مختصر
تفسير سورة يس من أيسر التفاسير للشيخ أبى بكر الجزائرى
مكية وآياتها
ثلاث وثمانون آية
كره مالك رحمه الله تعالى التسمية
بيس وهو كذلك لعدم علمنا بالمراد منه وليس هو باسم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذ ذكر أسماءه الخمسة ولم يذكر بينها يس ولا حجة في قول الرافضي:
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة
على المودة إلا آل ياسين
تنزيل العزيز الرحيم: أي القرآن
(1) تنزيل العزيز في انتقامه ممن كفر به الرحيم بمن تاب إليه.
{لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ
آبَاؤُهُمْ} أي أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب لأجل أن تنذر قوماً ما أنذر آباؤهم من
فترة طويلة وهم مشركو العرب إذ لم يأتهم رسول من بعد إسماعيل عليه السلام {فَهُمْ
غَافِلُونَ} أي لا يدرون عاقبة ما هم عليه من الشرك والشر والفساد، ومعنى تنذرهم
تخوفهم عذاب الله تعالى المترتب على الشرك والمعاصي.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى
أَكْثَرِهِمْ} أي أكثر خصوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كفار قريش
كأبي جهل حق عليهم القول الذي هو قوله تعالى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فوجب لهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون إذ لو
آمنوا لما عذبوا، وعدم إيمانهم لم يكن مفروضاً عليهم وإنما هو باختيارهم وحرية
إرادتهم إذ لو كان جبراً لما استحقوا العذاب عليه. وقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا
فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ} أي أيديهم {إِلَى الْأَذْقَانِ} مشدودة
بالأغلال {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، وهذا تمثيل
لحالهم في عدم مدّ أيديهم للإنفاق في الخير، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق.
وقوله {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم
زينت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم مانع لهم من الإيمان
وترك الشرك والمعاصي، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سداً
من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة . ومن هداية
الأية بيان أن حب الدنيا والإقبال عليها والإعراض عن الآخرة وعدم الالتفات إليها
يضعان الإنسان بين حاجزين
وقوله تعالى {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}
هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وبغض ما جاء به من فهم لذلك عمى لا يبصرون.. ومن هداية الأية : بيان أن
الذنوب تقيد صاحبها وتحول بينه وبين فعل الخير أو قبول الحق.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى}
أي للبعث والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير
وشر، {وَآثَارَهُمْ} أي ونكتب آثارهم وهو ما استُن به من سننهم الحسنة أو السيئة ، و شاهده حديث مسلم
عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له
أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام
سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم
شيء" وكذا حديثه الآخر: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث من علم ينتفع
به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده. ومن هداية الأية : بيان أن من سن
سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده يجزى بها كما يجزى على عمله الذي باشره بيده.
اضرب أي اجعل والمثل للتشبيه
والمعنى اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شبهاً لأهل مكة وإرسالك إليهم.
أصحاب القرية: أي أنطاكية عاصمة
بلاد يقال لها العواصم بأرض الروم.
إذ جاءها المرسلون: أي رسل عيسى
عليه السلام. كان أهل أنطاكيا من اليهود ومن اليونان.
فعززنا بثالث: أي قوينا أمر
الرسولين ودعوتهما برسول ثالث وهو حبيب النجار.
إنا تطيرنا بكم: أي تشاءمنا بكم
وذلك لانقطاع المطر عنا بسببكم.
قالوا طائركم معكم: أي شؤمكم معكم
وهو كفركم بربكم.
أئن ذكرتم: أوعظتم وخوفتم تطيرتم
وهذا توبيخ لهم.
بل أنتم قوم مسرفون: أي متجاوزون
للحد في الشرك والكفر.
ما جاء في التفسير من كون الرسل هم
رسل عيسى عليه السلام، وأن القرية هي أنطاكية - هو ما عليه أكثر المفسرين مثل
قتادة وابن جرير وغيرهما، إلا أن ابن كثير رحمه الله تعالى رجّح أن الرسل رسل من
الله تعالى، وأن القرية ليست أنطاكية، وحجته فيما رآه أن الله تعالى لم يهلك أمة
بعد نزول التوراة، وهذه القرية أهلك أهلها. وهذه غفلة منه رحمه الله تعالى إذ أهلك
الله أهل قرية كانت حاضرة البحر، ومسخ أهلها قردة وخنازير على عهد داود بعد نزول
التوراة بقرن وإنما رفع هلاك العامّة بعد بعثة النبي محمد نبي الرحمة صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} أي قوم حبيب بن النجار {مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد
موته {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} للانتقام من قومه الذين قتلوه لأنه أنكر عليهم
الشرك ودعاهم إلى التوحيد وما كنا منزلين إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك. إن كانت إلا
صيحة واحدة من جبريل عليه السلام فإذا هم خامدون أي هلكى ساكنون ميتون لا حراك لهم
ولا حياة فيهم وقوله تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا حسرة العباد على
أنفسهم احضري أيتها الحسرة هذا أوان حضورك {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
كَانُوا بِهِ (5) يَسْتَهْزِئُونَ} هذا موجب الحسرة ومقتضاها وهو استهزاؤهم
بالرسل.
{أَلَمْ يَرَوْا} أي أهل مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي ألم يعلموا القرون الكثيرة التي أهلكناها قبلهم
كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين، {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} فيكون
هذا هاديا لهم واعظاً فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويسعدوا. وقوله تعالى
{وَإِنْ كُلٌّ} أي من الأمم الهالكة وغيرها من سائر العباد {لَمَّا جَمِيعٌ
لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي إلا لدينا محضرون لفصل القضاء يوم القيامة فينجو
المؤمنون ويهلك الكافرون.
وآية لهم الأرض الميتة: أي على صحة
البعث ووجوده لا محالة.
أحييناها: بإنزال المطر عليها
فأصبحت حيّة بالنبات والزروع.
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار:
وآية لهم على إمكان البعث الليل نسلخ منه النهار أي نزيل النهار عن الليل فإذا هم
مظلمون بالليل.
لمستقر لها: أي مكان لها لا
تتجاوزه.
ذلك تقدير العزيز العليم: أي جريها
في فلكها تقدير أي تقنين العزيز في ملكه العليم بكل خلقه.
والقمر قدرناه منازل: وآية أخرى هي
تقدير منازل القمر التي هي ثمان وعشرون منزلة.
حتى عاد كالعرجون القديم: أي حتى
رجع كعود العذق الذي أصله في النخلة وآخره في الشماريخ وهو أصفر دقيق مقوس كالقمر
لما يكون في آخر الشهر.
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر:
أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر فيجتمعان في الليل.
ولا الليل سابق النهار: أي بأن
يأتي قبل انقضائه.
من هداية الآيات:إقامة الأدلة
القاطعة والبراهين الساطعة على إمكان البعث ووقوعه حتماً ؛ ذكر القرآن لأمور الفلك
التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزء يسير آية عظمى على أنه وحي الله وأن من
أوحي إليه هو رسول الله قطعاً.
ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من
الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب
وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا
له في طاعته وطاعة رسوله.
وآية لهم: أي وعلامة لهم على
قدرتنا على البعث.
أنا حلمنا ذريتهم: أي ذريات قوم
نوح الذين أهلكناهم بالطوفان: نجينا ذريتهم لأنهم مؤمنون موحدون وأغرقنا آباءهم
لأنهم مشركون.
في الفلك المشحون: أي في سفينة نوح
المملوءة بالأزواج من كل صنف.
وخلقنا لهم من مثله: أي من مثل فلك
نوح ما يركبون.
الإشارة بالمثلية في قوله {من
مثله} إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية.
ما ينظرون إلا صيحة واحدة: أي ما
ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل.
تأخذهم وهم يخصمون: أي تأخذهم
الصيحة وهم يتخاصمون في البيع والشراء والأكل والشرب إذ تأتيهم بغتة وهم
لا يشعرون.
فلا يستطيعون توصية: أي فلا يقدر
أحدهم أن يوصي وصيّة.
فإذا هم من الأجداث: أي القبور إلى
ربهم ينسلون أي يخرجون بسرعة.
قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
} أي وإذا قيل لأولئك المشركين المكذبين الملاحدة والقائل هم المؤمنون فقد روي أن
أبا بكر الصديق كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال يا أبا بكر أتزعم أن
الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لا يطعمهم؟ قال ابتلى قوماً
بالفقر وقوماً بالغنى وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء، فقال أبو جهل،
والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال مبين. أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء،
وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت هذه الآية وبهذه الرواية اتضح معنى الآية
الكريمة اختلف في من هذه قولته؟ وما في
التفسير وأنها قولة أبي جهل لأبي بكر أرجحها وأقربها إلى واقع الحال وألصق بالسياق
ولا مانع أن يقولها الزنادقة والملاحدة والمستهزئون في كل زمان ومكان.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول أولئك الملاحدة المكذبون بالبعث
استهزاء واستعجالاً: متى هذا الوعد الذي تعدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين
في دعواكم.
الاستفهام للاستبعاد وهو مشوب
بالسخرية والاستخفاف لأنه ناجم عن قلوب مظلمة من جراء الكفر والإلحاد .
الانقلاب الكوني الذي يحدث لعظمه
اختلفت آراء أهل العلم في تحديد النفخات فيه والظاهر أنها أربع الأولى نفخة الفناء
والثانية نفخة البعث والثالثة نفخة الفزع
والصعق والرابعة نفخة القيام بين يدي رب العالمين.
وامتازوا اليوم أيها المجرمون: أي
انفردوا عن المؤمنين وانحازوا على جهة وسيروا أيها الصالحون إلى الجنة.
يقال مازه فانماز وامتاز، وميره
فتميّز وامتاز أمر من امتاز ويمتاز إذا انفرد عما كان مختلطاً به، والمراد بذلك
سوقهم إلى النار بعد أن دخل المؤمنون الجنة.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ
جِبِلّاً} أي خلقاً كثيراً هذا من كلام الله الموبخ به للمجرمين.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى
أَعْيُنِهِمْ} فأعميناهم {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} أي ابتدروا الطريق كعادتهم
فأنى يبصرون الطريق وقد طمس على أعينهم فلا مقلة فيها ولا حاجب، ولكن الله لم يشأ
ذلك لرحمته وحلمه على عباده، وقوله {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى
مَكَانَتِهِمْ } أي ولو نشاء مسخ هؤلاء المجرمين من المشركين لمسخناهم في أماكنهم
من منازلهم فلا يستطيعون مضياً في الطريق ولا رجوع إلى خلف أي لا ذهاباً ولا
إياباً، وقوله تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} فنرده رأساً
على عقب فكما كان طفلاً ينموا شيئا فشيئاً في قواه العقلية والبدنية حتى شبّ
واكتهل فكذلك ننكسه في خلقه فيأخذ يضعف في
قواه العقلية والبدنية يوماً فيوماً حتى يصبح أضعف عقلاً وبدناً منه وهو طفل.
قرأ الجمهور ننكسه بفتح النون
الأولى وسكون الثانية مضارع نكس رأسه وقرأها عاصم نُنكسه بضم النون الأولى وفتح الثانية
وكسر الكاف مشددة.
واتخذوا من دون الله آلهة: أي
أصناماً يعبدونها زعماً منهم أنها تنصرهم بشفاعتها لهم عند الله.
لا يستطيعون نصرهم: أي لا تقدر تلك
الأصنام على نصرهم بدفع العذاب عنهم.
وهم لهم جند محضرون: أي لا يقدرون
على نصرتهم والحال أنهم أي المشركين جندٌ محضرون لتلك الآلهة ينصرونها من أن يمسها
أحد بسوء فبدل أن تنصرهم هم ينصرونها كجند معبئون لنصرتها.
بيان سخف المشركين في عبادتهم
أصناماً يرجون نصرتها وهم جند معبأ لنصرتها من أن يمسها أحد بسوء.
أولم ير الإنسان: أي المنكر للبعث
كالعاص بن وائل السهمي، وأبيّ بن خلف.
ما زال السياق الكريم في تقرير
عقيدة البعث والجزاء تلك العقيدة التي يتوقف عليها غالباً هداية الإنسان وإصلاحه
فقال تعالى ردّاً على العاص بن وائل السهمي وأبي بن خلف حيث جاء إلى رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يده عظم ففته وذراه وقال أتزعم يا محمد أن
الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم يميتك ثم يحييك ثم يحشرك إلى جهنم ونزلت هذه الآيات
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ } أي أينكر البعث وهو يعلم أنا خلقناه من نطفة أي من
ماء مهين وسويناه رجلاً فإذا هو خصيم لنا أي مخاصم يرد علينا ويشرك بنا وينكر
إحياءنا للأموات وبعثهم يوم القيامة فكيف يعمى هذا العمى ويجهل هذا الجهل القبيح،
إذ القادر على البدء قادر عقلاً على الإعادة وهي أهون عليه.
من الشجر الأخضر ناراً: أي من شجر
المرخ والعفار يحك أحدهما على الآخر فتشتعل النار.
بقادر على أن يخلق مثلهم: أي مثل
الأناسي.
وهذا الكلام مستأنف ابتدائياً
الغرض إقامة الحجة العقلية على صحة البعث وإمكانه وهو ما أنكره المشركون واستبعدوه
فذكر لهم أن الذي يخرج من الماء الرطب البارد النار وهما لا يجتمعان، قادر على
إخراج الضد من الضد وهو على كل شيء قدير.
Comments