مختصر تفسير سورة الزخرف من أيسر
التفاسير للشيخ أبى بكر الجزائرى
مكية
وآياتها تسع وثمانون آية
(4) وإنه
في أم الكتاب لدينا: أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير كلِّها عندنا. (لعلي حكيم)
أي لذو علو وشأن على الكتب قبله لا يوصل إلى مستواه في علوه ورفعته حكيم أي ذو
حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.
(5)
أفنضرب عنكم الذكر صفحاً: أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا أي لا ينزل القرآن بأمركم
ونهيكم ووعدكم ووعيدكم.( أن كنتم قوماً مسرفين) لأن كنتم قوما مسرفين متجاوزين
الحد في الشرك والكفر كلا لا نفعل. إذ الاستفهام للإنكار عليهم.
قرأ نافع
{إن كنتم} بكسر الهمزة وقرأ حفص {أن كنتم} بأن المصدرية. وإقحام "قوماً"
إشارة إلى أن الإسراف صار طبعاً لهم لا يفارقهم.
كم أرسلنا
إلى قوله في الأولين (أية 8) تضمن الكلام الإلهي أمرين الأول تسلية الرسول صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين والثاني تهديد المشركين المسرفين بأنهم
يتعرضون للهلاك الذي تعرضت له أمم قبلهم أشد منهم بطشاً وأكثر منهم قوة فأهلكوا
وبقوا أثراً بعد عين.
(8)
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي أهلكنا من هم أشد بطشا في تلك الأمم
الماضية لما كذبوا رسلنا واستهزأوا بهم فكيف بهؤلاء الذين هم أضعف منهم وأقل قوة
وقدرة فأحرى بهم أن لا يمتنعوا من عذابنا متى أردنا إنزاله بهم. وقوله {وَمَضَى
مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي مضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين كقوم عاد وثمود
وأصحاب مدين والمؤتفكات ألم يكن لقومك في ذلك عبرة لو كانوا يعتبرون؟
(10) قرأ
نافع مهاداً وقرأ عاصم مهداً. والمهاد اسم للشيء يمهد أي يوطأ ويسهل لما يحل فيه.
والمهد مراد به هنا المهاد. وكون الأرض مهداً لا ينافي كون جسمها كروياً.
(11) ماء
بقدر: أي على قدر الحاجة ولم يجعله طوفاناً مغرقاً ومهلكاً. فأنشرنا به بلدة
ميتاً: أي فأحيينا به بلدة ميتاً أي لا نبات فيها ولا زرع.
(12)
والذي خلق الأزواج كلها: أي خلق كل شيء إذ الأشياء كلها زوج ولم يعرف فرد إلا
الله. وتتجلى معجزة القرآن في الإخبار بالزوجية وقد قرر العلم الحديث نظام الزوجية
وحتى في الذرة فهي زوج موجب وسالب.
(13) وما
كنا له مقرنين: أي مطيقين ولا ضابطين. ومن هداية الأية مشروعية التسمية والذكر عند
ركوب ما يركب فإن كان سفينة أو سيارة قال العبد باسم الله مجراها ومرساها إن ربي
لغفور رحيم، وإن كان حيواناً قال عند الشروع باسم الله وإذا استوى قاعدا: سبحان
الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. روى أحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي أن علياً رضي الله عنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال
بسم الله فلما استوى عليها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له
مقرنين ثم حمد الله ثلاثاً وكبر الله ثلاثاً ثم قال سبحانك لا إله إلا الله ظلمت
نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقيل له مما ضحكت؟ فقال رأيت رسول الله فعل مثل ما فعلت ثم
ضحك فقلت مما ضحكت يا رسول الله فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجب الرب
تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربي اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب
غيري.
(15)
وجعلوا له من عباده جزاء: أي جعل أولئك المشركون المقرون بأن الله هو الذي خلق
السموات والأرض من عباده جزءاً إذ قالوا الملائكة بنات الله.
(17)
المراد من المثل: الأنثى بدليل قوله تعالى في سورة النحل {وإذا بشر أحدهم بالأنثى
ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} . وتفسيره بالولد أعمّ وأولى لأن النصارى كاليهود قبلهم
قالوا: عزير ابن الله، وعيسى ابن الله؛ وكذبوا، وقال بعض العرب: الملائكة بنات
الله؛ تعالى الله عن الولد- ذكرا أو أنثى- علواً كبيراً.
(18)
وقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ (1)
غَيْرُ مُبِينٍ} ينكر تعالى عليهم ويوبخهم على كذبهم وسوء فهمهم فيقول: أيجترئون
ويبلغون الغاية في سوء الأدب ويجعلون لله من يربى في الزينة لنقصانه وهو البنات،
وهو في الخصام غير مبين لخفة عقله حتى قيل ما أدلت امرأة بحجة إلا كانت عليها لا
لها. فقوله {غَيْرُ مُبِينٍ} أي غير مظهر للحجة لضعفه بالخِلقة وهي الأنثى والضمير
عائد على من في قوله {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} أي في الزينة.
في الآية
دليل على جواز لبس الذهب والحرير للنساء وهو إجماع إلا أن بعض السلف كان ينزه
بناته عنه لقول أبي هريرة إياك يا بنية والتحلي بالذهب فإني أخاف عليك اللهب، وقرأ
نافع {ينشأ} وقرأ حفص {ينشّأ} فالأول بتخفيف الشين والثاني بتشديدها الأول من:
أنشأ والثاني من نشأ.
ومن هداية
الأية : بيان ضعف المرأة ونقصانها ولذا تكمل بالزينة، وإن النقص فيها فطري في
البدن والعقل معا.
(19) قرأ نافع
عند الرحمن وقرأ حفص عباد الرحمن ولا منافاة والملائكة عند الرحمن في الملكوت
الأعلى في حضرة القدس يتلقون خطاب الله مباشرة بلا واسطة وهم في واقع الأمر عباد
الرحمن وجملة (الذين هم عند الرحمن إناثا) صفة للملائكة فهي في محل نصب.
(20)
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا
عَبَدْنَاهُمْ} . أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليه عبادة الملائكة
وغيرها من الأصنام قالوا: لو شاء الرحمن منا عدم عبادتهم ما عبدناهم. قال تعالى في
الرد عليهم {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى
بعبادتهم لهم، ما هم في قولهم ذلك إلا يخرصون أي يقولون بالخرص والكذب إذ العلم
يأتي من طريق الكتاب أو النبي ولا كتاب عندهم ولا نبي فيهم قال بقولتهم. ولذا قال
تعالى منكراً عليهم قولتهم الفاجرة {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ
فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ؟ لا لا، ما آتاهم الله من كتاب ولا جاءهم قبل محمد
من نذير إذاً فلا حجة لهم إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد الجهال الضلال وهو
ما حكاه تعالى عنهم في قوله: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ} أي ملة (1) {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي ماشون مقتفون
آثارهم وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ} أي رسول إلا قال مترفوها أي متنعموها بنضارة العيش وغضارته {إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي ملة ودين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
أي متبعون لهم فيها. فهذه سنة الأمم قبل أمتك يا رسولنا فلا تحزن عليهم ولا تك في
ضيق بما يقولون ويعتقدون ويفعلون أيضاً. وهو معنى قوله تعالى {وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} إلى آخر الآية. ومن هداية الأية : حرمة التقليد للآباء
وأهل البلاد والمشايخ فلا يقبل قول إلا بدليل من الشرع.
(24) قرأ
نافع والجمهور قل بصيغة الأمر وقرأ حفص قال بصيغة الماضي فيعود الضمير إلى نذير
الذين قالوا {إنا وجدنا آباءنا} .. الخ. وأما على قراءة نافع فهو أمر للرسول
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقول للمشركين ما أمره أن يقوله لهم.
(28)
وجعلها كلمة باقية في عقبه : أي وجعل
إبراهيم كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" باقية دائمة في ذريته إذ وصاهم
بها كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه.
لفظ العقب
الوارد في الآية وفي الحديث الصحيح من أعمر عُمرى فهي له ولعقبه فإنها للذي أعطيها
لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث قال ابن العربي ترد هذه
اللفظة على أحد عشر لفظاً وهي الولد والبنون والذرية والعقب والنسل والآل والقرابة
والعشيرة والقوم والموالي.
{بَلْ
مَتَّعْتُ (3) هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ
مُبِينٌ} أي بل لم يتحقق ما ترجاه إبراهيم كاملاً إذا أشرك من بنيه من أشرك ومنهم
هؤلاء المشركون المعاصرون لك أيها الرسول وآباءهم، ومتعهم بالحياة حتى جاءهم الحق
الذي هو هذا القرآن يتلوه هذا الرسول المبين أي الموضح لكل الأحكام والمبين لكل
الشرائع.
بل للإضراب
الإبطالي أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم كاملاً بل هناك من لم يرجع إلى التوحيد من
ذرية إبراهيم إذ جاء عمرو بن لحيّ بالأصنام وعبدها آباء هؤلاء وهم لها عابدون حتى
مجيء الحق ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(31)
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: أي وقال هؤلاء المشركون
الذين متعناهم بالحياة فلم نعاجلهم، هلاّ نزل هذا القرآن على أحد رجلين من قريتي
مكة أو الطائف أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. هذا
المشهور من الأقوال في الرجلين ومنهم من قال هما عمير بن عبد ياليل الثقفي من
الطائف وعتبة بن ربيعة من مكة وهو قول مجاهد، وقيل عظيم الطائف هو حبيب بن عمرو
أما القريتان فلا خلاف في أنهما مكة والطائف لكونهما أكبر مدن تهامة.
في قولهم
هذا معنى التهكم برسلهم إذ أثبتوا لهم الرسالة وهم مكذبون بها كقول قريش مال هذا
الرسول يأكل الطعام.
(32) أهم
يقسمون رحمة ربك: أي ينكر تعالى عليهم هذا التحكم والاقتراح الفاسد فقال أهم
يقسمون رحمة ربك إذ النبوة رحمة من أعظم الرحمات. وليس لهم حق في تنبئة أحد إذ هذا
من حق الله وحده.
نحن قسمنا
بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا: أي إذا كنا نحن نقسم بينهم معيشتهم فنغني هذا
ونفقر هذا ونملك هذا ونعزل هذا، فكيف بالنبوة وهي أجل وأغلى من الطعام والشراب
فنحن أحق بها منهم فننبئ من نشاء.
ليتخذ
بعضهم بعضاً سخرياً: أي جعلنا هذا غنيا وذاك فقيراً ليتخذ الغني الفقير خادماً
يسخره في خدمته بأجرة مقابل عمله.
ورحمة ربك
خير مما يجمعون: أي والجنة التي أعدها الله لك ولأتباعك خير من المال الذي يجمع
هؤلاء المشركون الكافرون.
(33)
ومعارج: أي كالسلم والمصعد الحديث والمعارج جمع معرج وهو المصعد. عليها يظهرون: أي
يعلون عليها إلى السطح.
وإن كل
ذلك لما متاع الحياة الدنيا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به الناس
ثم يزول ويذهب بزوالهم وذهابهم. والآخرة عند ربك أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم
للمتقين الذين آمنوا واتقوا الشرك والمعاصي وما عند الله خير مما عند الناس، وما
يبقى خير مما يفنى، ولذا قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف
"طين" لاختار العاقل الآخرة على الدنيا، وهو اختيار ما يبقى على ما
ينفى.
ومن هداية
الأيات : الميل إلى الدنيا وطلب متاعها فطري في الإنسان فلذا لو أعطيها الكافر
بكفره لمال إليها كل الناس وطلبوها بالكفر.
هوان
الدنيا على الله وعدم الاكتراث بها إذ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء
رواه الترمذي وصححه وفي صحيح مسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
(36) ومن
يعش عن ذكر الرحمن: أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذي هو القرآن متجاهلا
له.
نقيض له
شيطاناً: أي نجعل له شيطاناً يلازمه لإضلاله وإغوائه.
(41) فإما
نذهبن بك: أي فإن نذهبن بك أي نميتك (1) قبل تعذيبهم، وما زائدة أدغمت فيها إن
الشرطية فصارت إمّا.
أو
بالخروج من مكة مكرهاً عليه من قبل أعدائك، وهجرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ما كانت إلا بإرادته الحرة ولم يكن فيها مكرهاً ولا مُلجأ ولذا لم ينتقم
الله من أهل مكة كما هو في التفسير.
من هداية
الأية : من سنة الله في الأمم إذا أخرج الرسولَ قومُه مكرها انتقم الله تعالى له
منهم فأهلكهم.
(46)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} إيراد هذا القصص هنا كان لمشابهة حال قريش بحال فرعون من
جهة إذ قال رجال قريش لم لا يكون الرسول من ذوي المال والجاه كالوليد بن المغيرة
أو عروة بن مسعود وقال فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين أي حقير يعني موسى
عليه السلام.
(51 : 53)
ما زال السياق الكريم في قصة موسى مع فرعون قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} لأجل الافتخار والتطاول إرهاباً
للناس قال يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار أي أنهار النيل تجري من تحتي
أي من تحت قصوره، أفلا يبصرون فإذا أبصرتم فقولوا أنا خيرمن هذا الذي هو
مهين أي حقير يتولى الخدمة بنفسه، ولا يكاد يبين أي يفصح بلسانه لعلة به وهي
اللثغة أم هو؟. فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب أي هلاّ ألقى عليه من أرسله أساورة
من ذهب أو بعث معه الملائكة مقترنين يشهدون له بالرسالة.
أم أنا
خير (أم) المنقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي والتقدير بل أنا خير والاستفهام
تقريري أراد تفضيل نفسه على موسى عليه السلام والمهين: الذليل الذي لم يكن من بيوت
الشرف والجاه.
قرأ نافع
والجمهور أساورة جمع أسوار لغة في سوار، وقرأ حفص أسورة جمع سوار والمراد من قوله
ألقي عليه أساورة يريد إن كان ملكاً أو رسولا كما يزعم لم لا يلقى إليه من السماء
أساورة كالتي يلبسها ملوك فارس ومصر، أو تأتي معه الملائكة يشهدون له بالرسالة بما
يدعي وكل هذا من باب دفع معرة الهزيمة التي لحقته.
(57) قوله
تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ} روي أن ابنَ الزبعري قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لما نزلت آية الأنبياء إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها ورادون قال:
أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال ابن الزبعري خصمتك ورب الكعبة،
أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن
كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرح بها المشركون وضحكوا
وضجوا بالضحك مرتفعة أصواتهم بذلك ونزلت في هذه الحادثة الآية: {وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ (1) مَثَلاً} أي ولما جعل ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً إذ جعله
مشابها للأصنام من حيث أن النصارى اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله، وقال فإذا كان
عيسى والعزير والملائكة في النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم ففرح بها
المشركون وصدوا (1) وضجوا بالضحك. وقالوا آلهتنا خير أم هو أي المسيح؟ قال تعالى
لرسوله: ما ضربوه لك إلا جدلاً أي ما ضرب لك ابن الزبعري هذا المثل طلباً للحق
وبحثاً عنه وإنما ضربه لك لأجل الجدل والخصومة بل هم قوم خصمون مجبولون على الجدل
والخصام.
المراد
بالمثل هنا الممثل به والمشبه به لأن ابن الزبعري شبه آلهتهم بعيسى في أنها عبدت
من دون الله مثله فإذا كانوا في النار فعيسى كذلك.
قرأ نافع
يصدون من صد يصد عن كذا إذا أعرض فيصدون بمعنى يعرضون عن القرآن ويقولون إن فيه
تناقضاً من أجل فرية ابن الزبعري، وقرأ حفص يصدون بكسر الصاد من الصد بمعنى الصخب
والضجيج
(61) وإنه
لعلم للساعة: أي وإن عيسى عليه السلام لعلم للساعة تُعلم بنزوله إذا نزل. فلا
تمترن بها: أي لا تشكن فيها أي في إثباتها ولا في قربها.
وجائز أن
يكون الضمير في (وإنه) عائد إلى القرآن أو إلى المنزّل عليه محمد صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بعثت أنا
والساعة كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى مشيراً إليهما". وما في التفسير
مروي عن كبار التابعين مجاهد وقتادة وابن عباس الصاحب الجليل رضي الله عنهما ولذا
قدمته في التفسير.
{هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} أي ما ينظرون إلا الساعة لأنهم ما تابوا إلى الله
ولا راجعوا الحق فيما قالوه في عيسى بل أصروا: اليهود يصفونه بأخس الصفات والنصارى
يصفونه بالألوهية التي هي حق الله رب عيسى ورب العالمين أن تأتيهم بغتة أي فجأة
وهم لا يشعرون لأنهم مشغولون بالذرة والهدرجين والاستعمار والتجارة والانغماس في
الشهوات كما هو واقع ومشاهد اليوم. وصدق الله العظيم.
الجملة
مستأنفة بيانياً لما تقدم مما يثير في النفس تساؤلا فكان الجواب أن العذاب آت
وأهله ما ينظرون إلا الساعة وأهل العذاب هم المختلفون من أهل الكتاب والمشركين إذ
الجميع ظلموا بالشرك والكفر والتكذيب والآية تدعوهم إلى التوبة لينجوا من العذاب
الأليم.
(67) ذكر
القرطبي رواية عن النقاش أن هذه الآيات نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي
معيط كانا خليلين وكان عقبة يجالس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت
قريش قد صبأ عقبة فقال أمية له وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه
ففعل عقبة عليهما لعائن الله ذلك فنذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتله
فقتله يوم بدر صبراً وقتل أمية في المعركة ففيهم نزلت هذه الآية والآية عامة في كل
كافر وظالم.
(68) قرأ
نافع والجمهور يا عبادي بالياء بعد الدال وهي ياء المتكلم وقرأ حفص بحذفها تخفيفا
لدلالة اللفظ والسياق عليها. روي أن المنادي لما يقول يا عبادي لا خوف عليكم اليوم
ولا أنتم تحزنون يرفع أهل العرصة رؤوسهم فيقول المنادي الذين آمنوا بآياتنا وكانوا
مسلمين فينكس أهل الأديان رؤوسهم إلا المسلمين.
(71) في
الصحيحين عن حذيفة أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول
"لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا
في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". وفي صحيح مسلم أن أهل الجنة
يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا فمال
الطعام؟ قال جشأ ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير.
(77)
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا (2) رَبُّكَ} يخبر تعالى أن أصحاب ذلك
العذاب الدائم الذي لا يفتر فيخفف نادوا مالكاً خازن النار وقالوا له ليمتنا ربك
فنستريح من العذاب فأجابهم مالك بعد ألف (3) سنة قائلاً قال أي ربي إنكم ماكثون أي
في عذاب جهنم، وعلل لهذا الحكم بالمكث أبداً فقال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ
بِالْحَقِّ} أي أرسلنا إليكم رسولنا بالحق يدعوكم إليه وهو الإيمان والعمل الصالح
المزكي للنفوس فكره أكثركم (4) ذلك فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحاً مؤثرين شهوات
الدنيا على الآخرة فمتم على الشرك والكفر فهذا جزاء الكافرين.
(79){أَمْ
أَبْرَمُوا (1) أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} أي بل أبرم هؤلاء المشركون أمراً
يكيدون فيه للرسول ودعوته فإن فعلوا ذلك فإنا مبرمون أي محكمون أمراً مضاف لهم
بتعذيبهم وإبطال ما أحكموه من الكيد للرسول ودعوته.
أم
المنقطعة تفسر ببل للإضراب الانتقالي والاستفهام محذوف الأداة تخفيفاً أي أأبرموا
أمراً والاستفهام تقريري والمراد بالأمر ما يبيتونه من مكر بالرسول صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمعوا عليه وهو قتله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك
في دار الندوة فأبرم الله أمراً فأهلكهم في بدر.
(80)
وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} نسمع
ذلك ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ما يقولون سراً وجهراً. روي أن ثلاثة نفر
قالوا وهم تحت أستار الكعبة فقال أحدهم أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم إذا
جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع وقال الثاني إن كان يسمع إذا أعلنتم فإنه يسمع إذا
أسررتم فنزلت {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ (2) وَنَجْوَاهُمْ}
أي نسمع سرهم ونجواهم.
(81) قل
إن كان للرحمن ولد: أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الزاعمين أن الملائكة بنات
الله إن كان للرحمن ولد فرضاً.
سبق أن
بكّت تعالى المشركين في دعواهم أن الملائكة بنات الله وتوعدهم بالعذاب على قولهم
الباطل وهنا قال لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل لهم إن كان
للرحمن (1) ولد كما تفترون فرضاً وتقديراً فأنا أول العابدين له (له أي لذلك الولد
لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد إلا أنه لا ولد له ولا ينبغي له لغناه المطلق.)
، ولكن لم يكن للرحمن ولد. فلم أكن لأعبد غير
الله تعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . (84) {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أي معبود في السماء ومعبود في الأرض أي معظم غاية
التعظيم، ومحبوب غاية الحب ومتذلل له غاية الذل في الأرض والسماء وهو الحكيم في
صنعه وتدبيره العليم بأحوال خلقه فهل مثله تعالى يفتقر إلى زوجة وولد تعالى
(86)
{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} وقوله تعالى
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي استثنى الله تعالى أن من
شهد بالحق أي بأنه لا إله إلا الله، وهو يعلم ذلك علماً يقيناً فهذا قد يشفع له
الملائكة أو الأنبياء فقال عز وجل {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} (2) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فالموحدون تنالهم الشفاعة بإذن الله
تعالى. وهم يعلمون الجملة حالية وفي هذا
دليل على أن من لم يفهم معنى لا إله إلا الله ويقولها لا تنفعه ولا ينال بها
الشفاعة يوم القيامة إذ لا بد من فهمه ماذا نفى وماذا أثبت ولذا إيمان المقلد
اختلف في صحته أهل العلم.
Comments