U3F1ZWV6ZTE3NDMwODE4MzA4MTc5X0ZyZWUxMDk5Njg2NzQ0NjUyNQ==
أبحث فى جوجل
أبحث فى جوجل
إعلان

التفسير الميسر لسورة ال عمران (مختصر تفسير سور ال عمران) للشيخ أبى بكر الجزائرى (ايسر التفاسير)



مختصر تفسير سورة ال عمران
من أيسر التفاسير للشيخ أبى بكر الجزائرى

أخرج ابن جرير الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد نجران والمكون من ستين راكباً فيهم أشرافهم وأهل الحل والعقد منهم، وفدوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحاجونه في أمر المسيح عليه السلام، ويريدون أن يثبتوا إلهيته بالإدعاء الباطل فأنزل الله تعالى نيفاً وثمانين آية من فاتحة السورة {ألم} إلى ما يقرب الثمانين. وذلك رداً لباطلهم، وإقامة للحجة عليهم، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحاً جلياً في السياق القرآني في هذه الآيات.
وكان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة من الهجرة التي هي عام الوفود، ولذا كان آخر السورة متقدماً في النزول عن أولها، إذ آخرها كان في غزوة أحد، وكانت في السنة الثالثة.
بداية السورة : إلى قوله تعالى : زين للناس حب الشهوات .... (14)
 (2) الله : اسم علم على ذات الرب تبارك وتعالى ومعناه: الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، ولذا فسرناه في التفسير بأنه المعبود الحق لكونه الإله الحق الذي لا يعبد بحق غيره. {الْحَيُّ} : ذو الحياة المستلزمة للإرادة والعلم والسمع والبصر والقدرة. {الْقَيُّومُ} : القيم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ.
قوله: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذه الجملة مع جملة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قيل: أن فيهما اسم الله الأعظم.
(3) {بِالْحَقِّ} : متلبساً به إذ كل ما فيه حق وصدق لا باطل فيه بأي وجه من الوجوه. {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : من الكتب السابقة لا يخالفها ولا يبطلها؛ لأن مصدر الجميع واحد هو الله تعالى.ومعنى بين يديه: أنها تقدمته في النزول فكانت كأنها أمامه وهو وراءها، وهو معنى: بين يديه. {التَّوْرَاةَ}: كتاب موسى عليه السلام ومعناه بالعبرية الشريعة .{وَالأِنْجِيلَ}: كتاب عيسى عليه السلام ومعناه باليونانية: التعليم الجديد. الإنجيل، قيل: معناه الأصل، إذ هو أصل العلوم والحكم، وجمعه: أناجيل، وجمع التوراة: توارٍ.
(4) {الْفُرْقَانَ}: ما فرق الله به بين الحق والباطل من الحجج القرآنية والمعجزات الإلهية والعقول النيرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود والهوى. وفسر الفرقان بالقرآن، وهو حق لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، وسمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل. الفرقان: وإن أطلق على القرآن لكونه فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد، فإنه يطلق على كل ما يفرق بين الهدى والضلال؛ كالمعجزات، وما يحصل للمؤمن المتقي من نور يفرق بين الضار والنافع، والخطأ والصواب.

 (7) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ} إلى: {أوليِ الأَلْبَابْ} ثم قال: "إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله: فاحذروهم". {مُحْكَمَاتٌ} : الظاهرة الدلالة البينة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود، وعبادات، وعبر وعظات. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: المحكمات، أي: في القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه. {مُتَشَابِهَاتٌ} : غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخون في العلم القول فيها وهي كفواتح السور، وكأمور الغيب (قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور) ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه السلام: { ... وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ... } وكقوله تعالى: { ... إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ..} كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة؛ لأنه يقول نخلق ونحيي، ونميت، وهذا كلام جماعة فأكثر، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى: { ... وَرُوحٌ مِنْهُ ... } أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى: { ... إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ... } فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا علياً وخرجوا عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على ومعاوية، وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى، وأن الراسخين4 في العلم يفوضون أمره إلى الله منزله فيقولون { ... آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَاب} وروى أن ابن عباس رضي الله عنه قال: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله". كما يروى هذا عن عائشة وغيرها.
الجمهور على أن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} ومن هنا قالوا: لا يعلم المتشابهة إلا الله، وهو مما استأثر به دون عباده ومن قال: "أن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معطوف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} ، قالوا: إن الراسخين في العلم قد يعلمون المتشابه دون البعض ويدل عليه قولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي: ما علمناه وما لم نعلمه، وروى أن ابن عباس قال: "أنا ممن يعلم تأويله".
{فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} : الزيغ: الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.
{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} : أي: طلباً لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} : طلباً لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} : وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.
قال أهل العلم: التشابه يكون حقيقياً وإضافياً. فالحقيقي لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} ، والإضافي: ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى طلب دليل آخر، فإذا طلبه العالم وجده وهو كثير. منه قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهذا يبين معناه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} .
وأهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه يجب هجرانهم والإعراض عنهم؛ لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} : هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلون ولا يشتطون في شبهة أو باطل.
روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل عن الراسخين في العلم: "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه".
(8) {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} : أي: لا تمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرفتنا به فعرفناه.
سئلت أم سلمة رضي الله عنها في حديث حسن رواه الترمذي عن ما كان أكثر دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندها فقالت: "كان أكثر دعاؤه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
(12) {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : هم يهود المدينة بنو قينقاع.
(13){آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} : علامة واضحة، والفئتان: المسلمون وقريش إلتقتا في بدر.
والفئة: الجماعة من الناس، وسميت فئة لأنه يفاء إليها، أي: يرجع إليها في وقت اشتداد الحرب.
أمر الله تعالى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول ليهود المدينة الذين قالوا للرسول لا يغرنك أنك قاتلت من لا يحسن الحرب فانتصرت عليهم يريدون قريشاً في موقعة بدر، إنك إن قاتلتنا ستعلم أنا نحن الناس، لما قالوا قولتهم هذه يهددون بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين أمره أن يقول لهم {سَتُغْلَبُونَ} يريد في المعركة وتنهزمون وتموتون، وبعد موتكم تحشرون إلى جهنم وبئس المهاد جهنم مهدتموها لأنفسكم بكفركم وعنادكم وجحودكم للحق بعد معرفته. وفتح أعينهم على حقيقة لو تأملوها لما تورطوا في حرب الرسول حتى هزمهم وقتل من قتل منهم وأجلى من أجلاهم. وهي أن المسلمين الذين قاتلوا المشركين في بدر وانتصروا عليهم كانوا أقل عدد وأنقص عدة، ومع ذلك انتصروا؛ لأنهم يقاتلون في سبيل الله، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت والشرك والظلم والطغيان، ونصر الله الفئة القليلة المسلمة وهزم الفئة الكافرة الكثيرة،إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان عدد المشركين رابياً على التسعمائة مقاتل. فلو اعتبر اليهود بهذه الحقيقة لما تورطوا في حرب مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وهي البصائر.
(14) {الشَّهَوَاتِ} : جمع شهوة بمعنى المشتهى طبعاً وغريزة؛ كالطعام والشراب اللذيذين.
الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ: القنطار: ألف ومائة أوقية فضة، والمقنطرة: الكثيرة بعضها فوق بعض.
الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ: ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد.
الأَنْعَامِ: الإبل والبقر والغنم وهي الماشية.
الْحَرْثِ : الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة.
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"، ومعناه: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مغاور المكاره والصبر عليها، وأن النار لا ينجي منها إلا ترك الشهوات وفطام النفس عنها.
روى الشيخان عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء". وفي حديث آخر: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم.
من هداية الأية  : يزين الله تعالى بمعنى يجعل الشيء زيناً محبوباً للناس للإبتلاء والاختبار قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ويزين الشيطان للإضلال والإغواء، فالله يزين الزين ويقبح القبيح، والشيطان يزين القبيح، ويقبح الزين. فانظر الفرق وتأمل.
المزينات في هذه الآية من تزيين الله تعالى للابتلاء، وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح إلا إذا طلبت من غير حلها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلاق آخذها أو طغت عليه محبتها فأنسته لقاء الله وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين.
وكل ما في الدنيا مجرد متاع، والمتاع دائماً قليل وزائل فعلى العاقل أن ينظر إليه كما هو فلا يطلبه بما يحرمه حسن المآب عند الله. اللهم لا تحرمنا حسن مآبك يا الله يا رحمن يا رحيم.
المآب: المرجع، يقال: آب يؤب أوباً، ومآباً إذا رجع، ومنه قول امرؤ القيس:
وقد طفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
والمراد بالمآب: ما أعده الله تعالى لأولياءه من النعيم المقيم في دار السلام.
الربع الأول : من الأية 15 : قوله تعالى : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ، إلى قوله تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)
(15) أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ: زوجات: هي الحور العين نقيات من دم الحيض والبوم وكل أذى وقذر.
من هداية الأية : نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا مهما كان.
نعيم الآخرة خاص بالمتقين الأبرار، ونعيم الدنيا غالباً ما يكون للفجار.
(17) الصَّابِرِينَ: على الطاعات لا يفارقونها وعلى المكروه لا يتسخطون، وعن المعاصي لا يقارفونها.
الصَّادِقِينَ: في إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم.
الْقَانِتِينَ: العابدين المحسنين الداعين الضارعين.
الْمُنْفِقِينَ: المؤدين للزكاة المتصدقين بفضول أموالهم.
الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ: السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور.
والمختار من ألفاظ الاستغفار ما رواه الطبراني: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبو لك بنعمتك عليّ، وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وقول العبد: "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ومن هداية الأية : استحباب الضراعة والدعاء والاستغفار في آخر الليل.
شاهده ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: "أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له. فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر". رواه مسلم
(18) روى الكلبي، ونقل ذلك القرطبي فقال: "لما ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدم عليه حبران من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة، قالا أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك. وصدقناك. فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسألاني: فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله تعالى على نبيه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} الآية.
و في عطف شهادة أولي العلم على شهادة الله تعالى شرف كبير لأولي العلم، وفي الحديث: "أن العلماء ورثة الأنبياء"، "العلماء أمناء الله على خلقه".
وورد أن من قال عند تلاوة هذه الآية: {شَهِدَ اللهُ} إلخ. وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة -يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول عز وجل: "عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة".
من هداية الأية : شهادة الله أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم.
(19) {الإِسْلامُ} : الانقياد لله بالطاعة والخلوص من الشرك، والمراد به هنا ملة الإسلام.
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ} صيغة حصر، أي: حصر المسند إليه الذي هو الدين في المسند الذي هو الإسلام، أي: لا دين إلا الإسلام، وقد أكد هذا الحصر بحرف التوكيد: إن، والمعنى: إن الدين الصحيح هو الإسلام لا غيره. وقوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ} أى في حكمه وقضائه الإسلام، وما عداه فلا يقبله ولا يرضاه.وحقيقة الإسلام الشرعية: إنه اعتقاد الحق والنطق به، والعمل بموجبه، عبادة وخلقاً وحكماً حتى تكون حياة المسلم كلها وفق مراد الله تعالى منه وما دعاه إليه وخلقه من أجله. ويشهد لهذه الحقيقة ما رواه البخاري: " أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضوءه ويناوله لعنه فمرض فآتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل عليه وأبوه قائم عند رأسه، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا فلان قل لا إله إلا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: الحمد لله الذي أخرجه بي من النار".
 ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران، المجادلين لرسوله، في شأن تأليه عيسى بالباطل فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} يريد أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته ولكن كان عن علم حقيقي وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن والحروب وضياع الدين، البغي والحسد إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية والدنيوية لها دون غيرها، وبذلك يفسد أمر الدين والدنيا، وهذه سنة بشرية تورط فيها المسلمون بعد القرون المفضلة أيضاً
من هداية الأية : بطلان كل دين بعد الإسلام وكل ملة غير ملته لشهادة الله تعالى بذلك وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآية (85) من هذه السورة والآتي تفسيرها إن شاء الله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو فى الأخرة من الخاسرين .
الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في المطاعم والمشارب، ويتشوقون إلى الكراسي والمناصب، ويرغبون في الشرف يومئذ يختلفون بغياً بينهم وحسداً لبعضهم بعضاً.
(20) من هداية الأية : من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفاً في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسلام.
من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه.
(21) روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: "رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} إلخ. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعون نبياً أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى".
و ذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرسون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم" قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: "الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم". الرذالة: كالحسالة. ومعناه: فيمن لا خير فيهم.
من هداية الأية : قتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كقتل الأنبياء في عظم الحرم.
(22) من هداية الأية : الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة.
من خذله الله تعالى لا ينصره أحد، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد.
(23) قال ابن عباس: "هذه الآية  نزلت بسبب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على يهود في بيت المدراس فدعاهم إلى الإسلام فقالوا له: على أي دين أنت؟ فقال: " على ملة إبراهيم"، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم". فأبوا عليه. فنزلت هذه الآية".
و الآية دليل على وجوب من دعا إلى التحاكم إلى شرع الله أن يجيب إلى ذلك ولا يمتنع وإلا يقدح في إيمانه.
{أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} : اعطوا حظاً وقسطاً من التوراة.
{يُدْعَوْنَ} : يُطلب إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة فيأبون ويعرضون.
{يَتَوَلَّى} : يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق.
(24) {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} : هذا قول اليهود ويعنون بالأيام الأربعين يوماً تلك التي عبدوا فيها العجل بعد غياب موسى عليه السلام عنهم.
من هداية الأية : من الإعراض عن الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء: 65]
 (24) من هداية الأية
أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والابتداع عليها والقول فيها بغير علم.
 مضرة الاغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا.
فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقي فيها أهل الظلم والفساد وفي القرآن: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [سورة ص: 46]
(26) {اللهُمَّ} : يا الله حذف حرف النداء "يا" وعوض عنه الميم المشددة وهو خاص بنداء الله تعالى.
(27) {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : أي تخرج جسماً حياً من جسم ميت في المحسوسات؛ كالدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} : بغير عدد ولا حد لواسع فضله وغناه عما سواه.
والرزق هو كل ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام على اختلافه من حب وتمر ولحم وعلى كل ما يحتاج إليه الإنسان في حفظ دنيته صالحة للعبادة.
من المناسبات التي قيلت في نزول هاتين الآيتين(26 ، 27)  أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحاديث صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم وكفرهم فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ضمن الرد على نصارى نجران فأمره أن يقول: {اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ... } إلخ
وذكر القرطبي: أن النضر بن شميل، قال: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسماؤه كلها، وقال الحسن البصري: "اللهم: تجمع الدعاء".وأخرج أبو نعيم في الحلية أن معاذاً حبس يوماً عن صلاة الجمعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عما حبسه فقال: كان على دين ليحنا اليهودي، فوقف عند بابي يرصدني، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتحب أن يقضي عنك ربك؟ " قال: قلت: نعم. قال: اقرأ كل يوم {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ثم قل: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء، اقضي عني ديني. فلو كان عليك ملء الأرض ذهباً لأداها عنك".
(28) {تُقَاةً} : وقاية باللسان وهما الكلمة الملينة للجانب، المبعدة للبغضاء.
و قال ابن عباس: "التقاة هي: أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً، وقرئ: {إلا أن تتقوا منهم تقية} ، وقالوا في التقية: أن يكون المؤمن في دار الكفار قائماً بينهم فله أن يداريهم بلسانه إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان. وأصل تقاة: وقي على وزن فعلة، كتؤدة، فقلبت الواو تاء وقلبت الياء ألفاً فصارت تقاة.
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} : أي: يخوفكم عقابه إن عصيتموه.
روى البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا لنكشر في أقوام وقلوبنا تلعنهم" يريد المنافقين. والتكشير: كالابتسام إلا أنه متكلف فيه.
(30){وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} مؤكداً التحذير الأول به، ويختم الآية بقوله: {وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} ، ونعم ما ختم به إذ لولاه لطارت قلوب العالمين فزعاً وخوفاً فذو الرأفة بعباده ولا يوأس من رحمته.
(31) لما ادعى وفد نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولأمه إنما هو من باب طلب حب الله تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم، أمر الله تعالى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية أن يقول لهم: إن كنتم تحبون الله تعالى ليحبكم فاتبعوني على ما جئت به من التوحيد والعبادة يحببكم الله تعالى، ويغفر لكم ذنوبكم أيضاً وهو الغفور الرحيم. وبهذا أبطل دعواهم في أنهم ما ألهوا المسيح عليه السلام إلا طلباً لحب الله تعالى والحصول عليه. وأرشدهم إلى أمثل طريق على حب الله تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من الإيمان والتوحيد والعبادة المزكية بالروح المورثة لحب الله تعالى
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
والحب: الميل إلى ما في إدراكه لذة روحية؛ كحب الله ورسوله وحب ما يحب الله ورسوله، ويستلزم الحب طاعة المحبوب، قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
(32) أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال والإسعاد في الدنيا والآخرة. فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد باءوا بغضب الله وسخطه عليهم؛ لأنهم كافرون والله لا يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
الربع الثانى : من قوله تعالى : إن الله أصطفى أدم ونوحاً .. (33) إلى قوله تعالى : إن الله ربكم وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم  (51)
(33) اصطفاء آدم كان بالوحي إليه وبإكرام له بأن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته واصطفاء نوح بإرساله وجعله أبا للبشر بعد الطوفان، وبإطالة عمره وأهلاك الظالمين بدعوته، وآل إبراهيم بأن جعل النبوة بعد إبراهيم فيهم وختمهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرهم وسيد أولهم وآخرهم. واصطفى آل عمران ومنهم: حنا ومريم، وعيسى اصطفاهم بكلمات لم تكن لأحد في أيامهم سواهم.
آلَ إِبْرَاهِيمَ} : آل الرجل: أهله واتباعه على دينه الحق.
{عِمْرَانَ} : رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل في عهدهم الأخير: هو زوج حنة وأبو مريم عليهم السلام.
(35) {امْرَأَتُ عِمْرَانَ} : هي حنة بنت ماقودة، مات زوجها وهي حبلى.
{مُحَرَّراً} : خالصاً لا شركة فيه لأحد غير الله بحيث لا تنتفع به أبداً.أي خالصاً لعبادة الله لا تبقي بها أنسا لها ولا خدمة.
(36) {إِنِّي أُعِيذُهَا} : أحصنها وأحفظها بجنابك من الشيطان.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} : زكريا أبو يحي عليهما السلام وكانت امرأته أختاً لحنة.
{الْمِحْرَابَ} : مقصورة ملاصقة للمسجد.
(37) قال القرطبي دلت هذه الآية: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة. وقد قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنة حمزة "أمة الله" لجعفر لأن خالتها كانت تحته. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الخالة بمنزلة الأم".
لما ادعى نصارى وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليه السلام من تأليهه وتأليه أمه أنزل الله تعالى هذه الآيات يبين فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر أنهم ذرية بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم، ولم تتباين فضائلهم وكمالاتهم الروحية، وذلك لحفظ الله تعالى لهم وعنايته بهم. وأخبر تعالى أنه سميع عليم، أي سميع لقول امرأة عمران عليم بحالها لما قالت: { ... رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً..} وذلك أنها كانت لا تلد، فرأت في حديقة منزلها طائراً يطعم أفراخه فحنت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولداً وتجعله له يعبده ويخدم بيته، فاستجاب الله تعالى لها فحملت ومات زوجها وهي حبلى.
وقالت ما قص الله تعالى عنها في قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وحان وقت الولادة فولدت ولكن أنثى لا ذكراً فتحسرت لذلك، وقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} وكيف لا يعلم وهو الخلاق العليم. وقالت: {.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى..} في باب الخدمة في بيت المقدس، فلذا هي آسفة جداً، وأسمت مولودتها: مريم، أي خادمة الله، وسألت ربها أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم، واستجاب الله تعالى لها، فحفظها وحفظ ولدها عيسى عليه السلام، فلم يقربه شيطان قط.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ".
قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته. أى: والله- تعالى- أعلم منها ومن غيرها بما وضعته، لأنه هو الذي خلق هذا المولود وجعله أنثى، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل، إذ منها سيكون عيسى- عليه السّلام- وسيجعلها- سبحانه- آية ظاهرة دالة على كمال قدرته، ونفوذ إرادته (طنطاوى)

(39) {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} : شريفاً ذا علم وحلم، ولا رغبة له في النساء لقلة مائه.
(40) {عَاقِرٌ} : عقيم لا تلد لعقهما وعقرها.
مأخود من عقرت المرأة رحمها، أي: قطعتها فلم تحبل ولم تلد، وهو وصف خاص بالنساء، فلذا يقال: عاقر ولا يلبس، إذ لا يوجد في الرجال عاقر حتى يفرق بينهما بالتاء.
(42) {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} : اذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملائكة فإن ذلك دليل على صحة نبوتك، وصدقك في أمر التوحيد، وعدم ألوهية عيسى.
(44) {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} : جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاءها لأجل الاقتراع بها على كفالة مريم. فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن الله، فالقوا أقلامهم تلك الأقلام التي كانت تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم، فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها بإذن الله تعالى وقد تقدم قول الله تعالى: فكفلها زكريا، بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدين الحق هو الإسلام وما عداه فباطل وضلال!.
وقد ألقوها في نهر الأردن، وهو نهر جار وأفادت هذه الآية مشروعية القرعة وأنها وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها شرعت لنا على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وكذا حديث: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا".
(45) {الْمَسِيحُ} : لقب عيسى عليه السلام ومن معانيه الصديق.
اختلف في سبب تلقيب عيسى بالمسيح، والمشهور أنه لقب تشريف؛ كالفاروق مثلاً، أو الملك، أو الصديق، وأما عيسى فهو: معرب، أيشوع، ومعناه السيد، وهل المسيح مشتق من المسح؟ وهل هو بمعنى الماسح، أو الممسوح خلاف.
الوجيه: ذو الجاه والقدر والشرف بين الناس.
(46) {فِي الْمَهْدِ} : المهد: مضجع الصبي وهو رضيع.
{وَكَهْلاً} : الكهولة: سن ما بين الشباب والشيخوخة.
ذكر الكهولة هنا تطمين لأمه أنه لا يموت صغيراً وتكليمه في الكهولة يكون بعد نزوله من السماء؛ لأنه عليه السلام رفع مع نهاية سن الشباب، وهو ثلاث وثلاثون سنة لا غير.
لقد تكلم في المهد غير واحد، منهم شاهد يوسف، وصاحب جريج، وكلام عيسى في المهد هو قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الآية في سورة مريم.
(48) {الْكِتَابَ} : الخط والكتابة.
{وَالْحِكْمَةَ} : العلم الصحيح والإصابة في الأمور وفهم أسرار التشريع الإلهي.
(49) قوله تعالى: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وحد آية وهي آيات لأنها جنس كنعمة بمعنى جنس النعم، والمراد من الآية ما تقدم في قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر} إلخ.
{كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} : كصورة الطير.
قيل: اليهود هم الذين طلبوا أن يخلق لهم خفاشاً؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله لبن يرضع به أولاده ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل وإنما يبصر في ساعتين؛ بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة.
{الأَكْمَهَ} : الذي ولد أعمى.
الأبرص: ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث، والبرص: بياض يصيب الجلد البشري.
وَأُحْيِ الْمَوْتَى : روى أنه أحيا لهم أربعة وهم: سام بن نوح، والعاذر، وكان صديقاً له. وابن العجوز، وابنة العاشر.
{تَدَّخِرُونَ} : تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره.

الربع الثالث : من قوله تعالى : فلما أحس عيسى منهم الكفر ... (52) إلى قوله تعالى : يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (74)

(52) {الْحَوَارِيُّونَ} : جمع حواري، والمراد بهم أصفياؤه وأصحابه.
كانوا اثني عشر رجلاً، وسمى الناصر للنبي حواريا لبياض قلبه وصفاء روحه، وفي الحديث "لكل نبي حواري وحواري الزبير "، والحور لغة: البياض، والحواري: الخبز الأبيض.
(54) مكروا: دبروا لقتل للمسيح عليه السلام.
{وَمَكَرَ اللهُ} : دبر تعالى لإنجائه وخيبهم فيما عزموا عليه.
{خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} : أحسن المدبرين لإنقاذ أوليائه وإهلاك أعدائه.
لما علم عيسى بكفر قومه وهمهم بقتله غيلة استصرخ المؤمنين قائلاً: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} فأجابه الحواريون وهم أصفياؤه وأحباؤه قائلين: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ} آمنا بالله واشهد يا روح الله بأنا مسلمون: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} لك بالوحدانية ولرسلك بالرسالة. قال تعالى: ونفذ اليهود مكرهم في محاصرتهم لمنزل عيسى ليأخذوه ويصلبوه، ومكر الله تعالى وهو خير الماكرين إذ قال لعبده ورسوله عيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: قابضك ورافعك إلى جواري، فقبضه تعالى فأخرجه من روزنة المنزل (الروزنة: الكوة في السقف أو الجدار) ورفعه إليه وألقى الشبه على رئيس شرطة المهاجمين فظنوه هو المسيح فقتلوه وصلبوه فسبحان المدبر الحكيم
(55) لم أر داعياً إلى استشكال الكثيرين رفع عيسى حياً إلى الملكوت الأعلى وإبقاءه هناك إلى أن ينزله في آخر أيام هذه الدنيا، حيث صرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنزول عيسى بما لا مجال للشك فيه، إن السنن الكونية خلقها الله تعالى فهو قدير على تبديل ما شاء منها أليس الله على كل شيء قديراً؟ بلى. فلم إذاً يرتبك المؤمنون في شأن رفع عيسى حياً وإبقائه في دار السلام حياً حتى ينزل في آخر الدنيا؟.
من هداية الأية
قيام الحجة على نصارى نجران، إذ أخبرهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي فقرر به بطلان ألوهية عيسى عليه السلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه، وكرامة الله تعالى له، ولاتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة.
تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً. ونزوله في آخر الدنيا ليحكم زمناً ثم ليموت الموتة التي كتب الله على كل إنسان، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين. هذا دليل أنه رفع إلى السماء حياً لا ميتاً.
(60) {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى هو الحق الثابت من ربك.
وهو أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام فنفخ في كم درع مريم فسرت النفخة فيها فحملت بعيسى وولدته في ساعة من نهار، وتكلم بعد وضعها له، وطمأن والدته وأرشدها إلى ما تقوله لمن يتصدى لها يعيبها. وحاصله أنه كان بكلمة التكوين وهي: {كن} كما كان آدم بها فلا أب له ولا أم.
{الْمُمْتَرِينَ} : الشاكين، إذ الامتراء: الشك. والخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن المراد غيره من سائر الناس الذين يتأتى لهم الشك، أما هو فإنه المعصوم مما هو أقل من الشك الذي هو كفر.
(61){نَبْتَهِلْ} : نلتعن أي: نلعن الكاذب منا.
روي أن وفد نجران قالوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما قالوا: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} فإذا هو كائن، فأي داع لاتخاذ عيسى إلهاً، ألكونه خلقه الله من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم، وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خلق بكلمة الله التي هي: {كُنْ} فكان، هذا هو الحق الثابت من الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشك ولما أكثروا عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذباً منهم يهلك على الفور
وخرج في الغد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا فهربوا من الملاعنة، ودعاهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل.
وفي هروب نصارى نجران "وهم علماء" من الملاعنة دليل قاطع على أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله وأن دينه هو الدين الحق وما عداه باطل.
(64){إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} : الكلمة السواء: هي العادلة وهي أن نعبد الله وحده لا شريك له ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
ما زال السياق في إبطال باطل أهل الكتابين إذا قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود ونصارى تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها إلى كلمة سواء كلمة عدل نصف بيننا وهي أن نعبد الله وحده لا نشرك به سواه وأن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فيفرض طاعته على غيره ويلزمه بالسجود له تعظيماً وتقديساً فإن أبوا عليك ذلك وتولوا عنه فقولوا أيها المؤمنون: اشهدوا أيها المتولون عن الحق بأنا مسلمون. وفي هذا تعريض بل تصريح بأن غيرهم ليسوا مسلمين.
وقد راسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملوك الروم بمضمون هذه الآية، إذ كتب إلى هرقل قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك اثم الأريسيين (الأكارين) (وهم الفلاحون) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} .. إلى قوله {مسلمون} ". رواه مسلم.
من هداية الأية : لا يصلح حال البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ: الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وألا يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار.
(65) يأمر تعالى رسوله أيضاً أن يقول للمتولين عن الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان على دينها مع أن اليهودية ما كانت إلا بعد نزول التوراة، والنصرانية ما كانت إلا بعد نزول الإنجيل، وإبراهيم كان قبل نزول الكنابين بمائات السنين، مالكم تقولون بما لا يقبل ولا يعقل أفلا تعقلون؟ ثم وبخهم بما هم أهله قائلاً لهم: اسمعوا يا هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم وكتابكم فلم تجادلون فيما ليس لكم به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مبدأ التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، والله يعلم من شأن إبراهيم ودينه ما لا تعلمون أننتم فليس من حقكم القول فيما لا تعلمونه.
(66) {تُحَاجُّونَ} : تجادلون بحجج باطلة.
المجادلة بالتي هي أحسن والقائمة على أساس العلم الصحيح ممدوحة غير مذمومة، وهذه صورة لها: أتى رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما لونها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعل عرقاً نزعه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعل عرقاً نزعه".
(67) {كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} : مائلاً عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي الإسلام.
من هداية الأية : حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه، إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعد وفاته فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً.
روى أن ابن عباس قال: "قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت إنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك فإنه كان يهودياً وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ما كان إبراهيم يهودياً ... -إلى قوله: - والله ولي المؤمنين} .
اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير.
(69) يخبر تعالى عباده المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنوا لو توقعكم في الضلال لتهلكوا والغالب أن هذه الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود والنصارى يودون إضلال المسلمين حسداً لهم على الحق الذي هم عليه، وأخبر تعالى أنهم بتمنيهم هلاك المسلمين إنما يهلكون أنفسهم وما يدرون ذلك ولا يعلمون به وقال عز وجل: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
قال القرطبي: "نزلت هذه الآية في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم يهود من بني النضير وقريضة وبني قينقاع إلى دينهم والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(72) يخبر تعالى عن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وذلك أن كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف عليهما لعائن الله قال لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلاة الصبح إلى الكعبة، وصلوا العصر إلى الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم: لم عدلتم عن الكعبة بعد ما صليتم إليها؟ قولوا لهم قد تبين لنا أن الحق هو استقبال الصخرة لا الكعبة.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إلى استقبال الصخرة بدلاً عن الكعبة، والغرض هو بلبلة أفكار المسلمين وإدخال الشك عليهم
وهذا لا يمنع أن يكون قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} إظهاراً منهم للدخول في الإسلام والاعتراف به في أول النهار، مكراً وخديعة، فإذا ولى النهار أظهروا رجوعهم عنه لظن من رآهم أنهم يريدون الحق، ولذلك أسلموا، فلما تبين لهم بطلان الإسلام وعدم صحته رجعوا عنه.
من هداية الأية : الكشف عن التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل، والإعلام العالمي اليوم مظهر من مظاهر التضليل اليهودي.
سذاجة اليهود المتناهية في فهم مسائل الدين والاعتقاد توارثوها إلى اليوم، وإلا فأي مؤمن بالله واليوم الآخر يقول: لا تعترفوا للمسملين بأنهم على حق حتى لا يحتجوا عليكم بإعترافكم يوم القيامة؟.

الربع الرابع : من قوله تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ... (75) إلى قوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ... (92)

(75) {إِنْ تَأْمَنْهُ} : ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه.
{بِقِنْطَارٍ} : وزن معروف، والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار.
{إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} : أي ملازماً له تطالبه به ليل نهار.
{الأُمِّيِّينَ} : العرب والمشركين.
{سَبِيلٌ} : أي: لا يؤاخذنا الله إن نحن أكلنا أموالهم؛ لأنهم مشركون.
(76) {بَلَى} : أي: ليس الأمر كما يقول اليهود من أنه ليس عليهم حرج ولا إثم في أكل أموال العرب المشركين بل عليهم الإثم والمؤاخذة.
(77) {لا خَلاقَ لَهُمْ} : أي: لا حظ ولا نصيب لهم في خيرات الآخرة ونعيم الجنان.
من هداية الأية : عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذباً لأجل المال، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان".
أخرج أهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع حق امرء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان".
رواه أحمد وله شواهد في الصحاح، وروى الأئمة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: من اقتطع حق امرء مسلم بيمينه فقد أوجب له النار وحرم عليه النار" فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيباً من آراك".
(78) {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً} : طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة النبوية.
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} : يحرفون السنتهم بالكلام كأنهم يقرأون الكتاب.
(79) {رَبَّانِيِّينَ} : جمع رباني: من ينسب إلى الرب لكثرة عبادته وغزارة علمه، أو إلى الربان وهو الذي يرب الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها.
الرباني: والجمع: ربانيين، مشتق من: ربه يربه، فهو ربان له إذا دبره وأصلحه.
(79) قالت اليهود يوماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً: أتريد أن نتخذك يا محمد رباً؟ فأنزل الله تعالى قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ} الآية.
لفظ: البشر: يطلق على الواحد، والجمع؛ لأنه كالمصدر، والمراد به هنا: عيسى عليه السلام.
(81) الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
{إِصْرِي} : عهدي وميثاقي.
ما زال السياق في الرد على نصارى نجران فيقول تعالى لرسوله اذكر لهم ما أخذ الله على النبيين وأممهم من ميثاق أنه مهما آتاهم من كناب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعداءه ومناؤيه من أهل الكفر وأنه تعالى قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشهدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى فقال: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ثم أكد تعالى ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقاً ويلقى جزاء الفاسقين فقال تعالى: (82) {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وقد نقض هذا الميثاق كل من اليهود والنصارى، إذ لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به وقد أخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، وبنصره، فكفروا به، وخذلوه، فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله.
التولي والفسق مستحيل في حق أنبياء الله ورسله، ولذا فالمأخوذ عليهم: العهد والميثاق، هم أتباع الأنبياء والرسل، وإنما قال: ميثاق النبيين؛ لأنهم هم المبلغون أممهم لما أخذ عليهم، ويوضح هذا قوله: {فاشهدوا} أي: على أممكم.
(84) {الأَسْبَاطِ} : جمع سبط والسبط الحفيد، والمراد بالأسباط هنا أولاد يعقوب الاثنا عشر والأسباط في اليهود كالقبائل في العرب.
(85) روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول: إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: يا رب أن الصيام. فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك ويقول الله تعالى إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام، وأنا الإسلام. فيقول الله تعالى: إنك على خير اليوم بك آخذ وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ". تفرد به أحمد.
من هداية الأية : الإسلام: هو الانقياد والخضوع لله تعالى، وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه إليهم.
بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامي وملة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(86)  كيف يهدى الله قوماً كفروا بعد إيمانهم : روى عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الآية نزلت في رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم راسل قومه ليسألوا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل له توبة فجاء قومه وسألوا له فأنزل الله هذه الآية: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً} إلى {غفور رحيم} ، والاية تتناول اليهود من باب أولى وتنطبق عليهم تماماً فتشمل من تاب منهم ومن لم يتب على حد سواء".
من هداية الأية : التوغل في الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع العبد من التوبة. ولذا وجب على العبد إذا أذنب ذنباً أن يتوب منه فوراً، ولا يواصله مصراً عليه خشية أن يحال بنيه وبين التوبة.
أورد هنا القرطبي سؤالاً، وهو: أن ظاهر الآية: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} دال على أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله وكثيراً من الظالمين تابوا من الظلم؟. وأجاب بقوله إن معنى لا يهديهم ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام فأما إن أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله أعلم.
(90) أورد القرطبي إشكالاً عن قوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مع العلم أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرر، كما صح في الخبر، وكيف وهو القائل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَات} ، وذكر ثلاثة أجوبة: الأول: أنه لا يقبل توبتهم عند الموت، كما هو نص الآية: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ... } . الثاني: أنها لا تقبل توبتهم التي كانت قبل كفرهم إن الكفر محبط للعمل. والثالث: أنها لا تقبل وهم مصرون على الكفر. قلت: وهذا أمثلها وهو ما ذكرته في تفسير الآية. والله أعلم.
(92) {لَنْ تَنَالُوا} : لن تحصلوا عليه وتظفروا به.
{الْبِرَّ} : كلمة جامعة لكل خير، والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة.
يخبر تعالى عباده المؤمنين الراغبين في بره تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة بأنهم لن يظفروا بمطلوبهم من بر ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبها إليهم. ثم أخبرهم مطمئناً لهم على إنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل أو كثير نفيس أو خسيس هو به عليم وسيجزيهم به، وبهذا حبب إليهم الإنفاق ورغبهم فيه فجاء أبو طلحة رضي الله عنه يقول يا رسول الله: أن الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن من أحب أموالي إليّ بيرحا "حديقة" فأجعلها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مال رابح أو رائج اجعلها في أقربائك" فجعلها في أقربائه حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين.
لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} بادر الأصحاب رضي الله عنهم بالتصدق بأحب أموالهم إليها فأعتق عمر جارية له من أحب الجواري إليه، وأعتق ولده مولاه نافعاً، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كانت أحب ما يملك، وتصدق أبو طلحة ببستانه "بيرحا" فدل هذا على فقه الصحابة ومدى استجابتهم لما هو خير عند الله وأعظم أجراً. فرضى الله عنهم وأرضاهم ولا حرمنا حبهم وجوارهم.

الربع الخامس : من قوله تعالى : كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ... (93) إلى قوله تعالى : ضربت علهم الذلة إينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ... (112)

(93) بني إسرائيل: أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الاثنى عشر إلى يومنا هذا.
ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم، وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها، فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ} أي حلالاً لبني إسرائيل، وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض مرضاً آلمه فنذر لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه، وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى هذا معنى قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} من قبل أن تنزل التوراة، إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة، وذلك بعد إبراهيم ويعقوب بقرون طويلة. قال تعالى في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا "اليهود" حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآية.
ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم.
أكثر الروايات على أن مرض يعقوب كان بعرق النساء وأن ما نذره من ترك أحب الطعام والشراب إليه كان باجتهاد منه وليس شرعاً عنده، إذ هو من المباح، وللعبد أن يترك مباحاً متى شاء لاسيما إن تركه لله تقرباً إليه وتوسلاً لقضاء حاجته؛ كشفاء من مرض مثلاً.
روى ابن ماجة في سننه عن أنس ابن مالك قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "شفاء عرق النساء إلية شاه (عربية) "، تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق كل يوم جزء". قال أنس فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى.
(94)الافتراء: كالاختلاق سواء، والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعاً ليصلح بها قربة وحذاء ونحوهما.
(95) {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} : دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع، ونبذ الشرك والبدع.
(96){إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} فإنه متضمن الرد على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هو أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركاً يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها، كما جعله هدى للعالمين، فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية، وقوله تعالى في آيات بينات يريد: في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقى أثر قدميه عليه مع إنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها: الأمن التام لمن دخله فلا
يخاف غير الله تعالى.
من هداية الأية : البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به.
(97) مقام إبراهيم من جملة الآيات، إذ أثر قدمي إبراهيم باقية على المقام الذي هو صخرة، وفيه قال أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
(99) {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} : تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل سالكها وذلك بالتحريف والتضليل.
(100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ، وذلك أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس يسودهم الود والتصافي ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب، فأمر شاس شاباً أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحمية القبلية بينهم فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكرهم بالله تعالى وبمقامه فهدأوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم حاملاً لهم على التعجب من حالهم أو كفروا بعد إيمانهم فقال عز وجل: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ} صباح مساء في الصلوات وغيرها، {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} هادياً ومبشراً ونذيراً وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال
من هداية الأية
طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.
(101) {يَعْتَصِمْ} : يتمسك بشدة.
(102) {حَقَّ تُقَاتِهِ} : باستفراغ الوسع في إمتثال أمره، واجتناب نهيه، وتقاته هي تقواه.
التقاء اسم مصدر اتقى يتقي إتقاءاً، وأصلها: وقي فتحرك حرف العلة فانفتح ما قبله فقلبه واواً، فصارت وقاه، وأبدلت الواو تاء فصارت تقاة.
روى أن تقوى الله حق تقاته تتمثل في أن يطاع تعالى ولا يعصى ويشكر ولا يكفر، ويذكر ولا ينسى، وخصصتها آية التغابن: {فاتقوا الله ما استطعتم} ، إذ لا تكليف مع العجز عن القيام به.
(103) {بِحَبْلِ اللهِ} : كتابه القرآن ودينه الإسلام، لأن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه، وكل ما يربط ويشد شيئاً بآخر هو سبب وحبل.
{فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} : جمعها على أخوة الإيمان ووحد ببنها بعد الاختلاف والنفرة.
{شَفَا حُفْرَةٍ} : شفا الحفرة: حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها.
أنقذكم منها: بهدايتكم إلى الإسلام وبذلك أنجاكم من النار.
من هداية الأية : عصمة هذه الأمة من الذنوب والسقوط في هذين الأمرين الكتاب والسنة، فمهما تمسكت أمة الإسلام بهما فإنها لا تضل ولا تسقط ولو كادها أهل الأرض أجمعون، ومهما أعرضت عنهما سقطت وهانت ولو دعمها أهل الأرض أجمعون.
العصمة في التمسك بكتاب الله ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن تمسك بهما لم يضل.
الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران.
(104) ولتكن منكم أي: يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير، أي: الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال: فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.
من: للتبعيض، وعليه فسرنا الآية، وقلنا بوجود طائفة لا كل الأمة، إذ لابد من العلم لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والعلم لا يتوفر لكل فرد أبداً، ولذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية.
الأمة: أفراد من البشر أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحداً، والمراد بالأمة هنا المجاهدون وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{الْمُنْكَرِ} : ضد المعروف، وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد، للفرد أو الجماعة.
نهاهم تعالى عن التفرق والاختلاف، وقد وقع ما نهاهم عنه، وثبت ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، النصارى مثل ذلك، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح، وفعلاً وقد وجدت ست فرق، وهي: الحرورية -والقدرية -والجهمية -والمرجئة -والرافضة -والجبرية. انقسمت كل فرقة من هذه إلى اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا أهل السنة والجماعة.
(108) التلاوة: كالقراءة، إلا أن القراءة عادة تكون لكلام مكتوب، وأما التلاوة فهي مجرد حكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه.
(112) أخبر الله تعالى في هذه الآية  أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي البلاد وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل الناس. كما أخبر تعالى عنهم أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب الله، وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم كما ذكر تعالى علة عقوبتهم، وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم المستمر واعتداؤهم الذي لا ينقطع فقال تعالى {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
الحبل مستعار هنا للعهد، أي: المعاهدة التي تربطهم بدولة قوية كبريطانيا وأمريكا الآن.

الربع السادس : من قوله تعالى : ليسوا سواء ... (113) إلى قوله تعالى : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132)

(113- 114) {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} : جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.
أن أهل الكتاب ليسوا سواء، أي: غير متساوين في الحال، وأثنى على أهل الصلاح منهم فقال جل ذكره {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} ، أي: على الإيمان الحق والدين الصحيح وهم الذين أسلموا. يتلون آيات الله يقرأونها في صلاتهم آناء الليل، أي: ساعات الليل في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون، وهذا ثناء عليهم بالسجود، إذ هو أعظم مظاهر الخشوع لله تعالى كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف وهو الدعوة إلى عبادة الله تعالى بعد الإيمان به والإسلام الظاهر والباطن له. وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى والكفر به وبرسوله فقال عز وجل: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يبادرون إليها قبل فواتها، والخيرات هي كل قول وعمل صالح من سائر القربات.
المراد بهم: عبد الله بن سلام، وأخوه، وعمته، وسعيه أو سنعة بن غريض، وثعلبة بن سعية، وأسد القرظي، وغيرهم ممن أسلموا وحسن إسلامهم في دنيا الإسلام والمسلمين إلى اليوم.
(116) فيه بيان حكم الله تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرن بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.
 (117) ضرب تعالى فى هذه الأية مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد وهم به فرحون وفيه مؤملون فأفسدته تلك الريح وقضت عليه نهائياً فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مثل ما ينفقون، أي: أولئك الكفار في هذه الحياة الدنيا، أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر. {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَت} أي تلك الريح الباردة حرث قوم، أي: زرعهم النابت فأهلكته، أي: أفسدته. فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وما ظلمهم حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد فجزاهم الله بالحرمان وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسهم. قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
الصر: مأخوذ من الصرير الذي هو الصوت، وفي الحديث: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل الجراد الذي الذي قتله الصر" أي: البرد الشديد.
(118){بِطَانَةً} : بطانة الرجل الذين يطلعهم على باطن أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة.
أصل البطانة: بطانة الثوب شبه بها بطانة الرجل ووليجته، وهم من يطلعهم على أسراره ثقة فيهم، ومثل البطانة الشعار وهو الثوب الذي يلي الجسد، وفي الحديث: "الأنصار شعار والناس دثار".
روى البخاري تعليقاً، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه. والمعصوم من عصمه الله ".
{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} أي: أفراداً من دونكم أي: من غير أهل دينكم؛ كاليهود والنصارى والمنافقين والمشركين تستشيرونهم وتطلعونهم على أسراركم وبواطن أموركم، ووصفهم تعالى تعريفاً بهم فقال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} ، يعني: لا يقصرون في إفساد أموركم الدينية والدنيوية.
{مِنْ دُونِكُمْ} : من غيركم، أي: من غير المسلمين؛ كالكفار وأهل الكتاب.
{لا يَأْلُونَكُمْ} : لا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.
{خَبَالاً : فساداً في أمور دينكم ودنياكم.
الخبال: الخبل، وهو الفساد، وفي الحديث: "من أصيب بدم أو خبل" أي: جرح يفسد العضو، ويقال: رجل خبل، وخبله الحب: أفسده.
{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا عنتكم ومشقتكم، فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما يفسد عليكم أموركم ويسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم وقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} وصف آخر مشخص لهؤلاء الأعداء المحرم اتخاذهم بطانة، ألا وهو ظهور البغضاء من أفواههم بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإسلام وأهله، وما يخفونه من ذلك في صدورهم هو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم. ويؤكد عز وجل تحذيره للمؤمنين فيقول: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ} المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي: الخطاب وما يتلى عليم ويقال لكم.
خصت الأفواه بالذكر دون الألسن إشارة إلى أنهم يتشدقون بالكلام إيهاماً وتضليلاً.
قيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجل من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: "لا آخذ بطانة من دون المؤمنين" وجاء أبو موسى الأشعري بحساب نصارى لعمر فانتهره وقال: "لا تدنهم، وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم، ولا تأمنهم وقد خونهم الله".
من هداية الأية
حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير.
بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين.
(119) {أُولاءِ} : هؤلاء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها.
{بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} : أي: بالكتب الإلهية كلها.
{عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} : من شدة الغيظ عليكم؛ لأن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ بعض أصبعه على عادة البشر، والغيظ: شدة الغضب.
(121) {وَإِذْ غَدَوْتَ} : أي: واذكر إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار.
{مِنْ أَهْلِكَ} : أهل الرجل زوجه وأولاده. ومن لابتداء الغاية إذ خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صباح السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء. الموافق للثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة: "وقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤيا فرأى أن في سيفه ثلمة، وأن بقراً له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينه، فتأولها أن نفراً من أصحابه يقتلون وأن رجلاً من أهل بيته يصاب وأن الدرع الحصينة: المدينة". أخرجه مسلم.
لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ذكرهم بموقفين: أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة وهو غزوة أحد، والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم وهو غزوة بدر
{تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} : تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة.
(122){هَمَّتْ} : حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجهت إرادتها إلى ذلك.
{طَائِفَتَانِ} : هما بنو سلمة، وبنو حارثة من الأنصار.
{تَفْشَلا} : تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم.
{وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} : متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة.
من هداية الأية : بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد وهو عدم صبرهم وإخلالهم بمبدأ التقوى إذ عصى الرماة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد، وكان الوعد مشروطاً بالصبر والتقوى فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم.
(123) {بِبَدْرٍ} : بدر اسم رجل وسمي المكان به؛ لأنه كان له فيه ماء وهو الآن قرية تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلاً "كيلو متر".
{وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} : لقلة عددكم وعُددِكُم وتفوق العدو عليكم.
(124) {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} : الاستفهام انكاري، أي: ينكر عدم الكفاية. ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم.
ذهب بعض إلى أن الاستفهام هنا: تقريري؛ لأنه مجاب ببلى، وجائر أن يكون للاستفهام معنيان في آن واحد لدلالة اللفظ عليهما معاً. فتأمل!!.
{أَنْ يُمِدَّكُمْ} : أي: بالملائكة عوناً على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد.
{الْمَلائِكَةِ} : واحدهم ملاك وهم عباد الله مكرمون مخلقون من نور لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
(125) {بَلَى} : حرف إجابة، أي: يكفيكم.
{مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} : أي: من وجههم في وقتهم هذا.
الفور: مصدر فارت القدر فوراً واستعير للأولية مع السرعة في الحال بدون بطء أو تأخر أو تراخ.
{مُسَوِّمِينَ} : معلمين بعلامات تعرفونهم بها.
(125) ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بدر قتالاً حقيقياً؛ لأنهم نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم. ولا يقولن قائل: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل، وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة البشر، ويدل على ذلك ويشهد له أن ملك الموت لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربه تعالى ولم يقبض روح موسى عليهما معاً السلام. من رواية البخاري.
(126) {إِلا بُشْرَى لَكُمْ} : البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة.
{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} : اطمئنان القلوب سكونها وذهاب الحروف والقلق عنها.
من هداية الأية : النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة فإنه بيد الله تعالى فقد ينصر الضعيف ويخذل القوى، فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدد. وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله ثم التوكل على الله عز وجل.
(127){لِيَقْطَعَ طَرَفاً} : الطرف الطائفة، يريد ليهلك من جيش العدو طائفة.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} : أي: يخزيهم ويذلهم.
{فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} : يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه.
بدل لذلك قوله تعالى: {مسومين} ، فالمسوّم: ذو السمة، أي: العلامة، وذلك أن البطل المقاتل يجعل على رأسه أو على رأس فرسه ريشاً ملوناً يرمز به إلى أنه لا يخاف أن يعرفه عدوه حتى لا يسدد إليه سهامه.
(128) {الأَمْرِ} : الشأن والمراد هنا توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم.
{أَوْ} : هنا بمعنى حتى، أي: فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم.
(128) صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب، وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيه ؟ " فأنزل الله تعالى عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} أي: فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون
رواه مسلم، وهذا نص الحديث: "لما كسرت رباعية الرسول صلى اله عليه وسلم وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه، ويقول كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته "سنة الأمامية" وهو يدعوهم إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.
(130) {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} : لا مفهوم للأكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلاً أو شرباً أو لباساً.
{الرِّبا} : لغة: الزيادة، وفي الشرع نوعان: ربا فضل وربا نسيئة، ربا الفضل: يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل أي الزيادة ويحرم التأخير،وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه فيقول له أخرني وزد في الدين.
{لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً} إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله ولم يجد ما يسدد به فيأتي إلى دائنه ويقول أخر ديني وزد عليّ وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعد ما كان عشراً عشرين وثلاثين. وهذا معنى قوله: {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}
ربا البنوك اليوم شر من ربا الجاهلية هو: أن يبيع الرجل أخاه شيئاً إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يد سداداً قال له أخر وزد، أما ربا البنوك فإنه يبيعه نقداً بنقد إلى أجل بزيادة فورية يسجلها عليه.
ولله ما في السموات وما في الأرض ملكاً وخلقاً يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب الرحيم بمن أناب.

الربع السابع من قوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ... (133) إلى قوله تعالى : ولقد صدقكم الله وعده إذا تحسونهم بإذنه ... (152)

{وَسَارِعُوا} : المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ.
{إِلَى مَغْفِرَةٍ} : المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها. والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب، وكثرة الاستغفار وفي الحديث: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له".
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} : كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبب أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} : العفو عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك.
{يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : المحسنون هم الذين يبرون ولا يسيئون في قول أو عمل.
{فَاحِشَةً} : الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنى وكبائر الذنوب.
{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} : بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك فكان هذا ظلماً لها.
{وَلَمْ يُصِرُّوا} : أي: يسارعون إلى التوبة، لأن الإصرار هو الشد على الشيء والربط عليه مأخوذ من الصر، والصرة معروفة.
ذكر القرطبي هنا مسألة، وهي: من وطن نفسه على فعل ذنب فإنه يؤاخذ به، ولو لم يفعله لعجز قام به وهو مصر على فعله، واستشهد بقوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني: أصحاب الجنة الذين عزموا على قطع ثمارها، دون إعطاء المساكين منها، كما استشهد بحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". وكلامه في الجملة صحيح ولكن من ترك ما أصر عليه خوفاً من الله تعالى سيكتب له حسنة لحديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتب له عند الله حسنة".
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم.
ذكر العرض ولم يذكر الطول لأن الطول لا يدل على العرض، أما العرض فإنه يدل على الطول: فطول كل شيء بحسب عرضه، وعرض السموات معناه بعرض السموات، فلو أخذت السموات سماء بعد سماء، والأرضون وألصقت ببعضها كان عرض الجنة كذلك، هذا الذي عليه أهل التفسير من السلف. قال الزهري: "أما طولها فلا يعلمه إلا الله".
ورد في كظم الغيظ أحاديث منها: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
ورد في فضل العفو أحاديث كثيرة منها: "من سر أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه". رواه الحاكم وصححه. ومنها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله".
فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية والحديث: " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة". رواه الترمذي وأبو داود وحسنه ابن كثير.
روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل ما دامت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فأجاب قائلاً: "سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار". قال حيث شاء الله تعالى. قال: "وكذلك النار تكون حيث شاء الله تعالى". رواه البزار مرفوعاً، وما دل عليه الكتاب والسنة: أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها عرش الرحمن، وأن النار في أسفل سافلين ولا منافاة بينهما أبداً.
الأيات من 138 : 141
{قَدْ خَلَتْ} : خلت: مضت.
{سُنَنٌ} : جمع سنة، وهي السيرة والطريقة التي يكون عليها الفرد أو الجماعة، وسنن الله تعالى في خلقه قانونه الماضي في الخلق.
السنة: الطريق المستقيم، يقال: فلان على السنة، أي: على طريق الاستواء لا يميل إلى شيء من الأهواء، وكل من يعمل بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو على الطريق المستقيم الذي لا يميل بصاحبه إلا الأهواء والمبتدعات.
{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} : الأمر للإرشاد، للوقوف على ديار الهالكين الغابرين لتعتبروا.
{وَمَوْعِظَةٌ} : الموعظة: الحال التي يتعظ بها المؤمن فيسلك سبيل النجاة.
{قَرْحٌ} : القرح: أثر السلاح في الجسم؛ كالجرح، وتضم القاف فيكون بمعنى الألم.
{الأَيَّامُ} : جمع يوم والليالي معها، والمراد بها ما يجريه الله من تصاريف الحياة من خير وغيره، وإعزاز وإذلال.
تداولها بين الناس فرح وغم وصحة وسقم وفقر وانتصار وانكسار والدولة الكرة ومنه قول الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ... ويوماً نساء ويوماً نسر
{شُهَدَاءَ} : جمع شهيد وهو المقتول في سبيل الله، وشاهد: وهو من يشهد على غيره.
سمي القتيل في سبيل الله: شهيداً؛ لأنه الحاضر للجنة ومشهود له بها، ومن فضل الشهيد أن لا يجد من ألم القتل إلا كما يجده الإنسان في القرحة لا غير.
{وَلِيُمَحِّصَ} : ليخلص المؤمنين من أدران المخالفات وأوضار الذنوب.
اصل التمحيص: تخليص الشيء من كل عيب، يقال: محصت الذهب؛ إذا أزلت خبثه.
{وَيَمْحَقَ} : يمحو ويذهب آثار الكفر والكافرين.
قال ابن كثير في: {ويمحق الكافرين} أي: فإنهم إذا ظفروا بغواً وبطروا ويكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم.
(139 -140) تضمنتا الأيتان تعزيه الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد، إذ قال تعالى مخاطباً لهم {وَلا تَهِنُوا} أي: لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبلا بشرط إيمانكم وتقواكم واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموت أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهناً لكم قاعداً بكم عن مواصلة الجهاد فإن عدوكم قد مسه قرح مثله، وذلك في معركة بدر، والحرب سجال يوم لكم ويوم عليكم وهي سنة من سنن ربكم في الحياة.
{وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} أي: ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين وفعلاً فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم فظهر إيمانكم واتخذ الله منهم شهداء، وكانوا نحواً من سبعين شهيداً منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومصعب بن عمير والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
الأيات من 142 : 145
{أَمْ حَسِبْتُمْ} : بل أظننتم فلا ينبغي أن تظنوا هذا الظن فالاستفهام إنكاري.
{وَلَمَّا يَعْلَمِ} : ولم يبتلكم بالجهاد حتى يعلم علم ظهور من يجاهد منكم ممن لا يجاهد كما هو عالم به في باطن الأمر وخفيه.
{أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} : ينكر تعالى على من قال عندما أشيع أن النبي قتل: "هيا بنا نرجع إلى دين قومنا"، فالاستفهام منصب على قوله: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} لا على فإن مات أو قتل، وإن دخل عليها.
{انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} : رجعتم عن الإسلام إلى الكفر.
{كِتَاباً مُؤَجَّلاً} : كتب تعالى آجل الناس مؤقتة يمواقيتها فلا تتقدم ولا تتأخر.
مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً وذلك ضحى حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء أول ليلة الأربعاء، قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنكرنا قلوبنا.
ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وانهزامهم في المعركة مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة بأنهم إذا قُدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي: فلما انهزمتم وما وفيتم ما واعدتم أنفسكم به؟
وأما الآية الثالثة (144) فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما اشتدت المعركة وحمي وطيسها واستحر القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم وضرب ابن قميئة - أقمأه الله - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم لم نقاتل وقد مات رسول الله، وقال بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله فلم ينكر موته، أو يندهش له إذاً؟ بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة "قتل محمد" ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} فعاتبهم منكراً على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئاً، فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيجزيهم دنيا وآخرة بأعظم الأجور وأحسن المثوبات.
وكان منهم من وفى بما وعد وقاتل حتى استشهد، وهو: أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، فإنه لما رأى المسلمين قد أنتكسوا قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء" وباشر القتال وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة، ولما قتل وجد به أكثر من ثمانين ضربة وفيه نزل قول الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} .
لما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام عمر في الناس وقال: "أن الرسول لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي وأرجل أقوام" وكان في دهشة عظيمة حتى جاء أبو بكر من العوالي فدخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مسجي فكشف الغطاء عن وجهه وقبله بين عينيه ثم خرج فسمع ما قال عمر فرقي المبنر وقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وقرئ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية. فرجع عمر إلى رشده واعترف بموت نبيه وبكاه.
(145) فقد تضمنت حقيقتين علميتين:
الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشي آخر وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب1 خاص (هو كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.)، فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم، من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} .
والثانية: أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤتيه من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} .
من هداية الأية
الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان.
رثت صفية عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الله بآيات دلت على مدى ما أصاب المؤمنين من حزن وألم بفراق نبيهم نذكر منها ثلاث أبيات، وهي:
أفاطم صلى الله رب محمد ... على حدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وآبائي ونفسي وماليا
فلو أن رب الناس أبقى نبياً ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
إن قيل لم تأخر دفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومين، وهو القائل: "عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخرهوها". والجواب كان ذلك لأمور: أولاً: اختلافهم في المكان الذي يدفنوه فيه، حتى أخبرهم الصديق بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما دفن نبي إلا حيث يموت". ثانياً: اختلافهم في تعيين الخليفة للأهمية
الأيات من 146 : 148
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} : كثير من الأنبياء. وتفسر: كأين بكم وتكون حينئذ للتكثير.
قال الخليل: "وكأين أصلها، أي: دخلت عليها كاف التشبيه، وبنيت معها فصارت مثل: كم للدلالة على التكثير، وفيها لغات منها: كائن، وقرأ بها ابن كثير، وكئن، وقرأ بها ابن محيصن، وكأين، وبها قرأ الجمهور.
{رِبِّيُّونَ} : ربانيون علماء وصلحاء وأتقياء عابدون.
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} : ما ضعفوا عن القتال ولا انهزموا لأجل ما أصابهم من قتل وجراحات.
{وَمَا اسْتَكَانُوا} : ما خضعوا ولا ذلوا لعدوهم.
ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد فذكر تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة عن عدم صبرهم وانهزامهم وتخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إليّ عباد الله إليّ عباد الله فثاب إليه رجال. فقال تعالى مخبراً بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} أي: وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جموع كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين فما وهنوا، أي: ما ضعفوا، ولا ذلوا لعدوهم ولا خضعوا له كما هم بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القنال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين.
استكان: مشتق من السكون لأن الذليل العاجز يسكن لمن خضع له، ولا يتحرك ليدفع عنه الأذى وما ناله من عدوه الغالب له.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني" وهو دعاء تواضع منه عظيم.
الأيات من 149 : 151
{إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} : المراد من طاعة الكافرين قبول قولهم والأخذ باراشادتهم.
{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} : يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان.
{خَاسِرِينَ} : فاقدين لكل خير في الدنيا، ولأنفسكم وأهليكم يوم القيامة.
{بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ} : بل أطيعوا الله ربكم ووليكم ومولاكم فإنه خير من يطاع وأحق من يطاع.
{الرُّعْبَ} : شدة الخوف من توقع الهزيمة والمكروه.
{وَمَأْوَاهُمُ} : مقر إيوائهم ونزولهم.
{مَثْوَى} : المثوى مكان الثوى، وهو الإقامة والاستقرار.
{الظَّالِمِينَ} : المشركين الذين أطاعوا غير الله تعالى وعبدوا سواه.
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، فقد روى أن بعض المنافقين لما رأى هزيمة المؤمنين في أحد، قال في المؤمنين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم، ولو كان محمد نبياً لما قتل إلى آخر ما من شأنه أن يقال في تلك الساعة الصعبة من الاقتراحات التي قد كشف عنها هذا النداء الإلهي للمؤمنين، وهو يحذرهم من طاعة الكافرين بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فلا شك أن الكافرين قد طالبوا المؤمنين بطاعته بتنفيذ بعض الاقتراحات التي ظاهرها النصح وباطنها الغش والخديعة، فنهاهم الله تعالى عن طاعتهم في ذلك وهذا النهي وإن نزل في حالة خاصة، فإنه عام في المسلمين على مدى الحياة، فلا يحل طاعة الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم وفي كل ما يأمرون به أو يقترحونه، ومن أطاعهم ردوه عن دينه إلى دينهم فينقلب: يرجع خاسراً في دنياه وآخرته، والعياذ بالله.
الرعب بإسكان العين وطمسها الخوف الذي يملأ النفس خوفاً، لأن مادة الرعب مأخوذة من الماء، يقال: سيل راعب يملأ الوادي، وكانت هذه الآية رداً على أبي سفيان لما فكر في العودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد، إلا أن الله تعالى هزمه لما ألقى في نفسه من الرعب، فعاد إلى مكة، كما هي بشرى للمؤمنين متى أطاعوا ربهم وثبتهم فإنه يلقى الرعب في قلوب أعدائهم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نصرت بالرعب مسيرة شهر.
من هداية الأية : تحرم طاعة الكافرين في حال الاختيار.
ما في حال الإكراه فإن من لم يطق العذاب يرخص له في إعطائهم ما طلبوا منه على شرط أن يكون كارهاً بقلبه ساخطاً في نفسه غير راضٍ عنهم ولا عن صنيعهم وذلك للآية: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} .
بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة وهي المعبر عنها بالسلطان في الآية إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها.
السلطان: الحجة لأن الحق يؤخذ بالحجة ويؤخذ بالسلطان، وهل السلطان مأخوذ من السليط، وهو ما يضاء السراج، وهو دهن السمسم، وسمي الحاكم سلطاناً للاستضاءة به في إظهار الحق وقمع الباطل؟ نعم، وجائز.

الربع العاشر : من قوله تعالى إذا تصعدون ولا تلوون على أحد ... (153) إلى قوله تعالى : فرحين بما آتاهم الله من فضله ... (170)

الأيات 152 : 153
{صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ1} : أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا أماكنكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
صدق الوعد: تحقيقه والوفاء به، لأن الصدق هو مطابقة الخبر للواقع، وهذا الوعد كان لهم على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أخبرهم به وهو يهيئ صفوفهم للقتال.
{تَحُسُّونَهُمْ} : تقتلونهم إذ، الحس: القتل. يقال: حسه، إذا قتله فأبطل حسه.
{بِإِذْنِهِ} : بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك.
{فَشِلْتُمْ} : ضعفتم وجبنتم عن القتال.
{تُصْعِدُونَ2} : تذهبون في الأرض فارين من المعركة، يقال: أصعد إذا ذهب في صعيد الأرض.
صعد يصعد، إذا طلع المنبر أو سطحاً، وأصعد يصعد إصعاداً، إذا سار في بطن الأرض أو الوادي جرياً على صعيد الأرض فكان الإصعاد إبعاداً في الأرض.
{وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} : لا تلوون رؤوسكم على أحد تلتفتون إليه.
{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} : أي: يناديكم من خلفكم إليَّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا.
{فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ1} : جزاكم على معصيتكم وفراركم غماً على غم. والغم: ألم النفس وضيق الصدر.
ما زال السياق في أحداث أحد، فقد تقدم في السياق قريباً نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون، ويشيرون به عليهم. ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، وقد فعل فله الحمد حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم، فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية، وذهبوا إلى مكة. ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد، ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه. وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر، فقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ2 اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ، وذلك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بوأ الرماة مقاعدهم. وكانوا ثلاثين رامياً وجعل عليهم عبد الله بن جبير أمرهم بأن لا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال، وقال لهم: إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون ظهورنا بذلك، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حساً، أي: يقتلونهم قتلاً بإذن الله وتأييده لهم، ولما رأى الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم، قالوا: ما قيمة بقاءنا هنا، والناس يغنمون فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم، فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، فما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلاً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك، فعاد المشركون إليهم ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهاجئين، قوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن
بينهم حمزة عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجرح رسول الله في وجه، وكسرت رباعيته، وصاح الشيطان قائلاً: إن محمداً قد مات، وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلاً منهم، وفي هذا يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ1} يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنازعوه في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا (نعم انهزم المشركون في أول المعركة حتى شوهدت نسائهم عن سوقهن هاربات في أعلى الجبل خوفاً من الأسر، ومن بينهم هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان.)
، وهو معنى قوله تعالى: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} أي: من النصر {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ3 الدُّنْيَا} وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} وهم: عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها، وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسوله، فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين، ولم يبقوا منهم أحداً إذ تمكنوا منهم تماماً ولكن الله سلم.
(153) فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة4 فيقول تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: عفا عنكم في الوقت الذي فررتم في المصعدين في الأودية هاربين من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم إليَّ عباد الله ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي: لا تلتفتوا إليه. وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} يريد جزاكم على معصيتكم غماً، والغم: ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة
إرادة الدنيا وحدها غير معصية ولكن ما ترتبت عنها من ترك طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطالب الدنيا إذا طلبها من حلها ولم يخل طلبه بواجب ولم يحمله على فعل حرام لا يأثم ولا يلام.
لما تمت الهزيمة جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع بعض أصحابه على صخرة من سفح أحد فجاء أبو سفيان فارتفع على نشز من الأرض، وقال: أفي القوم محمد؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه" ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه". ثم قال: أفي القوم عمر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه". ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال له عمر: كذبت يا عدوا الله، فقد أبقى لك الله من يخزيك به. فقال: أعل هبل. مرتين. فأجابوه بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلين. الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزة ولا عزة لكم. فقالوا بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله مولانا ولا مولى لكم.
{لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} أي: ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة. وقوله: {وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير مطلع عليه عليم به وسيجزي به المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يعفو عنه، والله عفو كريم.
من هداية الأية : مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة1 المنكرة.
الخلاف كله شر ولكنه في ساحة الحرب أشد، ولهذا قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} إلى أن قال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} . الآية من سورة الأنفال.
معصية الله ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب أثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان.
شاهد هذا حال المسلمين اليوم، وقبل اليوم أنهم بعد أن عصوا الله ورسوله بالإعراض عن شرع الله وإهمال أحكامه والتعصب للمذاهب والرضا بالانقسام والخلاف حل بهم ما حل من الذل والهون والدون.
ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها، فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم.
ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك أن علم المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها.
بيان حقيقة كبرى وهي أن معصية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة واحدة وفي شيء واحد ترتب عليها ألم وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير، فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه، وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين3.
هذه حال أكثر المسلمين اليوم ومنذ قرون عدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذا لم يبرحوا أذلاء تابعين للكافرين لا يستقلون في عمل أو تدبير.
الأيتين 154 : 155
{أَمَنَةً نُعَاساً1} : الأمنة: الأمن، والنعاس: استرخاء يصيب الجسم قبل النوم.
{يَغْشَى2 طَائِفَةً مِنْكُمْ} : يصيب المؤمنين ليستريحوا ولا يصيب المنافقين.
{أَهَمَّتْهُمْ3 أَنْفُسُهُمْ} : أي: لا يفكرون إلا في نجاة أنفسهم غير مكترثين بما أصاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
من أفراد هذه الطائفة: معتب بن قشير وأصحابه خرجوا طمعاً للغنيمة لا غير.
{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} : هو اعتقادهم4: أن النبي قُتل أو أنه لا ينصر.
قال ابن عباس: وهو تكذيبهم بالقدر.
{هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ} : أي: ما لنا من الأمر من شيء.
{لَبَرَزَ الَّذِينَ} : لخرجوا من المدينة ظاهرين ليلقوا مصارعهم هناك.
{مَضَاجِعِهِمْ} : جمع مضجع، وهو مكان النوم، والاضطجاع والمراد المكان الذي صرعوا في قتلى.
{وَلِيُمَحِّصَ} : التمحيص: التمييز وهو إظهار شيء من شيء كإظهار الإيمان من النفاق، والحب من الكره.
{اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} : أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة والتي كانت الفرار من الجهاد.
ما زال الساق في الحديث عن غزوة أحد فأخبر تعالى في الآية الأولى (153) عن أمور عظام: الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً فذهب الخوف عنهم حتى أن أحدهم2 لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} ، والثاني: أن أهل الشرك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على أنفسهم وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم كيف ينجون من الموت، وهم المعنيون بقوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ3 أَنْفُسُهُمْ} ، والثالث: أن الله تعالى قد كشف عن سرائرهم، فقال: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ، والمراد من ظنهم بالله غير الحق ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه. والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ4 شَيْءٍ} هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه ليس لنا من الأمر من شيء ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا فأطلعه الله تعالى على سرهم، وقال له: رد عليهم بقولك: إن الأمر كله لله. ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} أي: يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك. والرابع: لما تحدث المنافقون1 في سرهم، وقالوا: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} : يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولو قتلوا مع من قتل في أحد فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} بالمدينة لبرز، أي: ظهر {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وصرعوا فيها وماتوا، لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع2 القدر، ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى ليبتلي الله، أي: يمتحن ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم فيظهر ما كان غيباً لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون، وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور. هذا معنى قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
(154) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم وهي أن الذين فروا من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال بسبب3 بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب والزلة فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة.
استزلهم: أي: أزلهم بمعنى جعلهم زالين، والزلل: إن كان معناه: انزلاق القدم وسقوط صاحبها، فإن معناها هنا: الوقوع في الذلة التي هي الخطيئة، والسين والتاء في استزلهم للتأكيد، مثل: استفاد كذا واستنشق الماء أو الهواء: {واسْتَغْنَى الله} .
أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه.
الأيات من 156 : 158
{لإِخْوَانِهِمْ} : هذه أخوة العقيدة لا أخوة النسب، وهي هنا أخوة النفاق.
{ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} : ضربوا في الأرض بأقدامهم مسافرين1 للتجارة غالباً.
1 وقد يكون السفر لمصالح المسلمين.
{غُزّىً1} : جمع غاز وهو من يخرج لقتال ونحوه من شؤون الحرب.
الحسرة2: ألم يأخذ بخناق النفس بسبب فوت مرغوب أو فقد محبوب.
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية (156) ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله تعالى ووعيده يناديهم3 لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية وهو من ذلك قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذ هم ضربوا في الأرض لتجارة أو لغزو فمات من مات منهم أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد، لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تودي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي
(157) فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله
الغزو: قصد الشيء، والمغزى: المقصد، والمغزية: المرأة التي غزا زوجها، والنسبة إلى الغزو، غزي.
من هداية الأية
الندم يولد الحسرات والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا.
موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.
الأيات 159 : 160
ومن صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة كما في رواية البخاري أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. والغليظ القلب: من قلت شفقته وعزت رحمته، كما قال الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ...
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
(119) يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر فيقول: {فَبِمَا1 رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ} أي: فبرحمة من عندنا رحمناهم بها لنت2 لهم، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً} أي: قاسياً جافاً جافياً قاسي القلب غليظة {لانْفَضُّوا مِنْ3 حَوْلِكَ} أي: تفرقوا عنك، وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف4 عن مسيئهم، واستغفر لمذنبهم، وشاور ذي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك فإنه يحب المتوكلين، والتوكل: الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له. وعدم التفكير فيما يترتب عليه بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى.
(160) فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائماً بمقتضاها، وهي أن النصر بيد الله، والخذلان كذلك فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل، وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
من هداية الأية : تقرير مبدأ المشورة بين5 الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة.
الاستشارة مأخوذة من شرت الدابة، إذا علمت خبرها كجري ونحوه، ويقال للموضع الذي تركض فيه المشوار، قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وقد قيل: ما ندم من استشار ومن أعجب برأيه ضل. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ولا عال من اقتصد".
من هداية الاية : طلب النصر من غير الله خذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل.
الأيات من 161 : 164
{أَنْ يَغُلَّ} : أي: يأخذ من الغنيمة خفية، إذ الغل والغلول بمعنى السرقة من الغنائم قبل قسمتها.
الغل والغلول1 والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها
سمي الغلول: غلولاً، لأن الأيدي فيها مغلولة، أي: ممنوعة، كأن فيها غلاً، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه.
{تُوَفَّى} : تجزى ما كسبته في الدنيا وافياً تاماً يوم القيامة.
شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذي غل الشملة يوم خييبر: "والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليها ناراً". ولما سمع هذا الوعيد أحد الأصحاب جاء بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شراك أو شراكين من نار" رواه مالك في الموطأ.
الإجماع على أن الغال لا تقطع يده ولكن يعذر، والغلول لا يكون إلا في الغنائم وسمى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدايا العمال غلولاً ويفضحون بها يوم القيامة، لحديث مسلم في قصة ابن اللتبية.
من هداية الأية : الإسلام أكبر نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه.
فضل العلم بالكتاب والسنة.
طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بالإيمان وصالح الأعمال والثاني يكون بترك الشرك والمعاصي.
الأيات من 165 : 168
المصيبة: إحدى المصائب: ما يصيب الإنسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت.
{مِثْلَيْهَا} : ضعفيها إذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا1 سبعين.
اعتبر الأسير قتيلاً؛ لأن الآسر له يملك قتله متى شاء، فلذا قال تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} .
{أَنَّى هَذَا} : أي: من أين أتانا الذي أتانا من القتل والهزيمة.
{أَوِ ادْفَعُوا} : أي: ادفعوا العدو عن دياركم وأهليكم وأولادكم، إن لم تريدوا ثواب الأخرة.
ما زال السياق الكريم في أحدث غزوة أحد ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: {أَنَّى1 هَذَا} أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟ فقال تعالى: {أَوَلَمَّا2 أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} بأحد قد أصبتم مثليها ببدر، لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً، وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحييهم: قل هو من عند أنفسكم، وذلك بمعصيتكم لرسول الله خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال. وقوله: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إشعار بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه.
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة وأنهم صادقون في إيمانهم، ولذا قال تعالى: وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور هذا أولاً، وثانياً: ليعلم الذين نافقوا فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين
(168) {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} وهم عبد الله إبي بن سلول رئيس المنافقين وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وقد قال عبد الله بن حرام والد جابر تعالوا قاتلوا في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم. فأجابوا قائلين: لو نعلم قتالاً سيتم لاتبعناكم، فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} حتى من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم مع الكافرين الغازين. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد وقالوا لإخوانهم في النفاق -وهم في مجالسهم الخاصة-: لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا. فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قائلاً: {فَادْرَأُوا} أي: ادفعوا1 عن أنفسكم الموت إذا حضر أجلكم إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا.

الاستفهام هنا للإنكار والتعجب لأن قولهم: {أَنْى هَذا} مما ينكر ويتعجب منه، وذلك أن سبب المصيبة غير خاف ولا غامض فهو ظاهر مكشوف وهو عصيانهم للقيادة بمخالفة أمرهم، ولما: اسم زمان مضمن معنى الشرط، وقلتم: هو الجزاء.
من هدية الأية : المصائب2 ثمرة الذنوب.
قال تعالى من سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: من الذنوب والمعاصي.
كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه.
قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر.
الحذر لا يدفع3 القدر.
ومع أنه لا يدفع القدر فإن استعماله واجب لقوله تعالى: {خُذوا حِذْرَكم} .

الربع الحادى عشر : من قوله تعالى يستبشرون بنعمة من الله وفضل ... (171) إلى قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ... (185)

الأيات من 169 : 171
الشهداء أحياء والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل.
الشهداء4 يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم نالهم من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم.
روى أبي داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا، إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينقلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله: {ولا تحسبن} ". الآية.
مما ورد في فضل الشهيد: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "القتيل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين، كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفاً". قال العلماء: الدين يشمل كل الحقوق المتعلقة بالذمة.
روى الترمذي وصححه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "للشهيد عند الله ست خصال. يغفر له في دفعه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفرع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه".
الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لحديث البخاري: "وادفنوهم بدمائهم" يعنى شهداء أحد ولا يغسلهم, والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم يوم القيامة كريح المسك.
(172) {الْقَرْحُ} : ألم الجراحات.
قيل: أن هذه الآية: {الذينَ اسْتَجابوُا} إلخ. نزلت في رجلين من بني الأشهل كانا مثخنين بالجراح وخرجا إلى حمراء الأسد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوكأ أحدهما على صاحبه.
أخرج أصحاب الصحاح عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال له: كان أبواك من الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح. وتعني بأبويه: الزبير وأبا بكر الصديق رضي الله عنهما.
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد وما لابسها من أمور وأحوال والآيات الأربع كلها (172 – 175) في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم نبيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت بأحد، وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذناً يؤذن بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه، فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم والمجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره فإذا تعب وضعه فمشى قليلاً، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى حمراء الأسد، وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفاً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأقام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} يريد في أحد واستجابوا: لبوا نداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان
(173) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} . المراد من الناس القائلين هم: نفر من عبد القيس مروا بأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو سفيان أخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم: أبو سفيان، فلما بلغ هذا الخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه زادهم إيماناً فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله، أي: يكفينا الله شرهم، ونعم الوكيل الذي يكفينا ما أهمنا
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {الذيِنَ قَاَل لَهْم النَاس} إلى: {وَنِعْمَ الوَكيِل} قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} .
من هداية الأية
فضل كلمة: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، قالها رسول الله وقالها إبراهيم من قبل فصلى الله عليهما وسلم.
الوكيل: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: الموكول إليه الأمر.
 (174) {فَانْقَلَبُوا} أي: رجعوا من حمراء الأسد؛ لأن أبا سفيان ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وهرب، رجعوا مع نبيهم سالمين في نعمة الإيمان والإسلام والنصر، {وَفَضْلٍ} حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: أذى، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ} بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه. وقوله تعالى: {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل عليه .
 (175) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من زبيب إن هو خوف المؤمنين منه فبعثه كأنه "طابور" يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، فنزلت الآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبي سفيان وجمعه، فلا تخافوهم فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه تعالى، فلا يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا لأنهم المؤمنون بحق رضي الله عنهم أجمعين.
بيان أن الشيطان يخوف4 المؤمنين من أوليائه، فعلى المؤمنين أن لا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم.
معنى يخوف أولياءه: أنه يخوف المؤمنين بأولياءه، وهم المشركون، وذلك على لسان نعيم ابن مسعود الذي أجره أبو سفيان ليخوف المؤمنين بعزم أبي سفيان على الكر عليهم لاستئصالهم وإبادتهم.
الشيطان: يكون من الجن ومن الإنس، فإن كان من الجن فتخويفه يكون بواسطة الواسوس، وإن كان من شياطين الإنس فتخويفه يكون بالكلام الشفوي الذي ظاهره النصح، وباطنه الخداع والغش.
(176)الحزن: غم يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه.
{الْكُفْرِ} : الكفر: تكذيب الله تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر به.
قيل في هؤلاء المسارعين في الكفر: إنهم المنافقون، وقيل: هم كفار قريش، وقيل: هم اليهود، واللفظ يشمل على ذلك، إذ الفئات الثلاث كلها كانت تسارع في الكفر بنصرته والعمل فيه وبه.
من هداية الأية : لا ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق، لأن ذلك لا يضر الله تعالى شيئاً، وسيجزي الله الكافر والفاسق بعدله.
{لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئا} من الضرر لا في ذاته، ولا في دينه في ملكه، وسلطانه، ولا رسوله، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: "لا يعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني".
(177){اشْتَرَوُا الْكُفْرَ} : اعتاضوا الكفر عن الإيمان.
كرر لفظ: {لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئا} لأجل التأكيد والتقرير حتى ييأس المنافقون والكافرون من إلحاق أي ضرر برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبدعوته، وشيئا: منصوب على المصدرية، أي: لن يضروا الله ضرراً قليلاً ولا كثيراً.
(178){نُمْلِي لَهُمْ} : الإملاء: الإمهال والإرخاء بعدم البطش وترك الضرب على أيديهم بكفرهم.
{إِثَّمَا} : الإثم: كل ضار قبيح ورأسه: الكفر والشرك.
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، ففي هذه الآيات الثلاث(176 – 178) -وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار عليه، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين- يخاطب الله تعالى رسوله قائلاً له: لا يحزنك مسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر، وقال في الكفر ولم يقل إلى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه؛ لأن إسلامهم كان نفاقاً فقط، {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً} ، والله يريد أن لا يجعل لهم نصيباً من نعيم الآخرة. فلذا تركهم في كفرهم كلما خرجوا منه عادوا إليه، وحكم عليهم بالعذاب العظيم فقال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
(178) تضمنت الأية بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عندما يمهلهم ويمد في أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خيرٌ لهم، لا، بل هو شر لهم، إذ كلما تأخروا يوماً اكتسبوا فيه إثماً فيقدر ما تطول حياتهم بعظم ذنبهم وتكثر آثامهم، وحيئنذ يوبقون ويهلكون هلاكاً لا نظير له
لا ينبغي للعبد أن يغره إمهال الله له، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك إهمال وإنما هو إمهال.
من هداية الأية
الموت للعبد خير من الحياة؛ لأنه إذا كان صالحاً فالآخرة خير له من الدنيا وإن كان غير ذلك حتى لا يزداد إثماً فيوبق بكثرة ذنوبه.
شاهده قول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} ، وإن كان فاجراً فقد قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} ". وروي مثله عن ابن عباس، أخرجه رزين.
(179) {يَمِيزَ} : يميز ويبين.
{الْخَبِيثَ} : من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي.
{الطَّيِّبِ} : من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح.
(180) البخل بضم الباء وإسكان الخاء، والبخل بفتح الباء والخاء معاً هو أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه من زكاة أو ضيافة أو إطعام جائع وستر عارٍ، ولم يوجد من يقوم به سواه، وما لا فلا يقال فيه بخيل شرعاً.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثْل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يؤخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ... } الآية.
من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية التوبة وحديث البخاري: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه -أي شدقيه- يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ... } الآية".
(181) الحريق: اسم للملتهبة من النار، إذ النار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة.
لما نزل قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت "المدراس"(بيت المعلم من بني إسرائيل) واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال فنحاص: إن رباً يستقرض، نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي، فجاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلاً: "ما حملك على ما صنعت"؟ فقال إنه قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فأنكر اليهودي فأنزل الله تعالى الآية {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، أي: نكتبه أيضاً، ونقول لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} ، وقولنا ذلك بسبب ما قدمته أيديكم من الشر والفساد وأن الله ليس بظلام للعبيد، فلم يكن جزاؤهكم مجافياً للعدل ولا مباعداً له أبداً لننزه الرب تعالى عن الظلم لعباده
(183){عَهِدَ إِلَيْنَا} : أمرنا ووصانا في كتابنا "التوراة".
{بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} : القربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه.
{بِالْبَيِّنَاتِ} : الآيات والمعجزات.
{وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} : أي: من القربان.
{فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} : الاستفهام للتوبيخ، ومن قتلوا من الأنبياء: زكريا ويحي عليهما السلام.
إن من نزلت فيهم الآية لم يقتلوا الأنبياء وإنما قتلهم سلفهم ولكن برضاهم عن أسلافهم، وما صنعوا كان حكمهم حكم من قتل، لأن الرضا بالمعصية معصية. روى أن رجلاً حسن قتل عثمان عند الشعبي، فقال له الشعبي: "شاركت في دمه فجعل الرضا بالقتل قتلاً".
روى القرطبي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت رداً على كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عزريا أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: أتزعم إن الله أرسلك إلينا وأنه أنزل علينا كتاباً عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
من هداية الأية
بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار.
وإن صحت دعواهم في التوراة فإن فيها استثناء عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو هي منسوخة في الإنجيل ولكن ما رد الله تعالى به عليهم لا يتطلب مزيد حجج فإنه قاطع مفحم مسكت، ونص التوراة تمامه: "حتى يأتيكما المسيح ومحمد فإذا أتياكما فآمنوا بهما من غير قربان".
(184){وَالزُّبُرِ} : جمع زبور وهو الكتاب؛ كصحف إبراهيم.
{وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : الواضح البين؛ كالتوراة والزبور والإنجيل.
(185) {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} : أي: ذائقة موت جسدها، أما هي فإنها لا تموت.
{زُحْزِحَ} : نجي وأبعد.
{فَازَ} : نجا من مرهوبه وهو النار، وظفر بمرغوبه وهو الجنة.
{مَتَاعُ الْغُرُورِ} : المتاع: كل ما يستمتع به، والغرور: الخداع، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار صاحبه، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.
يوضح معنى متاع الغرور: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع إليه"، والغرور مصدر أضيف إليه المتاع، فالمتاع: ما يتمتع به ثم يضمحل، وكونه للغرور زاد في التحذير منه، فلذا قال فيها قتادة: "الدنيا متاع متروك يوشك أن تضمحل بأهلها".
من أحكام الاحتضار: تلقين لا إله الا الله وقراءة يس، لتخفيف سكرات الموت لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من ميت يقرأ عنده يس إلا هون الله عليه"، وفي حديث أبي داود: "اقرأوا يس على موتاكم"، ومن أحكام الموت: تغميض العينين، وغسل، وكفنه، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، وتعجيل دفنه، والإسراع في المشي به، لحديث: "اسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحاً فخير تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".
من هداية الأية
تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
الغر، والغرور: هو الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه لمن يطمع به، ويغرر. وهو أيضاً: إظهار الأمر المضر في صورة النافع، وهو مشتق من الغرة، وهي الغفلة. يقال: رجل غر، إذا كان ينخدع لمن يخدعه. وفي الحديث: "المؤمن غر كريم".

الربع الثانى عشر : من قوله تعالى : لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ... (186) إلى قوله تعالى : يا أيها الذين أمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (100) أخر السورة

(186){لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} : لتختبرن في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها، أو بذهابها وأنفسكم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج، أو المرض والموت.
{فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} : يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال.
(187) الكتمان: إخفاء الشيء وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم.
{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} : ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه، وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به من الإسلام.
من هداية الأية : أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء الإسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به، ويحرم عليهم كتمانه أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً.
(188){بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ} : بمنجاة من العذاب في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فإن الله تعالى يقول لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما أتوا من الشر والفساد بتحريف كلامنا وتبديل أوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي يشكروهم ويثنوا عليهم، ما لم يفعلوا من الخير والإصلاح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد من اليهود، ولا تحسبنهم بمفازة، أي: بمنجاة من العذاب، ولهم عذاب أليم يوم القيامة.
روى البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغزو اعتذروا وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية. وروي في سبب نزولها الخبر الآتي: إن مروان بعث بأحد رجاله إلى ابن عباس يسأله قائلاً: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس: "ما لكم وهذه إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ} إلى قوله: {ولَهمْ عَذَابْ أليِم} .
من هداية الأية :
لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد. بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة يحي فلان ...
(190) {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : أي: في وجودهما من العدم.
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : تعاقبهما هذا يجيء وذاك يذهب، هذا مظلم وذاك مضيء.
{لآياتٍ} : دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
{لأُولِي الأَلْبَابِ} : أصحاب العقول التي تُدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة.
روى الشيخان عن ابن عباس: أنه نام ليلة عند خالته ميمونة، قال: فتحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الأخر قعد فنظر في السماء فقال: {إنَّ في خَلْق السَموَات} الآيات، ثم قام فتوضأ، واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
(191) {سُبْحَانَكَ} : تنزيهاً لك عن العبث واللعب، وعن الشريك والولد.
روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن معنى: سبحان الله، فقال: "تنزيه الله عن السوء".
الفكرة: تردد القلب في الشيء، والتفكر ممدوح ما كان في خلق السموات والأرض، وفي أحوال القيامة والمعاد والجزاء والدار الآخرة، وورد النهي عن التفكر في ذات الله، إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره".
(193) {الأَبْرَارِ} : جمع بر أو بار، وهم المتمسكون بالشريعة.
صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قام من الليل قرأ هذه الآيات العشر، فلذا استحب لمن قام من ليله ليتجهد أن يقرأها ويتفكر فيها، وورد عن عثمان: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة".
(196) {لا يَغُرَّنَّكَ} : لا يكن منك اغترار، المخاطب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أصحابه وأتباعه.
{تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب.
(197){مَتَاعٌ قَلِيلٌ} : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواماً وينتهي.
(198) {نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ} : النزل: ما يعد للضيعف من قرى: طعام وشراب وفراش.
الأبرار: جمع بار، وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.
(199) ثبت في الصحيحين: "أن النجاشي لما مات نعاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه وقال: "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه"، فخرجوا إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه". وروى غير واحد عن أنس بن مالك أنه قال: "لما توفى النجاشي، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة: {وإِنَّ مِنْ أَهْل الكِتَاب ... } الآية.
من هداية الأية : شرف مؤمني أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشي.
(200) {وَرَابِطُوا} : المرابطة: لزوم الثغور منعاً للعدو من التسرب إلى ديار المسلمين.
من هداية الأية : تنبيه المؤمنين وتحذيره من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.
المصابرة: هي الصبر في وجه العدو الصابر، ومن هنا كانت المصابرة أشد من الصبر؛ لأنها صبر في وجه عدو صابر، فأيهما لم يثبت على صبره هلك، وأصبح النجاح لأطولهما صبراً. قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ...
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
من هداية الأية
وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة للحصول على الفلاح الذي هو الفوز المرغوب والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.


Comments
NameEmailMessage