4) معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي { فَأَتَمَّهُنَّ } أي: قام (5) بهن كلهن، كما قال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ]
وقوله تعالى: { بِكَلِمَاتٍ } أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام،: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] (6) } [ الأنعام : 115 ] أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا.
عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: أي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين. ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك. وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [فَأَتَمَّهُنَّ] } ذكره بن جريرى فى تفسيره.
عن ابن عباس، قال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانتقضه.
وقال السدي: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يقول: عهدي نبوتي.
عن ابن عباس، في قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.
قال ابن زيد: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال: يثوبون إليه من البُلْدان كلها ويأتونه.
عن ابن عباس: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك ثم رواه أحمد، عن يحيى وابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس، عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث فذكره .
وقال أبو حاتم الرازي: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربي في ثلاث -أو وافقت ربي-قلت يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت: يا رسول الله لو حجبت النساء؟ فنزلت آية الحجاب. والثالثة: لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. قلت: يا رسول الله، تصلي على هذا الكافر المنافق! فقال: "إيهًا عنك يا بن الخطاب"، فنزلت: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ].
وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا، بل الكل صحيح، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قُدم عليه، والله أعلم.
قال الحسن البصري: قوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عُبَيد بن عمير، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء وقتادة: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي: بلا إله إلا الله، من الشرك.
وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ } يعني: من أتاه من غُرْبة، { وَالْعَاكِفِينَ } المقيمين فيه.
وفى الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال: "هذا جبل يُحبُّنا ونحبه". فلما أشرف على المدينة قال:"اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم". وفي لفظ لهما: "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم". زاد البخاري: يعني: أهل المدينة .
ولهما أيضا عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلته بمكة من البركة"
وجاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعْضَد شوكه ولا ينفر صيده، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاهَا" فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم .
وقوله: تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } أي: من الخوف، لا يَرْعَبُ أهله، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كقوله تعالى { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 97 ] وقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ]
وقال البخاري، رحمه الله: قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية: القواعد: أساسه واحدها قاعدة. والقواعد من النساء: واحدتها قاعدُ.
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تَرَيْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تَرُدَّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حِدْثان قومك بالكفر". فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سَمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرُّكنين اللذَين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم، عليه السلام . صحيح البخارى .
وقال مجاهد { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا. ورُوى عن عطاء أيضًا، وقتادة نحو ذلك.
{ وَيُزَكِّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني طاعة الله، والإخلاص.
قال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل.
قال القرطبي: والسبط: الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد.
وقوله: { صِبْغَةَ اللَّهِ } قال الضحاك، عن ابن عباس: دين الله.


الربع التاسع : سيقول السفهاء .... 142

قيل المراد بالسفهاء هاهنا: المشركون؛ مشركو العرب، قاله الزجاج. وقيل: أحبار يهود، قاله مجاهد. وقيل: المنافقون، قاله السدي. والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم.
عن البراء، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم. فخرج رجل  ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }رواه البخارى .
عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: فَوُجّه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فأنزل الله { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }رواه بن أبى حاتم
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب -:"إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" .رواه أحمد فى المسند
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" قال: فذلك قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } . رواه أحمد فى المسند
قال: الوسط : العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم  .
عن أبي الأسود أنه قال: أتيتُ المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتاً ذَريعاً. فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرّت به جنازة، فَأثْنِيَ على صاحبها خير. فقال: وجبت وجَبَت. ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال عمر: وجبت [وجبت] . فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة". قال: فقلنا. وثلاثة؟ قال: "وثلاثة". قال، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد. رواه أحمد
وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } يقول تعالى: إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه، أي: مُرْتَدّاً عن دينه { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنُوا بتصديق الرسُول، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرْية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء ، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 .
وقوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن البراء، قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }.
{ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صُرف محمد إلى الكعبة.
وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
وَيُزَكِّيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود. كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب، وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم، إن شاء الله.
{ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ } أي: بقليل من ذلك { وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } أي: ذهاب بعضها { وَالأنْفُسِ } كموت الأصحاب والأقارب والأحباب { وَالثَّمَرَاتِ } أي: لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها. كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه [الله] ومن قنط أحل [الله] به عقابه. ولهذا قال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }
عن فاطمة ابنة (1) الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وقال عباد: قدم عهدها -فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" .رواه أحمد


الربع العاشر : إن الصفا والمروة ...158


عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما؟ فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها  عليه كانت: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل. وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى قوله: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما. أخرجاه في الصحيحين .
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم . يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء [الذين يكتمون] فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار". والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية .البخارى
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك"
عن ابن عباس قال: تُليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا } فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به".المعجم الأوسط للطبرانى
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قال قتادة، والسدي في قوله: { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خطاه، أو قال: خطاياه.
وقال أبو مِجْلزَ: هي النذور في المعاصي.
وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش. وقال: هذا من خطوات الشيطان.
وقال أبو الضحى، عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضَرْع وملح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضَرْعًا أبدا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطْعَمْ وكفِّر عن يمينك.
عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غَضَب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
عن مجاهد في قوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي: أكره على ذلك بغير اختياره.
قال مقاتل بن حيان في قوله: { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار، وبلغنا -والله أعلم -أنه لا يزاد على ثلاث لقم.
{ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من]حديث الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ولهم عذاب أليم] شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" .
وقوله تعالى: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يخبر تعالى أنَّهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجَّبُ من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع شدة ما هم فيه من العذاب، والنكال، والأغلال عياذًا بالله من ذلك.
وقيل معنى قوله: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أي: ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار].


الربع الحادى عشر : ليس البر ....177


قال الثوري: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ [الله] به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي: أخرجه، وهو مُحب له، راغب فيه. نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا: "أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر".
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فَيُتَصَدق عليه .
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد:
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت: فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } .الصحيحين
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء. { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومُرّة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عَمْدا، الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
عن ابن عباس، قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة]  مما كتب على من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان  .
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى: وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
عن ابن عباس في قوله: { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين، فأنزل الله آية الميراث (3) فبيَّن ميراث الوالدين، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
عن ابن عباس، في قوله: { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } نسختها هذه الآية: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } [ النساء: 7].
وقوله: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } أي: مالا. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، وأبو العالية، وَعَطية العَوْفي، والضحاك، والسدي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وقتادة، وغيرهم.
والمراد بالمعروف: أن يوصي لأقربيه وَصيَّةً لا تجحف بورثته، من غير إسراف ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال: يا رسول الله، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثُلُثَيْ مالي؟ قال: "لا" قال: فبالشَّطْر؟ قال: "لا" قال: فالثلث ؟ قال: "الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وقوله: { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا } قال ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجَنَف: الخطأ. وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيءَ الفُلانيّ محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمدًا آثمًا في ذلك ،فللوصيّ -والحالة هذه -أن يصلح القضية  ويعدلَ في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي. وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء. ولهذا عطف هذا -فبينه -على النهي لذلك، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان.
نزلت هذه الآية: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا.
{ وَبَيِّنَاتٍ } أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام.
{ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه: ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر -فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام.
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:
إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه، لقوله: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح  .
الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر، لقوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور، أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان. قال: "فَمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في شهر رمضان]  في حَرٍّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدة الحر] وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .
الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل، أخذا بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: "من أفطر فحَسَن، ومن صام فلا جناح عليه" مسلم. وقال في حديث آخر: عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة: أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله، إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وهو في الصحيحين . وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصيام في السفر". أخرجاه . فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة .
الرابعة: القضاء، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يجب التتابع، لأن القضاء يحكي الأداء. والثاني: لا يجب التتابع، بل إن شاء فَرّق، وإن شاء تابع. وهذا قول جُمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر. ولهذا قال تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.
عن الصُّلْب بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .رواه الطبرانى فى تفسيره.
عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: "يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله".
أخرجاه في الصحيحين.
عن جُبَير بن نفير، أن عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما على ظهر الأرض من رجل مُسْلِم يدعو الله، عز وجل، بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" . زوائد المسند.
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم يَعْجل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي".
أخرجاه في الصحيحين.
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل". قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوتُ، وقد دَعَوتُ، فلم أرَ يستجابُ لي، فَيَسْتَحسر عند ذلك، ويترك الدعاء" . مسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" .المسند
هذه رُخْصة من الله تعالى للمسلمين، ورَفْع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة. فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة. والرفث هنا هو: الجماع. قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطاوس، وسالم بن عبد الله ، وعَمْرو بن دينار والحسن، وقتادة، والزهري، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، والسّدي، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان.
وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويلِ، وقال أبو إسحاق عن البراء ابن عازب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإن قَيْس بن صِرْمة الأنصاري كان صائمًا، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه، فلما حَضَر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينُه فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائما قالت: خيبة لك! أنمت؟ فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ففرحوا بها فرحًا شديدًا .رواه الطبرى فى تفسيره.
عن أبي هريرة في قول الله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } قال: كانَ المسلمون قبلَ أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حَرُمَ عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صِرْمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره  بذلك، فأنزل الله عند ذلك: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } يعني بالرفث: مجامعة النساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني: تجامعون النساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يعني: جامعوهن { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني: الولد { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة.
عن الشعبي، أخبرني عَديّ بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } عَمَدت إلى عقالين، أحدُهما أسود والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما فلا تَبَيَّن لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: "إنّ وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل" . المسند
(188) تُدْلُوا: الإدلاء بالشيء، إلقاؤه2، والمراد هنا: إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم.
{بِالأِثْمِ} : المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة أي الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق.و الباطل: لغة: الذاهب الزائل.
فى هذه الأية ذكر نوعاً هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أمال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها المرء كاذباً.
إن هذه الآية وإن نزلت في سبب خاص: وهو تخاصم عبدان ابن أشوع الحضرمي مع أمرؤ القيس الكندي، إذ ادعى الأول مالاً على الثاني، فأنكر وأراد أن يحلف، فنزلت فإنها عامة في أمة الإسلام قاطبة، فلا يحل أكل مال أمرء مسلم بغير حق، فيدخل فيه القمار والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق وكذا ما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، وذلك كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان بيع الخمر وغيرها.




الربع الثانى عشر : يسئلونك عن الأهلة ... 189



(189) جمع هلال: وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى من الشهر؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
المواقيت: جمع ميقات: الوقت المحدد المعلوم للناس.
روى أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلين: ما بال الهلال يبدوا دقيقاً، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم: هي مواقيت للناس، وعلة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق: هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم1 فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء وتعرف الشهور، فنعرف رمضان2 ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبراً، فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ} . بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ومن هداية الأية
أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال عما لا يعنيه.
وشاهده في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
(190 : 193)
{وَلا تَعْتَدُوا}: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال ومن اعتزل القتال.
{ثَقِفْتُمُوهُمْ} : تمكنتم من قتالهم.
{وَالْفِتْنَةُ} : الشرك
{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : المراد به مكة والحرم من حولها. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهي مقررة لحكم سابقاتها، إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون الدين كله لله فلا يعبد غيره، وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم، إذ لا عدوان2 إلا على الظالمين وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
قتال من قاتل المسلمين لا يسمى عدواناً إلا من باب المشاكلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، إذ الأولى حقاً سيئة، أما الثانية فإنها قصاص عادل وسميت سيئة مشاكلة في اللفظ.
(194 ،195)
الآية الأولى (194) في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص
والحرمات: جمع حرمة، كالظلمات: جمع ظلمة، والحرمة: ما منع العبد من انتهاكه، والقصاص يمعنى المساواة هذه الآية لا خلاف بين العلماء في أنها أصل المماثلة في القصاص، فمن جرح جرح بمثل ما جرح، ومن قتل يقتل بمثل ما قتل به، اللهم إلا من قتل بزنا أو لواط فهذا قطعاً لا مماثلة فيه ولكن يقتل بالسيف.
لهذا الآية نظيرها وهو قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، وهي بالنسبة إلى الأمة قد نسخت بآيات الجهاد، أما بالنسبة للأفراد فالجمهور على أن الفرد لا يعاقب بنفسه ولكن بواسطة الحاكم، ولكن يرى بعضهم كالإمام الشافعي: أن الفرد إذا لم يتوصل إلى أخذ حقه إلا بالمعاقبة فلينظر إذا كان يمكنه أن يأخذ بقدر ما أخذ منه مساواة بلا زيادة فلا بأس أن يأخذ بشرط أن يأمن من نسبته إلى السرقة حتى لا يتعرض إلى إقامة الحد عليه.
وأما الآية1 (195) فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا ولمقاتلين ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا. كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة وإحسان الأعمال إتقانها وتجويدها، وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم، فقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله.
(196)
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : فإتمامهما1 أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : الحصر والإحصار أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدو يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة.
ذهب مالك والشافعي إلى أن المحصر بمرض لا يحل له أن يتحلل بل عليه أن يبقى على إحرامه حتى يطوف ولو بعد عام، وذهب غيرهما إلى أن المريض الشديد المرض حكمه حكم المحصر بالعدو ينحر ويتحلل، وإن كان الحج فرضاً عليه القضاء، وإن كان نفلاً فلا قضاء عليه.
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير.

{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} : لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدي فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب وأن يريدوا بهما الله تعالى، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامها، فالواجب عليهم أن يذبحوا ما تيسر لهم، فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضاً أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس، فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان2 من طعام، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعه وحذرهم من إهمال أمره والاستخفاف بشرعه فقال: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
المكي وساكن الحرم إن حصرا بمرض لا يحل لهما التحلل بذبح الهدي بل عليهما أن يحملا على نعش ويوقف بهما بعرفة ويطاف بهما وهما على النعش.
من هداية الأية الكريمة
بيان حكم الإحصار، وهو ذبح شاة من مكان الإحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.
الواجب على المحصر أن يذبح هدي في الحرم وإن عجز ذبحه في مكان الإحصار، وإن عجز ذبحه حيث أمكنه وإن لم يجده لفقر صام عشرة أيام بدله، والواجب أن لا يتحلل إلا بعد نحر الهدي إن كان ذلك في مقدوره، هذا أوسط المذاهب في هذه المسألة الشائكة الكثيرة الآراء.
بيان فدية الأذى: وهي أن من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام بأن حلق أو لبس مخيطاً أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
بيان حكم التمتع، وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقي في مكة وحج من عامه أن عليه ذبح3 شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
(197 : 199)
{أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} : هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
لو أحرم ليلة العاشر وهي ليلة العيد ووصل إلى عرفة ووقف بها قبل طلوع الفجر صح حجه.
{فَرَضَ} : نوى الحج وأحرم به.
يكره أن يحرم المسلم بالحج قبل أشهره، ولو أحرم صح إحرامه وعليه المضي فيه والأفضل له أن يتحلل بعمرة وإن بقى على إفراده كره له ذلك، وصح منه، هذا أرجح المذاهب في هذه المسألة.
{فَلا رَفَثَ} : الرفث: الجماع ومقدماته.
{وَلا فُسُوقَ} : الفسق والفسوق: الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.
الجدال: المخاصمة والمنازعة.
الجناح: الإثم.
{تَبْتَغُوا فَضْلاً} : تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج.
{أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} : الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.
{الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} : مزدلفة وذكر الله تعالى عندها: هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها وصلاة الصبح.
ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر3 معلومة وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق والجدال حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره، وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال
أنه بتجنب هذه الثلاثة يكون حجه مبرور لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". قالت العلماء: الحج المبرور: الذي لم يعص الله تعالى فيه وحف بفعل الخيرات.

الجدال: مأخوذ من الجدال الذي هو الفتل للحبل ونحوه، فالمجادل يريد أن يفتل رأي من يجادله أي يثنيه عنه ويرده عليه.

الربع الثالث عشر : واذكروا الله فى أيام معدودات .... 203


(200 : 203)

المناسك: جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة.
الخلاق: الحظ والنصيب.
{حَسَنَةً} : حسنة الدنيا: كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال وحسنة الآخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
الأيام المعدودات1: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
روى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر من أول الحجة.
بهذا الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج، ففي الآية الأولى (200) يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة، واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي3 الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين أن أنس بن مالك: قال كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} .
في الآية (203) يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ألله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق1 ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ2 عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
لقد رخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق بلا خلاف.
قيل أن هذا التخيير ونفي الإثم على المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لأنه حذر متحرز من كل ما يريبه فرفع الإثم حتى لا يبقى في نفسه ما يؤلمه من التقديم والتأخير وهو وجه حسن للآية.
روى أحمد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله". وروى مسلم أيضاً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله".
الأيات من 204 : 207
{أَلَدُّ2 الْخِصَامِ} : فوي الخصومة شديدها، لذلاقة لسانه.
الألد: لغة الأعوج والمنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق، ولا يستقيم وفي الحديث: "إذ خاصم فجر".
{الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} : الحرث: الزرع، والنسل: الحيوان.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} رحيم بهم.
قيل: أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى: هو الأخنس2 بن شريق، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة (207) هو: صهيب بن سنان الرومي أبو يحي، إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه قالوا: لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد، فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله، فأعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة، ورآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: ربح البيع أبا يحي ربح البيع. والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.
من هداية الأيات
التحذير من الاغترار بفصاحة1 وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص.
يشهد له حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن من الشعر لحكمة وأن من البيان لسحراً".
الأيات من 208 : 210
{السِّلْم} : الإسلام3.
روي أن حذيفة بن اليمان قال في هذه الآية: "الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر. وقد خاب من لا سهم له في الإسلام".
اختلف في تحديد معنى السلم في الآية، والراجح أنها بمعنى الإسلام ويكون الخطاب معنياً به بعض من آمن من أهل الكتاب وبقى متمسكاً ببعض شرائع التوراة؛ كتحريم يوم السبت، وتحريم شرب لبن الإبل، أمروا بالدخول في الإسلام كافة، أي: بقبول شرائعه كلها وترك شرائع غيره وتكون بمعنى الصلح وترك الحرب والتهارج ويكون الخطاب للمسلمين عامة بترك التهارج بينهم والتقاتل.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} : وقعتم في الزلل3 وهو الفسق والمعاصي.
أصل الزلل: الزلق، وهو اضطراب القدم وتحركها في الموضع المراد إثباتها فيه، والمراد هنا عدم الثبات على طاعة الله ورسوله بفعل الأمر وترك النهي بتزيين الشيطان ذلك للعبد حتى يقع في الضرر.
من هداية الأيات
وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئلا يكون أمن من مكر3 الله.
إذ حصول الأمن لازمه الاستمرار على المعاصي وعدم التوبة، والله يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
الأيات من   211 : 212
فسرت نعمة الله هنا: بالإسلام، وهو كذلك فإن الإسلام أكبر نعمة لما يجلبه من السعادة والكمال وما يدفعه من العقاب في الدارين.
جملة: {أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} خبرية متضمنة للوعيد ذيل بها الكلام، والعقاب من العقب كأن المعاقب يمشي بالمجازاة في أثار عقبه ليجزيه به.
والله يرزق من يشاء بغير حساب  (212) الآية: ترغيب في طلب فضل الله تعالى وفي الحديث الصحيح: " يا ابن آدم أنفق أنفق عليك"، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، وفي الصحيح أيضاً: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
{كَانَ النَّاسُ1 أُمَّةً وَاحِدَةً} : كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة2 واحدة على الإسلام والتوحيد وذلك قبل قوم نوح.
أي الذين كانوا على الدين الحق وهم عشرة قرون من آدم إلى أن حدث فيهم الشرك، فبعث الله تعالى فيهم عبده الشكور نوحاً عليه السلام.
لفظ: الأمة: مأخوذ من أممت كذا إذا قصدته، فسميت الجماعة مقدصهم واحد أمة، وقد يطلق على الواحد أمة، إذ كان مقصده واحداً على خلاف غيره، ومنه قول الرسول صلى الله عيه وسلم في قس بن ساعدة: "يحشر يوم القيامة أمة وحده".
{النَّبِيِّينَ} : جمع نبي والمراد بهم الرسل إذ كل نبي3 رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة والنذارة والمستمدة من كتب الله تعالى المنزلة عليهم.
عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل منهم: ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا قول جمهور أهل السنة والجماعة، والرسل المذكورون بالاسم العلم في القرآن: خمسة وعشرون رسولاً، وأول الأنبياء: آدم، وأول الرسل: نوح، وخاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
لفظ: الناس: اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، وإنما واحده من غير لفظه، وهو انسان، وآل فيه للاستغراق، أي: جميع أفراده، أي: البشر كلهم.
الأية 214
{أَمْ حَسِبْتُمْ} : أظننتم - أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة، والاستفهام إنكاري ينكر عليهم ظنهم هذا لأنه غير واقع موقعه.
{الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} : البأساء: الشدة، من الحاجة وغيرها والضراء: المرض والجراحات والقتل.
{مَتَى نَصْرُ اللهِ} : الاستفهام للإستبطاء.
من هداية الأية
الابتلاء بالتكاليف الشرعية، ومنها الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة.
جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.
الأية (215)
{مِنْ خَيْرٍ} : من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير.
سال عمر وبن الجموح وكان ذا مال. سأل2 رسول الله صلى الله علية وسلم، مادا ينفق وعلى من ينفق؟. فنزلت الآية جواباً لسؤاله، فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان3، والأقربون، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وأعلمهم تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير مطلقاً.
الأية (216)
{كُرْهٌ} : مكروه في نفوسكم طبعاً.
عَسَى: هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه مرجو الحصول متوقع لا على سبيل الجزم، إلا أنها إن كانت من الله تعالى تفيد اليقين.
يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال1 المشركين والكافرين وهم يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيراً، وأن ما يحبونه قد يكون شراً2، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة، كما أن ترك الجهاد محبوب لهم وهو شر لهم؛ لأنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم، وانتهاك حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الآخرة. وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لأشياء وهي شر لهم وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به قبل خلقه، والله يعلم وهم لا يعلمون فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه.
قال القرطبي: كما اتفق في بلاد الأندلس تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار فاستولى العدو على البلاد وأسر وقتل وسب واسترق فإن لله وإنا إليه راجعون. ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته، وأنشد لأبي سعيد الضرير قوله شاهداً لمعنى الآية الكريمة:
رب امرء تتقيه ... جر أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه ...
وبدا المكروه فيه
ومن هداية الأية الكريمة
جهل الإنسان بالعواقب يجعله يحب المكروه، ويكره المحبوب.
الأيات 217 ، 218
لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار. فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيراً لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم رجلاً يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين وأخذوا العير وقفلوا راجعين وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية، وهي أول ليلة من رجب. فثارت ثائرة قريش وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه، وردد صوتها اليهود، والمنافقون بالمدينة حتى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف العير والأسيرين ولم يقض فيهما بشيء، وتعرض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ2 قِتَالٍ فِيهِ}(هذا كان قبيل نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام.
) أي: عن القتال فيه، أجبهم يا رسولنا وقل لهم القتال فيه وزر كبير بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام، وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزراً في حكم الله تعالى، كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عنه دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام. مضافاً إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. ثم أخبر تعالى المؤمنين محذراً إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافراً فإن أعماله الصالحة كلها1 تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية (218) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا2} فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك، وأنه يرجون رحمة الله أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله.
من هداية الأيتين
أعماله الصالحة كلها1 تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية (218) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا2} فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك، وأنه يرجون رحمة الله أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله.
من هداية الأيات
نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة وهما في الأشهر الحرم.
الردة4 محبطة للعمل فإن تاب المرتد5 يستأنف العمل من جديد، وإن مات قبل التوبة فهو من أهل النار الخالدين فيها أبداً.
اختلف في المرتد هل يستتاب أو يقتل بالردة فوراً والجمهور على أنه يستتاب أولاً فإن أصر قتل ومالك يرى أن من سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستتاب ويقتل واستشهد بالمرأة التي قتلت خادمها بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينكر عليها، وكذلك الزنديق يقتل ولا يستتاب.
5 الأصل في قتل المرتد حديث صحيح: "من بدل دينه فاقتلوه" واختلف في قتل المرأة إذا ارتددت الجمهور إنها لا تقتل لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والأطفال في الحرب.

الربع الرابع عشر : يسئلونك عن الخمر والميسر .... 219







Comments
NameEmailMessage