U3F1ZWV6ZTE3NDMwODE4MzA4MTc5X0ZyZWUxMDk5Njg2NzQ0NjUyNQ==
أبحث فى جوجل
أبحث فى جوجل
إعلان

التفسير الميسر لسورة المائدة (مختصر تفسير سورة المائدة من أيسر التفاسير للشيخ أبى بكر الجزائرى)



مختصر تفسير سورة المائدة للشيخ أبى بكر الجزائرى من أيسر التفاسير

(1){أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : العقود: هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها: عدم نكثها والإخلال بمقتضاها.
{بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} : هي الإبل والبقر والغنم.
سميت البهيمة: بهيمة؛ لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي: مغلق، وليل بهيم: لا يميز ما فيه من الظلام. وقولهم في الشجاع من الرجال: بهمة؛ لأنه لا يدري من أين يؤتى.
(2) {شَعَائِرَ اللهِ} : جمع شعيرة، وهي هنا مناسك الحج والعمرة وسائر أعلام دين الله تعالى.
{الشَّهْرَ الْحَرَامَ} : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
{الْهَدْيَ} : ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
{الْقَلائِدَ} : جمع قلادة ما يقلد الهدي، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.
{آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} : أي: من إحرامكم.
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة وليس للوجوب، وهذه قاعدة أصولية كل أمر بعد حظر، فهو للإباحة.
هذه الأية تضمنت أحكاماً بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين، فمن المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله، وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة. ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرماً في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، ومن المنسوخ أيضاً: هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدي، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ لْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} . والمراد بالفضل: الرزق بالتجارة في الحج، والمراد بالرضوان: ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ينهي عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدورهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه، وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا.
والهدي: ما يهدى إلى الحرم، ومن خصائصه: أنه يشعر وذلك يجرح سنامه من الجهة اليمنى حتى يسيل الدم، وبذلك يعلم أنه هدي، وقال: بالإشعار كافة الفقهاء إلا أبا حنيفة، ولاموه وعنفوا عليه لتركه السنة الصحيحة في الإشعار.
ويحرم بيع الهدي إذا أشعر وقلت لأنه أصبح كالوقف لله تعالى، ومعنى التقليد: أن يوضع في عنقه قلادة يعلم بها أنه هدي، وهذا يكون في الغنم لأنها لا تشعر.
(3){الْمَيْتَةُ} : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه، أي: بدون تذكية1.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} : أي: ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى، مثل المسيح، أو الولي، أو صنم.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} : أي: بحبل ونحوه فماتت.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} : أي: المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.
يقال: وقذة، يقذة، وقذًا؛ إذا ضربه بحجر ونحوها، والوكذ: شدة الضرب.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : الساقطة من عال إلى أسفل، مثل: السطح والجدار والجبل فماتت.
{وَالنَّطِيحَةُ} : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.
فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، فالنطيحة: هي المنطوحة.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : أي: ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.
{إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ4} : أي: أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه5 بذبحه أو نحره.
ما ذبح من قفاه لا يؤكل إجماعًا، واختلف فيما إذا رفع المذكي يده قبل إنهاء الذكاة ثم ردها فورًا، الصحيح أنها تؤكل ولا خلاف في جواز أكل البعير إذا ند أو وقع في بئر فإنه كيفما ذُكي جاز أكله للحديث الصحيح.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : أي: ما ذبح على الأصنام المنصوبة التي تمثل إلهاً أو زعيماً أو عظيماً، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا} : أي: وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنبياء، والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت.
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} : أي: ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالإزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} : أي: من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر.
{فِي مَخْمَصَةٍ} : المخمصة: شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} : غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة، وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.
هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة، وهو قوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي:
الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب.
ما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله به: هما كشيء واحد إلى أن ما أهل لغير الله به غالبًا يكون مذبوحًا لغير الأصنام؛ كالأنبياء والأولياء.
وقوله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حياً وأنه مات بالذبح.
الذكاة في لغة العرب: الذبح كقوله تعالى: {إلا ما ذَكيتم} ، أي: ذبحتم ما ذكر اسم الله عليها، وفي الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، والذكاة: سرعة الفطنة، والتذكية: مأخوذة من التطيب، فذكاها بمعنى: طيبها بالذبح، ومنه رائحة ذكية: أي: طيبة.
والذكاة تقع بكل حاد ينهر الدم، ويفري الأوداج ما عدا العظم والسن، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس السن والظفر"، لأن السن عظم، والظفر مدى الحبشة.
وقوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ}  هي ثلاثة أزلام كتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: مهمل لم يكتب عليه شيء ويجعلها في خريطته، فإذا خرج أمرني مضى في عمله، وإذا خرج نهاني ترك ما أراد فعله، وإذا خرج المهمل أعاد الضرب في الخريطة، وهناك نوعان من الاستقسام غير ما ذكرنا.
يريد ولا يحل لكم الاستقسام بالأزلام، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمح صغير لا زج له ولا ريش فيه، يضعونها في خريطة كالكيس، وقد كتب على واحد أمرني ربي، وآخر: نهاني ثم يحيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلماً منها فإن وجده مكتوباً عليه: أمرني ربي، مضى في عمله سفراً أو زواجاً، أو بيعاً أو شراء، وإن وجده مكتوباً عليه: نهاني ربي، ترك ما عزم على فعله1 فجاء الإسلام فحرم الاستقسام بالأزلام، وسن الاستخارة وهي: أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمي حاجته. ويفعل أو يترك ما عزم عليه، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} يخبر تعالى عباده المؤمنين: أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإسلام، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذاً فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم، وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتي.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}
هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } نزلت بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع بعد العصر، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقته: العضباء، كما هو واضح في رواية مسلم في صحيحه.
ووجه إكمال الدين أنه كان قبل الهجرة مقصورًا على الشهادتين، والصلاة ولما هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يومًا بعد يوم حتى كمل وأعلن عنه الرب تعالى في حجة الوداع بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ... } إلخ.
فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا: إكمال الدين3 بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام حجة الوداع، ولم يعش بعدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أحدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى. وثانياً: إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم، وأبعد الكفر والكفار عنهم، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتمها عليهم. وثالثاً: رضاه بالإسلام ديناً لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهراً وباطناً، وذلك سلم العروج إلى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات، فلله الحمد وله المنة.
من هداية الآية:
1- حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.
2- حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.
3- حرمة الذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.
4- جواز أكل ما أدركه المسلم حياً من الحيوان المأكول فذكاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت.
(4) {مُكَلِّبِينَ} : أي: مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارحة كلباً أو طيراً.
{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} : غير مجاهرين بالزنى.
{أَخْدَانٍ} : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السري.
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور؛ كالصور ونحوها. مكبلين، أي: مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم، {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} . أي: تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت، أي: أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زُجرت انزجرت، وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم 2 وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما: أولاً: أن يذكر اسم الله عند إرسال الجارحة بأن يقول: بسم الله هاته مثلاً، والثاني: أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالاصطياد
والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب: ذبائحهم خاصة. وهذا مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب، وبعد أن صارت لهم.
فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله- كعزير وعيسى- فقال ابن عمر: لا تحل. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل. وهو قول الشعبي وعطاء قالا: فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون»  . قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه- تعالى وتقدس-
وإنما قال: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أى يحل لكم ان تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة. فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله- تعالى- لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظورا.
(6) أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ: ملامسة النساء كناية عن الجماع، كما أن من لامس امرأة ليلتذذ بها
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً: الجنب: من قامت به جنابة، وهي شيئان: غياب رأس الذكر في الفرج، وخروج المني بلذة في نوم أو يقظة.
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} : اقصدوا تراباً أو حجراً أو رملاً أو سبخة مما صعد على وجه الأرض.
الحرج: المشقة والعسر والضيق.
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما العظمان النائتان عند بداية الساق، وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، وكيفية المسح على الخفين هي: أن يبل يده بالماء ثم يمسح ظاهر رجله اليمنى، ثم يمسح ظاهر اليسرى دون باطنها. حديث علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه". ويشترط في المسح أن يلبس خفيه على طهارة.
كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، وقول بسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء. كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء.
وضلت الرافضة فأخذوا بقراءة: {وأرجلكم} بالكسر ومسحوا أرجلهم في كل وضوء وتركوا غسل الرجلين أبدًا، والحامل لهم على ذلك أن رؤسائهم زينوا لهم ذلك وأوجبوه عليهم لعلة أن يبقوا بعيدين عن الإسلام والمسلمين ليستغلوهم ماديًا، وليعدوهم لقتال المسلمين لإعادة دولة المجوس التي يحلمون بها، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم عملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم فغسلوا أرجلهم؛ لأن نبيهم لم يمسح رجليه بدون خف قط، ومسحوا على الخفين كما مسح نبيهم فأخذوا بالقراءتين معًا.
(8) {قَوَّامِينَ لِلَّهِ} : جمع قوام، وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضاً لا يفرط في شيء من ذلك.
{شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} : جمع شهيد بمعنى: شاهد، والقسط: العدل.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} : أي: لا يحملنكم.
{شَنَآنُ} : بغض وعداوة.
(11) ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه، هي نجاة نبيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته:
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما، جاءوا يطالبون بدية قتيلهم، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى بني النضير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة، إذ من جملة موادها: تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية، فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود، وقد خلوا ببعضهم وتأمروا على قتله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلائهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر
كف اليد: كناية عن عدم القتل والقتال. وبسطها: كناية عن السوء والأذى الحاصل بها.
(12) الميثاق: العهد المؤكد بالإيمان.
{نَقِيباً} : نقيب القوم: من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.
{وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} : أي: نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.
التعزير: التعظيم. والتوقير والنصرة والدفاع عن المعزر. والتعزير في الشرع: الضرب دون الحد لرد المخالف إلى الحق وسبيل الرشاد.
{وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ} : أي: أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله.
{وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} أي: من كل قبيلة من قبائلهم الاثنى عشرة قبيلة نقيباً يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم، وهم الذين بعثهم موسى عليه
من بين النقباء الاثنى عشر: يوشع، وكالب، وهما رجلان صالحان، والباقون هلكوا فلا خير فيهم.
السلام إلى فلسطين لتعرفوا على أحوال الكنعانيين1 قبل قتالهم.
(13) نقض الميثاق: حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة، والكلم من الكلام.
وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا} : تركوا قسطاً كبيراً مما ذكرهم الله تعالى به، أي: أمرهم به في كتابهم.
{إِنَّا نَصَارَى} : أي: ابتدعوها بدعة النصرانية، فقالوا: إنا نصارى.
توضح الأية أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثنى عشر نقيباً قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} شديدة غليظة لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة، ولا تزال يا رسولنا {تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} أي: على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير {إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} فإنهم لا يخونون؛ كعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا {فَاعْفُ عَنْهُمْ} فلا تؤاخذهم بالقتل، {وَاصْفَحْ} عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
لفط: خائنة، صالح لأن يكون صفة لطائفة محذوفة كما في التفسير، وجائز أن تكون خائنة بمعنى خيانة؛ كقولهم في القيلولة: قائلة، والخيانة: هي المعصية، يحدثونها؛ كالكذب والفجور، وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد.
(14) {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ} : الإغراء: التحريش، والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبداً.
أخبر تعالى فى هذه الأية عن النصارى وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيراً عنهم، فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.
التعبير بلفظ: النصارى، فيه إشارتات مهمتان: الأولى: أن النصرانية بدعة ابتدعوها وليست مما شرع الله تعالى، فهو ينفي عنهم ذلك. والثانية: بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين والحق وأهله أخذًا من قول عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} ، فقَالَ الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ} إذا لم تنصرون الحق وهو الإسلام وأهله، وهم المسلمون؟.
(15) {أَهْلَ الْكِتَابِ} : هنا هم اليهود والنصارى معاً.
الكتاب: اسم جنس، يصدق على الواحد والاثنين والأكثر، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، ونداءه لهم بعنوان الكتاب فيه معنى العيب عليهم سلوكهم الشائن وإنحرافهم الخطير حيث بعدوا عن كل خير.
{تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} : الكتاب: التوراة والإنجيل، وما يخفونه صفات النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض الأحكام، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة؛ كالرجم مثلاً.
{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.
{يَعفو} معناه: يعرض ولا يظهر، يقال: عفا الرسم، إذا لم يظهر، فعفا عن كذا، أعرض عنه ولم يظهره
(18) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معاً، وهو دعواهم أنهم {أَبْنَاءُ الله2وَأَحِبَّاؤُهُ} ، إذ قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ3 أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وهو تبجح وسفه وضلال، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لهم يا رسولنا: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فهل الأب يعذب أبناءه، والحبيب يعذب محبيه، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوماً بسب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوماً، كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} ، والحقيقة أن هذا القول منكم من جملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها
(19) {عَلَى فَتْرَةٍ} : الفترة: زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال الله تعالى رسولاً.
{بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} : البشير: المبشر بالخير، والنذير: المنذر من الشر، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
الفترة: مشتقة من فتر عن عمله، يفتر فتورًا، إذا سكن. والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد عليه. والمراد بها في الشرع: هي انقطاع ما بين الرسولين.
قد جاءهم رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من الرسل، إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}
(20) النعمة: اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} فهو دال على العدد الذي لا يحصى.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} كموسى وهارون عليهما السلام {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل (21 - 23){يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} للسكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي: ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين، لا أمر الله بالجهاد أطعتم، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير لهم، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} !! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول، اللهم إلا اثنين منهم، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا، وهما اللذان قال تعالى عنهما: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: أمر الله تعالى {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا} فعصمهما من إفشاء سر ما رأوا من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي: باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ، وذلك لعنصر المباغتة، وهو عنصر مهم في الحروب، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا} وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها، لأنها أرض القدس والطهر.
{جَبّارِين} أي: عظام الأجسام طوالها، والجبار من الناس: المتعظم الممتنع من الذل والفقر، أو هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم، وذكر القرطبي هنا حديثًا مسهبًا، عن عوج بن عناق، وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة.
الأرض المقدسة هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت، فتنتهي إلى حماة شمالاً وغزة وحرون جنوبًا "نقلاً عن التنوير".
(24 – 26){فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} أي: الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلاً ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة "أربعين سنة" وكيف كانوا فيها؟ يتيهون في أرض سيناء متحيرين لا يدرون أين يذهبون ولا من أين يأتون،
التيه في اللغة: الحيرة. يقال: تاه يتيه تيهًا، إذا تحير، والأرض التيهاء التي لا يهتدي فيها، وتاه المرء في الأرض ذهب فيها متحيرًا لا يدري، أين يذهب أو يجيء.
(27 – 30) {يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} : يستر بالتراب جسد أخيه، وقيل: فيه سوءة، لأن النظر إلي الميت تكرهه النفوس، والسوءة: ما يكره النظر إليها.
ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالله تعالى يقول لرسوله: واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به، توبيخاً لهم، وإظهاراً لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم، فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم، وكنت معهم كخير ابني آدم، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} ، أي: قرب كل منهما قرباناً لله تعالى فتقبل الله قربان أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} وهو قابيل؛ لأنه كان من أردأ ماله، ونفسه به متعلقة، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسداً له -كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك- فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عائد إلى نفسك لا إلى غيرك {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} للشرك، فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصاً له، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك، فلم يتقبل منك. ووالله قسماً به. {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} ، وعلل ذلك بقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، أي: أن ألقاه بدم أرقته ظلماً. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، أي: ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي فارقته في حياتك كلها، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها الذين لا يفارقونها أبداً قال تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} ، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} أي شجعته عليه وزينته له فقتله {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ4} النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به
فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن، وعندئذ بعث الله غراباً يبحث في الأرض، أي: ينبش الأرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه: أي بعث الله الغراب ليريه كيف يواري، أي: يستر سوءة أخيه، أي جيفته، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه الغراب الميت قال متندما ًمتحسراً يا ويلنا، أي: يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك، ثم وبخ نفسه قائلاً: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} ، كما وارى الغراب سوءة أخيه، وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه وبمجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمداً لا تنجيه من النار.
لما كان أول من سن القتل فإنه لا تقتل نفسًا ظلمًا إلا وعليه كفل منها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل". وفي الحديث الآخر: "من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
بيان أول من سن جريمة القتل، وهو قابيل، ولذا ورد: ما من نفس تقتل نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل "نصيب" ذلك بأنه أول من سن القتل.
يستحب توسعة القبر لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احفروا وأوسعوا وأحسنوا اللحد". واللحد أفضل من الشق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللحد لنا والشق لغيرنا". ويستحب لمن يضع الميت في قبره أن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ولمن حضر الدفن أن يحثو على القبر من قبل رأسه ثلاثًا.
من هداية الأية : خير ابنى آدم المقتول ظلماً، وشرهما القاتل ظلماً.
وإن قيل ما تصنع بحديث الصحيح: "إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قلت هذا الحديث فيمن يقاتل في غير حق استوجب القتل والقتال. أما من ظلم فدافع عن نفسه فقتل فهو شهيد بنص الحديث الصحيح. وكذا من بغى على المسلمين فقتاله واجب، ومن قاتله فهو مجاهد ومن قتل فهو شهيد.
(32) {ومن أحياها} : قدرعلى قتلها وهي مستوجبه له فتركها.
يقول تعالى: إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها، أوحينا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء، فقد قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل، فقد قتلوا رسولين: زكريا ويحي، وهموا بقتل المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أجل ذلك1 شددنا2 عليهم في العقوبة، إذ من قتل منهم نفساً بغير نفس أي ظلماً وعدواناً، أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض، وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعاً يوم القيامة، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} بأن استوجب القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} يعني يُعطى أجر من أحيا الناس4 جمعياً، كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيراً لهم من القتل الذي أصروا عليه، وترغيباً لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه
من أحياها: معناه: من استنقذها من الموت، بأن عفى عنها بعد تعين القصاص عليها، أو دافع عنها حتى أنقذها ممن أراد قتلها لأن الإحياء بعد الموت ليس في مقدور الإنسان وإنما قد يهم المرء بالقتل ويعفو فيكون كمن أحياها.
(33){يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} : بالخروج عن طاعتهما وحمل السلاح على المؤمنين وقتلهم وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} : بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على أعراضهم.
{أَوْ يُصَلَّبُوا} : يشدون على أعواد الخشب ويقتلون، أو بعد أن يقتلوا.
{مِنْ خِلافٍ} : بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس.
{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} : أي من أرض الإسلام.
لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسراً لحدة جرءتهم على القتل والفساد، ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في ديارهم فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ1 يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} بالكفر بعد الإيمان
والقتل والسلب بعد الأمان، {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} بتخويف المسملين، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم، والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} ، ومعنى: يقتلوا: واحداً بعد واحد نكاية لهم وإرهاباً وتعزيراً لغيرهم، ومعنى: يصلبوا: بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة أيام، ومعنى: ينفوا من الأرض: يخرجوا من دار الإسلام، أو إلى مكان ناءٍ كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وآذاهم، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزياً وذلاً لهم1 في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
الجمهور على أن سبب نزول هذه الآية: {إنْمَا جَزاء ... } إلخ. هو العرنيون الذين نزلوا المدينة وادعوا أنهم اجتووها، أي: أمرضهم مناخها فأمر لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا خارج المدينة، ولما شفوا وصحوا قتلوا الراعي ومثلوا به، وذهبوا بالإبل فلحقتهم خيل المسلمين فردتهم ونزلت هذه الآية ببيان حكم الله فيهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فبقى هذا تشريعًا يطبق على مثلهم إلى يوم القيامة.
والعرنيين وكانوا سبعة ثلاثة من عُكل، وأربعة من عرينة كفروا بعد إيمانهم الذي أظهروا بالمدينة، ثم ادعوا أنهم استوخموا المدينة فساعدهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة منه بما يشفيهم، فلما شفوا وصحوا كفروا وقلتوا الراعي وساقوا الإبل، والأية عامة في المرتد وغيره، والحكم ما بين الله تعالى في هذه الآية لا غيره، وصيغة الحصر فيها إنما ظاهرة.
الجمهور على أن اللص كالمحارب يناشد بالله تعالى أن يكف وينصرف وإن أبى يُقاتل ويقتل، ومن قتله اللص فهو في الجنة، وإن قتل اللص فهو النار، لحديث الصحيح، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أرأيت يا رسول الله إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطيه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: فإن قتلته؟ قال: "فهو في النار".
(35){الْوَسِيلَة} : تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب2 منه.
الوسيلة: لغة: القربة، والجمع: قرب، وهي فيعلة، بمعنى: مفعولة، أي: متقرب بها. من توسل إلى فلان تقرب إليه بكذا.
(36) لو ثبت لهم ما في الأرض ومثله معه أيضًا لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه في وجوه الإنفاق المحبوبة لهم لافتدوا به ولكن أنى يكون لهم ذلك.
(38){وَالسَّارِقُ} : الذي أخذ مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} : أي: اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع.
{نَكَالاً} : عقوبة من الله تجعل غيره ينكل أن يسرق.
أول سارق قطعت يده في الإسلام، هو: الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وأول سارقة في الإسلام هي: مرة بنت سفيان المخزومية.
السارق عن العرب: هو من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب، فإن تمنع بما أخذ فهو غاصب.
إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع، فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
(41){لا يَحْزُنْكَ} : الحزن: ألم نفسي يسببه خوف فوات محبوب.
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : كثيروا الأكل للحرام؛ كالرشوة والربا.
{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي: لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك، {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} سماعون ليهود آخرين لم يأتوك؛ كيهود خيبر وفدك، أي: كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهمل قوم آخرين ينقلون إليهم أخبارك كوسائط، وهم لم يأتوك، وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد الزنى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، أي: يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم، فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك.
يا أيها الرسول : هو النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاطبه ربه بعنوان الرسالة تشريفًا له وتعطيمًا وإشعارًا له بعدم داعي الحزن، إذ من كان في مقامه لا يحزن مهما كانت المصائب، والآية نزلت في حادثة زنا اليهوديين، إذ روى في الصحيحين، أن جابرًا قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه. فسألوه. فدعا ابن صوريا، وكان عالمهم، وكان أعور. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنشدك الله كيف تجدون حد الزنا في كتابكم"؟ فقال ابن صوريا: فأما إذ نشادتني الله فإنا نجد في التوراة: النظر: زنية، والاعتناق: زنية، والقبلة: زنية. فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها. مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو ذاك".
من هداية الأية :  استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
(44) {وَالرَّبَّانِيُّونَ} : جمع رباني: العالم المربي الحكيم.
{قِصَاصٌ} : مساواة.
{وَقَفَّيْنَا} : أتبعناهم بعيسى بن مريم.
الذي عليه أكثر الفقهاء: أن المسلم لا يقتل بالذمي. لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المؤمنون تتكافأ دمائهم وهم يدُ على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" رواه أبو داود والترمذي.
لا خلاف أن في العينين دية، وفي العين الواحدة نصف دية، وفي عين الأعور دية كاملة، وفي الأنف إذا جدع الدية كاملة.
الدية في ذهاب السمع، إما مع بقاء السمع ففيه حكومة.
في السن خمس من الإبل لحديث الصحيح في ذلك.
وفي الشفتين الدية، وفي الواحدة نصف الدية، وفي اللسان إذا قطع الدية.
(48) {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} : حاكماً عليه، أي: محققاً للحق الذي فيه، مبطلاً للباطل الذي التصق به.
{شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} : شريعة تعملون بها وسبيلاً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى.
{حكم الجاهلية} : هو ما عليه أهل الجاهلية من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.
أصل الشريعة في اللغة: الطريقة التي يتوصل بها إلى الماء، وهي هنا: ما شرع الله لعباده من الدين الشامل من العقائد والعبادات والأحكام القضائية يتوصل بها إلى سعادة الدارين.
{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن قومًا من الأحبار اجتمعوا، منهم: ابن صوريا، وكعب، وشاس، وقالوا: إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه وقالوا: قد عرفت يا محمد إنا أحبار اليهود وإن اتبعناك لم يحالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك. فأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت هذه الآية.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} . وقد أصابهم فأجلوا من الحجاز وقتل بنو قريظة وضربت عليهم الجزية في ديار الإسلام.
(51)ورد في سبب نزول هذه الآية عن عبادة بن الصامت الأنصاري، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة، ولما انتصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبي بن أبي، ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} أي: لكم من دون المؤمنين، وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} تعليل لتحريم موالاتهم، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي: أيها المؤمنون {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين، وبذلك يصبح منهم قطعاً
الموالاة حقيقتها: المودة والنصرة، فمن والى اليهود والنصارى فأحبهم ونصرهم على المسلمين لازمه أن أبغض المؤمنين وخذلهم، وبهذا يصبح كافرًا.
من هداية الأية : لا يعد موالاة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني، إذا دعت الحاجة إليه، ولا يصح اسبتطانهم ولا الاستعانة بهم في الجهاد.
(52){مَرَضٌ} : نفاق وشك وشرك.
{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} : أي: في البقاء على موالاتهم، أي: موالاة اليهود والنصارى.
{دَائِرَةٌ} : تدور علينا من جدب، أو انتهاء أمر الإسلام.
الدائرة: اسم فاعل من دار يدو فهو دائر، إذا عكس سيره فالدائرة تغير الحال، وغلبت في الخير والشر، أي: من خير إلى شر. ودوائر الدهر: نوبه ودوله.
{بِالْفَتْحِ} : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك؛ كفتح مكة.
تضمنت الأية بعض ما قال ابن أبي مبرراً موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود، إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كابن أبي، والمرض مرض النفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون، يقولون كالمعتذرين {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم.
(53){جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أقصاها وأبلغها.
حقيقة الجهد: التعب والمشقة، ومنتهى الطاقة، والمراد به في الآية: آكد الإيمان وأغلظها، وفعل الجهد: جهد؛ كمنع يجهد كيمنع جهداً كمنع.
(54){يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} تضمنت خبراً من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقاً وأن المنزل على رسوله صدقاً، فقد أخبر تعالى أنه من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ارتد فئات من أجلاف العراف ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، وقد روي بل وصح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية وتلاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا، وفعلاً بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم.
(59){هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} : أي: ما تنقمون منا، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.
(58){وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} . حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: {لا يَعْقِلُونَ} شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم.
لم يكن بمكة الآذان وإنما كان ينادي للصلاة باللفظ: "الصلاة جامعة" ولما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالآذان، وبقيت: "الصلاة جامعة" والأمر بعرض، ولما همهم أمر الآذان رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الآذان في المنام، وكذا رآه عمر.
(63) من هداية الأية:  قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية. {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، والآية وإن نزلت في يهود المدينة، فقد ذكرت النصارى لأن حالهم سواء. والآية تنطبق اليوم على علماء المسلمين حيث تركوا الأمر والنهي، والعياذ بالله تعالى من عاقبة ذلك. فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". الترمذي وصححه. ولولا هنا: أداة تحظيظ، والمراد: توبيخ علماؤهم وعابديهم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(64){يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.
القائل: فنحاص اليهودي عليه لعائن الله وهو يعنى: بمغلولة: بخيلة لا تنفق، وهو كاذب، بل يمين الله ملأى لا يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" حديث الشيخين.
من هداية الأية :
ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله.
تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء3 وهو من تدبير الله تعالى.
وإن قيل: إن التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الآية، قلنا: إن اليهود احتالوا على النصارى فضربوهم بالإلحاد، فلما قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم يتحكمون فيهم، وبذلك فرضوا عليهم حبهم وعدم عداوتهم.
(67) روى مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئًا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... } الآية.
ولما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تحرسوني فإن الله قد عصمني"
(69) {وَالصَّابِئُونَ} : جمع صابئ، وهم فرقة من أهل الكتاب.
اختلف في إعراب {والصابئون} على أقوال نكتفي بقول منها: وهو أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف تقديره: والصابئون كذلك
(70) {بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.
(71) {أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : أي: أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.
{فَعَمُوا وَصَمُّوا} : عموا عن العبر، وصموا عن سماع المواعظ.
(72) هذا قول اليعقوبية، وهم: فرقة من النصارى، لأنهم قالوا: باتحاد الابن والأب؛ فكأن المسيح هو الله في اعتقادهم الباطل الفاسد.
(73) {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} : الثلاثة: هي الأب والابن وروح القدس: وكلها إله واحد.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} يعنون الأب والابن وروح القدس، وبعضهم يقول الأب والابن والأم، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا، فقال رداً باطلهم، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: وليس الأمر كما يكذبون، وإنما الله إله واحد، وأما جبريل فأحد ملائكته، وعيسى عبده ورسوله، ومريم أمته، فالكل عبد الله وحده الذي لا إله غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعداً هؤلاء الكفرة الكذبة: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع.
(75) {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} : أي: مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي: كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحاً.
يقال: أفكه يأفكه أفكًا، إذا صرفه صرفًا، وهو من باب ضرب.
أخبر تعالى معلماً رسوله الاحتجاج على باطل النصارى، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ} فلم يكن رباً ولا إلهاً وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضاً إلهاً كما يزعمون، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام احتياجاً إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل أكل الطعام افتقاراً إليه، ثم يفرز فضلاته، يصلح أن يكون إلهاً. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم، ثم انظر كيف يؤفكون عن الحق، أي: كيف يصرفون عنه وهو واضح بين.
من هداية الأية : إن من يأكل الطعام وولدته امرأة كيف لا يكون مخلوقًا مربوبًا محدثًا كسائر المخلوقين لم يستطع دفع هذا نصراني مهما أوتى من العلم إلى أنهم يهربون من مواجهة الحق فيقولون تضليلاً لعقولهم وخداعًا لنفوسهم إنه يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، ومعناه: أن الإنسان اختلط بالإله، وهذه هي الحلولية الباطلة الفاسدة عقلاً وشرعاً وواقعا.
تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام بنيتهما، ومن كان مفتقراً لا تصح ألوهيته عقلاً وشرعاً.
(77) {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} : الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه، فمثلاً أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو، أمرنا بتعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاؤه غلو في الدين.
{أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} : جمع هوى، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
(79) {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} . أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده". فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعن الذين كفروا -إلى قوله- فاسقون". ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على ليد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرأ ولتقسرنه على الحق قسراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم3"
(80) {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} ، أي: اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم، ثم قبح تعالى عملهم فقال: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له
(82) أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فأنزل الله فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه فأسلم النجاشيّ فلم يزل مسلما حتى مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاكم النجاشيّ قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة.
ولكن لما عمت المادية المجتمعات النصرانّية، وانتشر فيها الإلحاد والإباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت.
والمعنى بالأية على أية حال من أسلم من النصارى بمجرد أن تُلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين} أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة
(87 ، 88) هاتان الأيتان  نزلتا في بعض الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيامه فكأنهم تقالّوا ذلك فقال أحدهم: أنا لا آتي النساء، وقال آخر: أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر: أنا أقوم فلا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب الناس، وقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} من طعام وشراب ونساء، {ولا تعتدوا} بمجاوزة ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم {لا يحب المعتدين}
(89) {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} فقد نزلت لما قال أولئك الرهط من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا" فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو: لا والله أو بلى والله
قال العلماء: الأيمان أربعة: يمينان يكفر فيهما إذا حنث ويمينان لا كفارة فيهما فالأوّلان أن يقول: والله لأفعلن كذا ثم يحنث والثاني أن يقول: والله لا أفعل كذا ويحنث، واللّذان لا كفارة فيهما: الأولى: لغو اليمين وهو أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر خلافه، والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو غير قاصد نحو: لا والله، بلى والله، والخامسة: اليمين الغموس، وهو أن يحلف متعمّداً الكذب وكفّارتها التوبة لا غير وان كفّر مع التوبة فحسن.
وقول أخر أن الأيمان ثلاثة: لغو: يمين لا كفارة لها إذ لا إثم فيها، الغموس: وهي أن يحلف متعمداً الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المكفَّرة: وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.
(90) الخمر والميسر: الخمر: كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت، والميسر: القمار.
والأنصاب: الأنصاب: جمع نصب. ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به، أو لتعظيمه كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث.
الأزلام: جمع زلم: وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة، ومثلها قرعة الأنبياء، وخط الرمل، والحساب بالمسبحة.
رجس: الرجس: المستقذر حساً كان أو معنى، إذ المحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة.
صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه خطب يوماً فقال: "أيّها الناس ألا إنّه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر، والعسل والحنطة والشعير" والخمر ما خامر العقل أي: ستره وغطّاه فأصبح المرء يهذي ويقول الخطأ والصواب.
ما دامت علّة التحريم في الخمر والميسر هي إثارة العداوة بين إخوة الإيمان، والصدّ وهو الإلهاء عن ذكر الله وعن الصلاة فإن كل ما ينشأ عنه إثارة العداوة والصدّ عن الذكر والصلاة فهو حرام.
وهذه الآية نزلت بعد وقعة أحد وكانت في السنة الثالثة من الهجرة أي في آخرها ولكنها وقعت هنا في سورة المائدة بعد نزولها وهذه الآية هي الناسخة لإباحة الخمر ويروى في سبب نزولها أن ملاحاة كانت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار سببها شرب خمر في ضيافة لهم.
(93) {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا4 وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} فقد نزلت لقول بعض الأصحاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟ " أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه. فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر.
(94) الصيد: ما يصاد.
تناله أيديكم: كبيض الطير وفراخه.
قوله: {تناله أيديكم} يريد صغار الصيد، وفراخه وبيضه. {ورماحكم} هو كبار الصيد الذي لا يؤخذ باليد ولكن بآلة الصيد.
فمن اعتدى (بعد التحريم) : بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.
وأنتم حرم: جمع حرام والحرام: المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.
{يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب} فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.
(95) من النعم: النعم: الإبل والبقر والغنم.
ذوا عدل منكم: أي صاحبا عدالة من أهل العلم.
وبال أمره: ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.
{ومن قتله منكم متعمداً} فالحكم الواجب على من قتله جزاءً {مثل ما قتل من النعم} وهى الإبل والبقر والغنم {يحكم به ذوا عدل منكم} فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} وقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى: {عفا الله عما سلف} أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى، وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: {ومن عاد فينتقم4 الله منه والله عزيز ذو انتقام} ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم.
(96) وللسيارة: المسافرين يتزوّدون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.
أُذن للمحرم ولمن في الحرم في قتل ما يؤذي كالحية والعقرب، والغراب والفأرة وكل ما يؤذي كالأسد والنمر والذئب والفهد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة".
 (96) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد. أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله {متاعا لكم وللسيارة} وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم
(97) الكعبة: الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.
قياماً للناس: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.
الشهر الحرام: أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.
الهدي: ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.
والقلائد: جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.
{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام ومعنى قياماً: أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لِحَاءَ شجر الحرم إعلاماً بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى: {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.
الشهر: اسم جنس ولذا أريد به هنا الأشهر الحرم الأربعة.
يقال له رجب الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ويقال: رجب مضر لأن مضر كانت تعظّمه أكثر من غيره، والأصب حيث يصب فيه الخير صبَّاً.
(100) من هداية الأية : تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل.
(101 – 102) لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تضايق منهم فقام خطيباً فيهم وقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم". . فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة، وقال أبو هريرة: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ولو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم" فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} أي تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي يبينها رسولنا لكم. أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مالا ينبغي لكم لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم: {عفا الله عنها} أي لم يؤاخذكم بما سألتم {والله غفور حليم} ، فتوبوا إليه يتب3 عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم. وقوله تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} أي قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه قوم من قبلكم {فأصبحوا بها كافرين} من أمثلة ذلك: سؤال قوم صالح الناقة، وقوم عيسى المائدة، وفي الآية تحذير للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا. وفي صحيح مسلم يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرْم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته".
ثم أصبحوا بها كافرين  لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا.
وإن قيل: ما وجه أنه تعالى نهاهم عن السؤال ثم أذن لهم بقوله: {وإن تسألوا عنها..} الخ؟ الجواب: إن تسألوا عن غيرها مما دعت الحاجة إليه، ففي الكلام حذف مضاف كما قدّمناه فتأمله.
بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يسوء ومع هذا فإن سؤال التنطع والتعنت مكروه دائماً وفي الحديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
(103) ما جعل الله: أي ما شرع.
بحيرة ولا سائبة: البحيرة: الناقة تبحر أذنها أي تشق، والسائبة: الناقة تسيّب.
ولا وصيلة ولا حام: الوصيلة: الناقة يكون أول إنتاجها أنثى، والحام: الجمل يحمى ظهره للآلهة.
{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله: {ما جعل الله من بحيرة} أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حَمَى حَامِياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه {وأكثرهم لا يعقلون} ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجرُّ قصَبه في النار أي أمعاءه في جهنم.
(105) عليكم أنفسكم: ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.
{يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده {عليكم أنفسكم} ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي، {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} : أي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤذِّي حتماً إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً يوماً فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم.. الخ} وإنكم تضعونها5 على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب" وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون} فيه وعد ووعيد، وعد لمن أطاع الله ورسوله، ووعيد لمن عصاهما.
قيل هذه الآية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ، فالناسخ فيها قوله: {إذا اهتديتم} والمنسوخ هو {عليكم أنفسكم} إذ من اهتدى لا يضره من ضل ولا تتم الهداية إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من هداية الأية ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروفونهاهم عن المنكر.
1 قالت العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رُجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضرراً يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.
(106 - 108) إن أنتم ضربتم في الأرض: أي بأن كنتم مسافرين.
من بعد الصلاة: صلاة العصر.
إن ارتبتم: شككتم في سلامة قولهما وعدالته.
فإن عثر: أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.
أدنى: أقرب.
على وجهها: أي صحيحة كما هي لا نقص فيها ولا زيادة.
الفاسقين: الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذ حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} أي ليشهد اثنان {ذوا عدل منكم} أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين {إن أنتم ضربتم في الأرض} أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة، {ولا نكتم شهادة الله، إنا إذاً} أي إذا كتمنا شهادة الله {لمن الآثمين} {فإن عثر على أنهما استحقا إثماً} أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} 1 فيقسمان بالله قائلين والله: لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، {وما اعتدينا} أي عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت، قال تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} ، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، {واسمعوا} ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، فاحذروا الفسق واجتنبوه.
واحد الأوليان: الأولى بمعنى الأجدر والأحق، وعرفا باللاّم العهدية لأنه معهود للمخاطب ذهنا، والأوليان: الأحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت، قال أهل العلم إن هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظما وحكما.
من هداية الأية يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم.
الأية 108  هذه الآية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين: في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما: فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً (إناء) من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ما كتمتما ولا أطلعتما" ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية.
الحواريون: جمع حواري: وهو صادق الحب في السر والعلن.
(109 - 110) يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع1 الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم: {فيقول: ماذا أجبتم؟} أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: {لا علم لنا: انك أنت علام الغيوب} ، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: {يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: {إذ أيدتك بروح القدس} ، جبريل عليه السلام {تكلم الناس في المهد} وأنت طفل.
{وإذ علمتك الكتاب والحكمة} ، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني} فيكون طيراً بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً {إذ تبرىء الأكمة} وهو الأعمى الذي لا عينين له
الأكمه والأبرص: الأكمه: من ولد أعمى، والأبرص: من به مرض البرص.
كففت: أي منعت.
 {وإذ تخرج الموتى} من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر {إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، {فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} . واذكر {إذ أوحيت إلى الحواريين} على لسانك {أن آمنوا بي وبرسولي} أي بك يا عيسى {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.
(112-115)هل يستطيع: هل يطيع ويرضى.
وتطمئن قلوبنا: أي تسكن بزيادة اليقين فيها.
ونكون عليها من الشاهدين: أي نشهد أنها نزلت من السماء.
عيداً: أي يوماً يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.
اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة: {هل يستطيع ربك..} كيف يقول هذا أنصار الله الحواريون وهو دالّ دلالة واضحة على جهل بالله تعالى وعدم معرفة الأدب مع نبيّه عيسى عليه السلام، فمن قائل: أنّ يستطيع بمعنى: يطيع أي: هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل: إن قراءة (هل يستطيع) بالتاء، وربك معمول أي: هل تقدر على سؤال ربّك أن ينزل الخ ومن قائل إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا، ومن قائل: أن هذا صدر ممن كان مع الحواريين ولم يكن من الحواريين، وما ذكرته في التفسير أولى لانسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم: اتقوا الله، وقولهم: ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بالله ومقام عيسى عليه السلام، وقد يكون أصحاب هذا القول ليسوا من فضلاء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والله أعلم.
ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل {قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين} أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه {اللهم} أي يا الله {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا} ) أي للموجودين الآن منا {وآخرنا} أي ولمن يأتون بعدنا، {وآية منك} ، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل، {وارزقنا} وأدم علينا رزقك وفضلك {وأنت خير الرازقين} ، فأجابه تعالى قائلا: {إني منزلها عليكم} ، وحقاً قد أنزلها1، {فمن يكفر بعد منكم} يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي، أو عظيم قدرتي {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.
4- من أشد الناس عذاباً يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.
(116-120)العزيز الحكيم: العزيز: الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده، الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار، والموحد الجنة.
من هداية الأيات : - توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
- براءة عيسى عليه السلام مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب.
- سؤال غير الله شيئاً ضرب من الباطل والشرك، لأن غير الله لا يملك شيئاً، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟
يخبر تعالى أن له {ملك السموات والأرض وما فيهن} من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب {وهو على كل شيء قدير} لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
في هذه الآية (120) البرهنة الصحيحة على ألوهية الله تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما السلام.

مختصر تفسير سورة المائدة للشيخ أبى بكر الجزائرى من أيسر التفاسير

(1){أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : العقود: هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها: عدم نكثها والإخلال بمقتضاها.
{بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} : هي الإبل والبقر والغنم.
سميت البهيمة: بهيمة؛ لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي: مغلق، وليل بهيم: لا يميز ما فيه من الظلام. وقولهم في الشجاع من الرجال: بهمة؛ لأنه لا يدري من أين يؤتى.
(2) {شَعَائِرَ اللهِ} : جمع شعيرة، وهي هنا مناسك الحج والعمرة وسائر أعلام دين الله تعالى.
{الشَّهْرَ الْحَرَامَ} : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
{الْهَدْيَ} : ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
{الْقَلائِدَ} : جمع قلادة ما يقلد الهدي، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.
{آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} : أي: من إحرامكم.
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة وليس للوجوب، وهذه قاعدة أصولية كل أمر بعد حظر، فهو للإباحة.
هذه الأية تضمنت أحكاماً بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين، فمن المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله، وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة. ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرماً في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، ومن المنسوخ أيضاً: هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدي، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ لْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} . والمراد بالفضل: الرزق بالتجارة في الحج، والمراد بالرضوان: ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ينهي عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدورهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه، وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا.
والهدي: ما يهدى إلى الحرم، ومن خصائصه: أنه يشعر وذلك يجرح سنامه من الجهة اليمنى حتى يسيل الدم، وبذلك يعلم أنه هدي، وقال: بالإشعار كافة الفقهاء إلا أبا حنيفة، ولاموه وعنفوا عليه لتركه السنة الصحيحة في الإشعار.
ويحرم بيع الهدي إذا أشعر وقلت لأنه أصبح كالوقف لله تعالى، ومعنى التقليد: أن يوضع في عنقه قلادة يعلم بها أنه هدي، وهذا يكون في الغنم لأنها لا تشعر.
(3){الْمَيْتَةُ} : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه، أي: بدون تذكية1.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} : أي: ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى، مثل المسيح، أو الولي، أو صنم.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} : أي: بحبل ونحوه فماتت.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} : أي: المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.
يقال: وقذة، يقذة، وقذًا؛ إذا ضربه بحجر ونحوها، والوكذ: شدة الضرب.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : الساقطة من عال إلى أسفل، مثل: السطح والجدار والجبل فماتت.
{وَالنَّطِيحَةُ} : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.
فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، فالنطيحة: هي المنطوحة.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : أي: ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.
{إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ4} : أي: أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه5 بذبحه أو نحره.
ما ذبح من قفاه لا يؤكل إجماعًا، واختلف فيما إذا رفع المذكي يده قبل إنهاء الذكاة ثم ردها فورًا، الصحيح أنها تؤكل ولا خلاف في جواز أكل البعير إذا ند أو وقع في بئر فإنه كيفما ذُكي جاز أكله للحديث الصحيح.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : أي: ما ذبح على الأصنام المنصوبة التي تمثل إلهاً أو زعيماً أو عظيماً، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا} : أي: وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنبياء، والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت.
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} : أي: ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالإزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} : أي: من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر.
{فِي مَخْمَصَةٍ} : المخمصة: شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} : غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة، وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.
هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة، وهو قوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي:
الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب.
ما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله به: هما كشيء واحد إلى أن ما أهل لغير الله به غالبًا يكون مذبوحًا لغير الأصنام؛ كالأنبياء والأولياء.
وقوله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حياً وأنه مات بالذبح.
الذكاة في لغة العرب: الذبح كقوله تعالى: {إلا ما ذَكيتم} ، أي: ذبحتم ما ذكر اسم الله عليها، وفي الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، والذكاة: سرعة الفطنة، والتذكية: مأخوذة من التطيب، فذكاها بمعنى: طيبها بالذبح، ومنه رائحة ذكية: أي: طيبة.
والذكاة تقع بكل حاد ينهر الدم، ويفري الأوداج ما عدا العظم والسن، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس السن والظفر"، لأن السن عظم، والظفر مدى الحبشة.
وقوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ}  هي ثلاثة أزلام كتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: مهمل لم يكتب عليه شيء ويجعلها في خريطته، فإذا خرج أمرني مضى في عمله، وإذا خرج نهاني ترك ما أراد فعله، وإذا خرج المهمل أعاد الضرب في الخريطة، وهناك نوعان من الاستقسام غير ما ذكرنا.
يريد ولا يحل لكم الاستقسام بالأزلام، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمح صغير لا زج له ولا ريش فيه، يضعونها في خريطة كالكيس، وقد كتب على واحد أمرني ربي، وآخر: نهاني ثم يحيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلماً منها فإن وجده مكتوباً عليه: أمرني ربي، مضى في عمله سفراً أو زواجاً، أو بيعاً أو شراء، وإن وجده مكتوباً عليه: نهاني ربي، ترك ما عزم على فعله1 فجاء الإسلام فحرم الاستقسام بالأزلام، وسن الاستخارة وهي: أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمي حاجته. ويفعل أو يترك ما عزم عليه، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} يخبر تعالى عباده المؤمنين: أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإسلام، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذاً فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم، وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتي.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}
هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } نزلت بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع بعد العصر، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقته: العضباء، كما هو واضح في رواية مسلم في صحيحه.
ووجه إكمال الدين أنه كان قبل الهجرة مقصورًا على الشهادتين، والصلاة ولما هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يومًا بعد يوم حتى كمل وأعلن عنه الرب تعالى في حجة الوداع بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ... } إلخ.
فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا: إكمال الدين3 بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام حجة الوداع، ولم يعش بعدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أحدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى. وثانياً: إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم، وأبعد الكفر والكفار عنهم، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتمها عليهم. وثالثاً: رضاه بالإسلام ديناً لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهراً وباطناً، وذلك سلم العروج إلى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات، فلله الحمد وله المنة.
من هداية الآية:
1- حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.
2- حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.
3- حرمة الذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.
4- جواز أكل ما أدركه المسلم حياً من الحيوان المأكول فذكاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت.
(4) {مُكَلِّبِينَ} : أي: مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارحة كلباً أو طيراً.
{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} : غير مجاهرين بالزنى.
{أَخْدَانٍ} : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السري.
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور؛ كالصور ونحوها. مكبلين، أي: مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم، {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} . أي: تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت، أي: أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زُجرت انزجرت، وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم 2 وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما: أولاً: أن يذكر اسم الله عند إرسال الجارحة بأن يقول: بسم الله هاته مثلاً، والثاني: أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالاصطياد
والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب: ذبائحهم خاصة. وهذا مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب، وبعد أن صارت لهم.
فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله- كعزير وعيسى- فقال ابن عمر: لا تحل. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل. وهو قول الشعبي وعطاء قالا: فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون»  . قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه- تعالى وتقدس-
وإنما قال: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أى يحل لكم ان تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة. فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله- تعالى- لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظورا.
(6) أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ: ملامسة النساء كناية عن الجماع، كما أن من لامس امرأة ليلتذذ بها
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً: الجنب: من قامت به جنابة، وهي شيئان: غياب رأس الذكر في الفرج، وخروج المني بلذة في نوم أو يقظة.
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} : اقصدوا تراباً أو حجراً أو رملاً أو سبخة مما صعد على وجه الأرض.
الحرج: المشقة والعسر والضيق.
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما العظمان النائتان عند بداية الساق، وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، وكيفية المسح على الخفين هي: أن يبل يده بالماء ثم يمسح ظاهر رجله اليمنى، ثم يمسح ظاهر اليسرى دون باطنها. حديث علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه". ويشترط في المسح أن يلبس خفيه على طهارة.
كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، وقول بسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء. كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء.
وضلت الرافضة فأخذوا بقراءة: {وأرجلكم} بالكسر ومسحوا أرجلهم في كل وضوء وتركوا غسل الرجلين أبدًا، والحامل لهم على ذلك أن رؤسائهم زينوا لهم ذلك وأوجبوه عليهم لعلة أن يبقوا بعيدين عن الإسلام والمسلمين ليستغلوهم ماديًا، وليعدوهم لقتال المسلمين لإعادة دولة المجوس التي يحلمون بها، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم عملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم فغسلوا أرجلهم؛ لأن نبيهم لم يمسح رجليه بدون خف قط، ومسحوا على الخفين كما مسح نبيهم فأخذوا بالقراءتين معًا.
(8) {قَوَّامِينَ لِلَّهِ} : جمع قوام، وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضاً لا يفرط في شيء من ذلك.
{شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} : جمع شهيد بمعنى: شاهد، والقسط: العدل.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} : أي: لا يحملنكم.
{شَنَآنُ} : بغض وعداوة.
(11) ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه، هي نجاة نبيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته:
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما، جاءوا يطالبون بدية قتيلهم، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى بني النضير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة، إذ من جملة موادها: تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية، فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود، وقد خلوا ببعضهم وتأمروا على قتله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلائهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر
كف اليد: كناية عن عدم القتل والقتال. وبسطها: كناية عن السوء والأذى الحاصل بها.
(12) الميثاق: العهد المؤكد بالإيمان.
{نَقِيباً} : نقيب القوم: من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.
{وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} : أي: نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.
التعزير: التعظيم. والتوقير والنصرة والدفاع عن المعزر. والتعزير في الشرع: الضرب دون الحد لرد المخالف إلى الحق وسبيل الرشاد.
{وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ} : أي: أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله.
{وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} أي: من كل قبيلة من قبائلهم الاثنى عشرة قبيلة نقيباً يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم، وهم الذين بعثهم موسى عليه
من بين النقباء الاثنى عشر: يوشع، وكالب، وهما رجلان صالحان، والباقون هلكوا فلا خير فيهم.
السلام إلى فلسطين لتعرفوا على أحوال الكنعانيين1 قبل قتالهم.
(13) نقض الميثاق: حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة، والكلم من الكلام.
وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا} : تركوا قسطاً كبيراً مما ذكرهم الله تعالى به، أي: أمرهم به في كتابهم.
{إِنَّا نَصَارَى} : أي: ابتدعوها بدعة النصرانية، فقالوا: إنا نصارى.
توضح الأية أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثنى عشر نقيباً قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} شديدة غليظة لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة، ولا تزال يا رسولنا {تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} أي: على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير {إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} فإنهم لا يخونون؛ كعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا {فَاعْفُ عَنْهُمْ} فلا تؤاخذهم بالقتل، {وَاصْفَحْ} عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
لفط: خائنة، صالح لأن يكون صفة لطائفة محذوفة كما في التفسير، وجائز أن تكون خائنة بمعنى خيانة؛ كقولهم في القيلولة: قائلة، والخيانة: هي المعصية، يحدثونها؛ كالكذب والفجور، وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد.
(14) {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ} : الإغراء: التحريش، والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبداً.
أخبر تعالى فى هذه الأية عن النصارى وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيراً عنهم، فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.
التعبير بلفظ: النصارى، فيه إشارتات مهمتان: الأولى: أن النصرانية بدعة ابتدعوها وليست مما شرع الله تعالى، فهو ينفي عنهم ذلك. والثانية: بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين والحق وأهله أخذًا من قول عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} ، فقَالَ الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ} إذا لم تنصرون الحق وهو الإسلام وأهله، وهم المسلمون؟.
(15) {أَهْلَ الْكِتَابِ} : هنا هم اليهود والنصارى معاً.
الكتاب: اسم جنس، يصدق على الواحد والاثنين والأكثر، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، ونداءه لهم بعنوان الكتاب فيه معنى العيب عليهم سلوكهم الشائن وإنحرافهم الخطير حيث بعدوا عن كل خير.
{تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} : الكتاب: التوراة والإنجيل، وما يخفونه صفات النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض الأحكام، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة؛ كالرجم مثلاً.
{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.
{يَعفو} معناه: يعرض ولا يظهر، يقال: عفا الرسم، إذا لم يظهر، فعفا عن كذا، أعرض عنه ولم يظهره
(18) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معاً، وهو دعواهم أنهم {أَبْنَاءُ الله2وَأَحِبَّاؤُهُ} ، إذ قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ3 أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وهو تبجح وسفه وضلال، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لهم يا رسولنا: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فهل الأب يعذب أبناءه، والحبيب يعذب محبيه، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوماً بسب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوماً، كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} ، والحقيقة أن هذا القول منكم من جملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها
(19) {عَلَى فَتْرَةٍ} : الفترة: زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال الله تعالى رسولاً.
{بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} : البشير: المبشر بالخير، والنذير: المنذر من الشر، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
الفترة: مشتقة من فتر عن عمله، يفتر فتورًا، إذا سكن. والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد عليه. والمراد بها في الشرع: هي انقطاع ما بين الرسولين.
قد جاءهم رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من الرسل، إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}
(20) النعمة: اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} فهو دال على العدد الذي لا يحصى.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} كموسى وهارون عليهما السلام {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل (21 - 23){يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} للسكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي: ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين، لا أمر الله بالجهاد أطعتم، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير لهم، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} !! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول، اللهم إلا اثنين منهم، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا، وهما اللذان قال تعالى عنهما: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: أمر الله تعالى {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا} فعصمهما من إفشاء سر ما رأوا من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي: باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ، وذلك لعنصر المباغتة، وهو عنصر مهم في الحروب، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا} وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها، لأنها أرض القدس والطهر.
{جَبّارِين} أي: عظام الأجسام طوالها، والجبار من الناس: المتعظم الممتنع من الذل والفقر، أو هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم، وذكر القرطبي هنا حديثًا مسهبًا، عن عوج بن عناق، وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة.
الأرض المقدسة هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت، فتنتهي إلى حماة شمالاً وغزة وحرون جنوبًا "نقلاً عن التنوير".
(24 – 26){فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} أي: الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلاً ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة "أربعين سنة" وكيف كانوا فيها؟ يتيهون في أرض سيناء متحيرين لا يدرون أين يذهبون ولا من أين يأتون،
التيه في اللغة: الحيرة. يقال: تاه يتيه تيهًا، إذا تحير، والأرض التيهاء التي لا يهتدي فيها، وتاه المرء في الأرض ذهب فيها متحيرًا لا يدري، أين يذهب أو يجيء.
(27 – 30) {يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} : يستر بالتراب جسد أخيه، وقيل: فيه سوءة، لأن النظر إلي الميت تكرهه النفوس، والسوءة: ما يكره النظر إليها.
ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالله تعالى يقول لرسوله: واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به، توبيخاً لهم، وإظهاراً لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم، فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم، وكنت معهم كخير ابني آدم، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} ، أي: قرب كل منهما قرباناً لله تعالى فتقبل الله قربان أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} وهو قابيل؛ لأنه كان من أردأ ماله، ونفسه به متعلقة، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسداً له -كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك- فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عائد إلى نفسك لا إلى غيرك {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} للشرك، فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصاً له، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك، فلم يتقبل منك. ووالله قسماً به. {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} ، وعلل ذلك بقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، أي: أن ألقاه بدم أرقته ظلماً. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، أي: ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي فارقته في حياتك كلها، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها الذين لا يفارقونها أبداً قال تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} ، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} أي شجعته عليه وزينته له فقتله {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ4} النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به
فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن، وعندئذ بعث الله غراباً يبحث في الأرض، أي: ينبش الأرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه: أي بعث الله الغراب ليريه كيف يواري، أي: يستر سوءة أخيه، أي جيفته، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه الغراب الميت قال متندما ًمتحسراً يا ويلنا، أي: يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك، ثم وبخ نفسه قائلاً: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} ، كما وارى الغراب سوءة أخيه، وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه وبمجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمداً لا تنجيه من النار.
لما كان أول من سن القتل فإنه لا تقتل نفسًا ظلمًا إلا وعليه كفل منها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل". وفي الحديث الآخر: "من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
بيان أول من سن جريمة القتل، وهو قابيل، ولذا ورد: ما من نفس تقتل نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل "نصيب" ذلك بأنه أول من سن القتل.
يستحب توسعة القبر لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احفروا وأوسعوا وأحسنوا اللحد". واللحد أفضل من الشق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللحد لنا والشق لغيرنا". ويستحب لمن يضع الميت في قبره أن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ولمن حضر الدفن أن يحثو على القبر من قبل رأسه ثلاثًا.
من هداية الأية : خير ابنى آدم المقتول ظلماً، وشرهما القاتل ظلماً.
وإن قيل ما تصنع بحديث الصحيح: "إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قلت هذا الحديث فيمن يقاتل في غير حق استوجب القتل والقتال. أما من ظلم فدافع عن نفسه فقتل فهو شهيد بنص الحديث الصحيح. وكذا من بغى على المسلمين فقتاله واجب، ومن قاتله فهو مجاهد ومن قتل فهو شهيد.
(32) {ومن أحياها} : قدرعلى قتلها وهي مستوجبه له فتركها.
يقول تعالى: إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها، أوحينا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء، فقد قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل، فقد قتلوا رسولين: زكريا ويحي، وهموا بقتل المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أجل ذلك1 شددنا2 عليهم في العقوبة، إذ من قتل منهم نفساً بغير نفس أي ظلماً وعدواناً، أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض، وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعاً يوم القيامة، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} بأن استوجب القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} يعني يُعطى أجر من أحيا الناس4 جمعياً، كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيراً لهم من القتل الذي أصروا عليه، وترغيباً لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه
من أحياها: معناه: من استنقذها من الموت، بأن عفى عنها بعد تعين القصاص عليها، أو دافع عنها حتى أنقذها ممن أراد قتلها لأن الإحياء بعد الموت ليس في مقدور الإنسان وإنما قد يهم المرء بالقتل ويعفو فيكون كمن أحياها.
(33){يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} : بالخروج عن طاعتهما وحمل السلاح على المؤمنين وقتلهم وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} : بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على أعراضهم.
{أَوْ يُصَلَّبُوا} : يشدون على أعواد الخشب ويقتلون، أو بعد أن يقتلوا.
{مِنْ خِلافٍ} : بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس.
{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} : أي من أرض الإسلام.
لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسراً لحدة جرءتهم على القتل والفساد، ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في ديارهم فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ1 يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} بالكفر بعد الإيمان
والقتل والسلب بعد الأمان، {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} بتخويف المسملين، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم، والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} ، ومعنى: يقتلوا: واحداً بعد واحد نكاية لهم وإرهاباً وتعزيراً لغيرهم، ومعنى: يصلبوا: بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة أيام، ومعنى: ينفوا من الأرض: يخرجوا من دار الإسلام، أو إلى مكان ناءٍ كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وآذاهم، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزياً وذلاً لهم1 في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
الجمهور على أن سبب نزول هذه الآية: {إنْمَا جَزاء ... } إلخ. هو العرنيون الذين نزلوا المدينة وادعوا أنهم اجتووها، أي: أمرضهم مناخها فأمر لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا خارج المدينة، ولما شفوا وصحوا قتلوا الراعي ومثلوا به، وذهبوا بالإبل فلحقتهم خيل المسلمين فردتهم ونزلت هذه الآية ببيان حكم الله فيهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فبقى هذا تشريعًا يطبق على مثلهم إلى يوم القيامة.
والعرنيين وكانوا سبعة ثلاثة من عُكل، وأربعة من عرينة كفروا بعد إيمانهم الذي أظهروا بالمدينة، ثم ادعوا أنهم استوخموا المدينة فساعدهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة منه بما يشفيهم، فلما شفوا وصحوا كفروا وقلتوا الراعي وساقوا الإبل، والأية عامة في المرتد وغيره، والحكم ما بين الله تعالى في هذه الآية لا غيره، وصيغة الحصر فيها إنما ظاهرة.
الجمهور على أن اللص كالمحارب يناشد بالله تعالى أن يكف وينصرف وإن أبى يُقاتل ويقتل، ومن قتله اللص فهو في الجنة، وإن قتل اللص فهو النار، لحديث الصحيح، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أرأيت يا رسول الله إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطيه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: فإن قتلته؟ قال: "فهو في النار".
(35){الْوَسِيلَة} : تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب2 منه.
الوسيلة: لغة: القربة، والجمع: قرب، وهي فيعلة، بمعنى: مفعولة، أي: متقرب بها. من توسل إلى فلان تقرب إليه بكذا.
(36) لو ثبت لهم ما في الأرض ومثله معه أيضًا لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه في وجوه الإنفاق المحبوبة لهم لافتدوا به ولكن أنى يكون لهم ذلك.
(38){وَالسَّارِقُ} : الذي أخذ مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} : أي: اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع.
{نَكَالاً} : عقوبة من الله تجعل غيره ينكل أن يسرق.
أول سارق قطعت يده في الإسلام، هو: الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وأول سارقة في الإسلام هي: مرة بنت سفيان المخزومية.
السارق عن العرب: هو من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب، فإن تمنع بما أخذ فهو غاصب.
إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع، فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
(41){لا يَحْزُنْكَ} : الحزن: ألم نفسي يسببه خوف فوات محبوب.
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : كثيروا الأكل للحرام؛ كالرشوة والربا.
{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي: لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك، {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} سماعون ليهود آخرين لم يأتوك؛ كيهود خيبر وفدك، أي: كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهمل قوم آخرين ينقلون إليهم أخبارك كوسائط، وهم لم يأتوك، وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد الزنى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، أي: يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم، فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك.
يا أيها الرسول : هو النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاطبه ربه بعنوان الرسالة تشريفًا له وتعطيمًا وإشعارًا له بعدم داعي الحزن، إذ من كان في مقامه لا يحزن مهما كانت المصائب، والآية نزلت في حادثة زنا اليهوديين، إذ روى في الصحيحين، أن جابرًا قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه. فسألوه. فدعا ابن صوريا، وكان عالمهم، وكان أعور. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنشدك الله كيف تجدون حد الزنا في كتابكم"؟ فقال ابن صوريا: فأما إذ نشادتني الله فإنا نجد في التوراة: النظر: زنية، والاعتناق: زنية، والقبلة: زنية. فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها. مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو ذاك".
من هداية الأية :  استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
(44) {وَالرَّبَّانِيُّونَ} : جمع رباني: العالم المربي الحكيم.
{قِصَاصٌ} : مساواة.
{وَقَفَّيْنَا} : أتبعناهم بعيسى بن مريم.
الذي عليه أكثر الفقهاء: أن المسلم لا يقتل بالذمي. لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المؤمنون تتكافأ دمائهم وهم يدُ على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" رواه أبو داود والترمذي.
لا خلاف أن في العينين دية، وفي العين الواحدة نصف دية، وفي عين الأعور دية كاملة، وفي الأنف إذا جدع الدية كاملة.
الدية في ذهاب السمع، إما مع بقاء السمع ففيه حكومة.
في السن خمس من الإبل لحديث الصحيح في ذلك.
وفي الشفتين الدية، وفي الواحدة نصف الدية، وفي اللسان إذا قطع الدية.
(48) {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} : حاكماً عليه، أي: محققاً للحق الذي فيه، مبطلاً للباطل الذي التصق به.
{شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} : شريعة تعملون بها وسبيلاً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى.
{حكم الجاهلية} : هو ما عليه أهل الجاهلية من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.
أصل الشريعة في اللغة: الطريقة التي يتوصل بها إلى الماء، وهي هنا: ما شرع الله لعباده من الدين الشامل من العقائد والعبادات والأحكام القضائية يتوصل بها إلى سعادة الدارين.
{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن قومًا من الأحبار اجتمعوا، منهم: ابن صوريا، وكعب، وشاس، وقالوا: إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه وقالوا: قد عرفت يا محمد إنا أحبار اليهود وإن اتبعناك لم يحالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك. فأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت هذه الآية.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} . وقد أصابهم فأجلوا من الحجاز وقتل بنو قريظة وضربت عليهم الجزية في ديار الإسلام.
(51)ورد في سبب نزول هذه الآية عن عبادة بن الصامت الأنصاري، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة، ولما انتصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبي بن أبي، ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} أي: لكم من دون المؤمنين، وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} تعليل لتحريم موالاتهم، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي: أيها المؤمنون {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين، وبذلك يصبح منهم قطعاً
الموالاة حقيقتها: المودة والنصرة، فمن والى اليهود والنصارى فأحبهم ونصرهم على المسلمين لازمه أن أبغض المؤمنين وخذلهم، وبهذا يصبح كافرًا.
من هداية الأية : لا يعد موالاة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني، إذا دعت الحاجة إليه، ولا يصح اسبتطانهم ولا الاستعانة بهم في الجهاد.
(52){مَرَضٌ} : نفاق وشك وشرك.
{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} : أي: في البقاء على موالاتهم، أي: موالاة اليهود والنصارى.
{دَائِرَةٌ} : تدور علينا من جدب، أو انتهاء أمر الإسلام.
الدائرة: اسم فاعل من دار يدو فهو دائر، إذا عكس سيره فالدائرة تغير الحال، وغلبت في الخير والشر، أي: من خير إلى شر. ودوائر الدهر: نوبه ودوله.
{بِالْفَتْحِ} : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك؛ كفتح مكة.
تضمنت الأية بعض ما قال ابن أبي مبرراً موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود، إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كابن أبي، والمرض مرض النفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون، يقولون كالمعتذرين {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم.
(53){جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أقصاها وأبلغها.
حقيقة الجهد: التعب والمشقة، ومنتهى الطاقة، والمراد به في الآية: آكد الإيمان وأغلظها، وفعل الجهد: جهد؛ كمنع يجهد كيمنع جهداً كمنع.
(54){يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} تضمنت خبراً من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقاً وأن المنزل على رسوله صدقاً، فقد أخبر تعالى أنه من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ارتد فئات من أجلاف العراف ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، وقد روي بل وصح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية وتلاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا، وفعلاً بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم.
(59){هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} : أي: ما تنقمون منا، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.
(58){وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} . حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: {لا يَعْقِلُونَ} شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم.
لم يكن بمكة الآذان وإنما كان ينادي للصلاة باللفظ: "الصلاة جامعة" ولما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالآذان، وبقيت: "الصلاة جامعة" والأمر بعرض، ولما همهم أمر الآذان رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الآذان في المنام، وكذا رآه عمر.
(63) من هداية الأية:  قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية. {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، والآية وإن نزلت في يهود المدينة، فقد ذكرت النصارى لأن حالهم سواء. والآية تنطبق اليوم على علماء المسلمين حيث تركوا الأمر والنهي، والعياذ بالله تعالى من عاقبة ذلك. فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". الترمذي وصححه. ولولا هنا: أداة تحظيظ، والمراد: توبيخ علماؤهم وعابديهم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(64){يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.
القائل: فنحاص اليهودي عليه لعائن الله وهو يعنى: بمغلولة: بخيلة لا تنفق، وهو كاذب، بل يمين الله ملأى لا يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" حديث الشيخين.
من هداية الأية :
ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله.
تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء3 وهو من تدبير الله تعالى.
وإن قيل: إن التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الآية، قلنا: إن اليهود احتالوا على النصارى فضربوهم بالإلحاد، فلما قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم يتحكمون فيهم، وبذلك فرضوا عليهم حبهم وعدم عداوتهم.
(67) روى مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئًا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... } الآية.
ولما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تحرسوني فإن الله قد عصمني"
(69) {وَالصَّابِئُونَ} : جمع صابئ، وهم فرقة من أهل الكتاب.
اختلف في إعراب {والصابئون} على أقوال نكتفي بقول منها: وهو أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف تقديره: والصابئون كذلك
(70) {بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.
(71) {أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : أي: أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.
{فَعَمُوا وَصَمُّوا} : عموا عن العبر، وصموا عن سماع المواعظ.
(72) هذا قول اليعقوبية، وهم: فرقة من النصارى، لأنهم قالوا: باتحاد الابن والأب؛ فكأن المسيح هو الله في اعتقادهم الباطل الفاسد.
(73) {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} : الثلاثة: هي الأب والابن وروح القدس: وكلها إله واحد.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} يعنون الأب والابن وروح القدس، وبعضهم يقول الأب والابن والأم، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا، فقال رداً باطلهم، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: وليس الأمر كما يكذبون، وإنما الله إله واحد، وأما جبريل فأحد ملائكته، وعيسى عبده ورسوله، ومريم أمته، فالكل عبد الله وحده الذي لا إله غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعداً هؤلاء الكفرة الكذبة: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع.
(75) {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} : أي: مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي: كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحاً.
يقال: أفكه يأفكه أفكًا، إذا صرفه صرفًا، وهو من باب ضرب.
أخبر تعالى معلماً رسوله الاحتجاج على باطل النصارى، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ} فلم يكن رباً ولا إلهاً وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضاً إلهاً كما يزعمون، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام احتياجاً إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل أكل الطعام افتقاراً إليه، ثم يفرز فضلاته، يصلح أن يكون إلهاً. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم، ثم انظر كيف يؤفكون عن الحق، أي: كيف يصرفون عنه وهو واضح بين.
من هداية الأية : إن من يأكل الطعام وولدته امرأة كيف لا يكون مخلوقًا مربوبًا محدثًا كسائر المخلوقين لم يستطع دفع هذا نصراني مهما أوتى من العلم إلى أنهم يهربون من مواجهة الحق فيقولون تضليلاً لعقولهم وخداعًا لنفوسهم إنه يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، ومعناه: أن الإنسان اختلط بالإله، وهذه هي الحلولية الباطلة الفاسدة عقلاً وشرعاً وواقعا.
تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام بنيتهما، ومن كان مفتقراً لا تصح ألوهيته عقلاً وشرعاً.
(77) {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} : الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه، فمثلاً أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو، أمرنا بتعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاؤه غلو في الدين.
{أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} : جمع هوى، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
(79) {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} . أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده". فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعن الذين كفروا -إلى قوله- فاسقون". ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على ليد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرأ ولتقسرنه على الحق قسراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم3"
(80) {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} ، أي: اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم، ثم قبح تعالى عملهم فقال: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له
(82) أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فأنزل الله فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه فأسلم النجاشيّ فلم يزل مسلما حتى مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاكم النجاشيّ قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة.
ولكن لما عمت المادية المجتمعات النصرانّية، وانتشر فيها الإلحاد والإباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت.
والمعنى بالأية على أية حال من أسلم من النصارى بمجرد أن تُلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين} أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة
(87 ، 88) هاتان الأيتان  نزلتا في بعض الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيامه فكأنهم تقالّوا ذلك فقال أحدهم: أنا لا آتي النساء، وقال آخر: أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر: أنا أقوم فلا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب الناس، وقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} من طعام وشراب ونساء، {ولا تعتدوا} بمجاوزة ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم {لا يحب المعتدين}
(89) {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} فقد نزلت لما قال أولئك الرهط من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا" فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو: لا والله أو بلى والله
قال العلماء: الأيمان أربعة: يمينان يكفر فيهما إذا حنث ويمينان لا كفارة فيهما فالأوّلان أن يقول: والله لأفعلن كذا ثم يحنث والثاني أن يقول: والله لا أفعل كذا ويحنث، واللّذان لا كفارة فيهما: الأولى: لغو اليمين وهو أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر خلافه، والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو غير قاصد نحو: لا والله، بلى والله، والخامسة: اليمين الغموس، وهو أن يحلف متعمّداً الكذب وكفّارتها التوبة لا غير وان كفّر مع التوبة فحسن.
وقول أخر أن الأيمان ثلاثة: لغو: يمين لا كفارة لها إذ لا إثم فيها، الغموس: وهي أن يحلف متعمداً الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المكفَّرة: وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.
(90) الخمر والميسر: الخمر: كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت، والميسر: القمار.
والأنصاب: الأنصاب: جمع نصب. ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به، أو لتعظيمه كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث.
الأزلام: جمع زلم: وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة، ومثلها قرعة الأنبياء، وخط الرمل، والحساب بالمسبحة.
رجس: الرجس: المستقذر حساً كان أو معنى، إذ المحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة.
صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه خطب يوماً فقال: "أيّها الناس ألا إنّه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر، والعسل والحنطة والشعير" والخمر ما خامر العقل أي: ستره وغطّاه فأصبح المرء يهذي ويقول الخطأ والصواب.
ما دامت علّة التحريم في الخمر والميسر هي إثارة العداوة بين إخوة الإيمان، والصدّ وهو الإلهاء عن ذكر الله وعن الصلاة فإن كل ما ينشأ عنه إثارة العداوة والصدّ عن الذكر والصلاة فهو حرام.
وهذه الآية نزلت بعد وقعة أحد وكانت في السنة الثالثة من الهجرة أي في آخرها ولكنها وقعت هنا في سورة المائدة بعد نزولها وهذه الآية هي الناسخة لإباحة الخمر ويروى في سبب نزولها أن ملاحاة كانت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار سببها شرب خمر في ضيافة لهم.
(93) {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا4 وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} فقد نزلت لقول بعض الأصحاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟ " أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه. فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر.
(94) الصيد: ما يصاد.
تناله أيديكم: كبيض الطير وفراخه.
قوله: {تناله أيديكم} يريد صغار الصيد، وفراخه وبيضه. {ورماحكم} هو كبار الصيد الذي لا يؤخذ باليد ولكن بآلة الصيد.
فمن اعتدى (بعد التحريم) : بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.
وأنتم حرم: جمع حرام والحرام: المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.
{يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب} فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.
(95) من النعم: النعم: الإبل والبقر والغنم.
ذوا عدل منكم: أي صاحبا عدالة من أهل العلم.
وبال أمره: ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.
{ومن قتله منكم متعمداً} فالحكم الواجب على من قتله جزاءً {مثل ما قتل من النعم} وهى الإبل والبقر والغنم {يحكم به ذوا عدل منكم} فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} وقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى: {عفا الله عما سلف} أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى، وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: {ومن عاد فينتقم4 الله منه والله عزيز ذو انتقام} ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم.
(96) وللسيارة: المسافرين يتزوّدون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.
أُذن للمحرم ولمن في الحرم في قتل ما يؤذي كالحية والعقرب، والغراب والفأرة وكل ما يؤذي كالأسد والنمر والذئب والفهد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة".
 (96) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد. أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله {متاعا لكم وللسيارة} وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم
(97) الكعبة: الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.
قياماً للناس: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.
الشهر الحرام: أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.
الهدي: ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.
والقلائد: جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.
{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام ومعنى قياماً: أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لِحَاءَ شجر الحرم إعلاماً بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى: {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.
الشهر: اسم جنس ولذا أريد به هنا الأشهر الحرم الأربعة.
يقال له رجب الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ويقال: رجب مضر لأن مضر كانت تعظّمه أكثر من غيره، والأصب حيث يصب فيه الخير صبَّاً.
(100) من هداية الأية : تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل.
(101 – 102) لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تضايق منهم فقام خطيباً فيهم وقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم". . فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة، وقال أبو هريرة: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ولو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم" فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} أي تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي يبينها رسولنا لكم. أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مالا ينبغي لكم لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم: {عفا الله عنها} أي لم يؤاخذكم بما سألتم {والله غفور حليم} ، فتوبوا إليه يتب3 عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم. وقوله تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} أي قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه قوم من قبلكم {فأصبحوا بها كافرين} من أمثلة ذلك: سؤال قوم صالح الناقة، وقوم عيسى المائدة، وفي الآية تحذير للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا. وفي صحيح مسلم يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرْم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته".
ثم أصبحوا بها كافرين  لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا.
وإن قيل: ما وجه أنه تعالى نهاهم عن السؤال ثم أذن لهم بقوله: {وإن تسألوا عنها..} الخ؟ الجواب: إن تسألوا عن غيرها مما دعت الحاجة إليه، ففي الكلام حذف مضاف كما قدّمناه فتأمله.
بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يسوء ومع هذا فإن سؤال التنطع والتعنت مكروه دائماً وفي الحديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
(103) ما جعل الله: أي ما شرع.
بحيرة ولا سائبة: البحيرة: الناقة تبحر أذنها أي تشق، والسائبة: الناقة تسيّب.
ولا وصيلة ولا حام: الوصيلة: الناقة يكون أول إنتاجها أنثى، والحام: الجمل يحمى ظهره للآلهة.
{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله: {ما جعل الله من بحيرة} أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حَمَى حَامِياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه {وأكثرهم لا يعقلون} ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجرُّ قصَبه في النار أي أمعاءه في جهنم.
(105) عليكم أنفسكم: ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.
{يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده {عليكم أنفسكم} ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي، {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} : أي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤذِّي حتماً إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً يوماً فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم.. الخ} وإنكم تضعونها5 على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب" وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون} فيه وعد ووعيد، وعد لمن أطاع الله ورسوله، ووعيد لمن عصاهما.
قيل هذه الآية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ، فالناسخ فيها قوله: {إذا اهتديتم} والمنسوخ هو {عليكم أنفسكم} إذ من اهتدى لا يضره من ضل ولا تتم الهداية إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من هداية الأية ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروفونهاهم عن المنكر.
1 قالت العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رُجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضرراً يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.
(106 - 108) إن أنتم ضربتم في الأرض: أي بأن كنتم مسافرين.
من بعد الصلاة: صلاة العصر.
إن ارتبتم: شككتم في سلامة قولهما وعدالته.
فإن عثر: أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.
أدنى: أقرب.
على وجهها: أي صحيحة كما هي لا نقص فيها ولا زيادة.
الفاسقين: الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذ حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} أي ليشهد اثنان {ذوا عدل منكم} أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين {إن أنتم ضربتم في الأرض} أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة، {ولا نكتم شهادة الله، إنا إذاً} أي إذا كتمنا شهادة الله {لمن الآثمين} {فإن عثر على أنهما استحقا إثماً} أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} 1 فيقسمان بالله قائلين والله: لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، {وما اعتدينا} أي عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت، قال تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} ، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، {واسمعوا} ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، فاحذروا الفسق واجتنبوه.
واحد الأوليان: الأولى بمعنى الأجدر والأحق، وعرفا باللاّم العهدية لأنه معهود للمخاطب ذهنا، والأوليان: الأحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت، قال أهل العلم إن هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظما وحكما.
من هداية الأية يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم.
الأية 108  هذه الآية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين: في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما: فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً (إناء) من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ما كتمتما ولا أطلعتما" ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية.
الحواريون: جمع حواري: وهو صادق الحب في السر والعلن.
(109 - 110) يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع1 الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم: {فيقول: ماذا أجبتم؟} أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: {لا علم لنا: انك أنت علام الغيوب} ، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: {يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: {إذ أيدتك بروح القدس} ، جبريل عليه السلام {تكلم الناس في المهد} وأنت طفل.
{وإذ علمتك الكتاب والحكمة} ، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني} فيكون طيراً بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً {إذ تبرىء الأكمة} وهو الأعمى الذي لا عينين له
الأكمه والأبرص: الأكمه: من ولد أعمى، والأبرص: من به مرض البرص.
كففت: أي منعت.
 {وإذ تخرج الموتى} من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر {إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، {فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} . واذكر {إذ أوحيت إلى الحواريين} على لسانك {أن آمنوا بي وبرسولي} أي بك يا عيسى {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.
(112-115)هل يستطيع: هل يطيع ويرضى.
وتطمئن قلوبنا: أي تسكن بزيادة اليقين فيها.
ونكون عليها من الشاهدين: أي نشهد أنها نزلت من السماء.
عيداً: أي يوماً يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.
اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة: {هل يستطيع ربك..} كيف يقول هذا أنصار الله الحواريون وهو دالّ دلالة واضحة على جهل بالله تعالى وعدم معرفة الأدب مع نبيّه عيسى عليه السلام، فمن قائل: أنّ يستطيع بمعنى: يطيع أي: هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل: إن قراءة (هل يستطيع) بالتاء، وربك معمول أي: هل تقدر على سؤال ربّك أن ينزل الخ ومن قائل إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا، ومن قائل: أن هذا صدر ممن كان مع الحواريين ولم يكن من الحواريين، وما ذكرته في التفسير أولى لانسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم: اتقوا الله، وقولهم: ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بالله ومقام عيسى عليه السلام، وقد يكون أصحاب هذا القول ليسوا من فضلاء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والله أعلم.
ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل {قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين} أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه {اللهم} أي يا الله {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا} ) أي للموجودين الآن منا {وآخرنا} أي ولمن يأتون بعدنا، {وآية منك} ، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل، {وارزقنا} وأدم علينا رزقك وفضلك {وأنت خير الرازقين} ، فأجابه تعالى قائلا: {إني منزلها عليكم} ، وحقاً قد أنزلها1، {فمن يكفر بعد منكم} يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي، أو عظيم قدرتي {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.
4- من أشد الناس عذاباً يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.
(116-120)العزيز الحكيم: العزيز: الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده، الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار، والموحد الجنة.
من هداية الأيات : - توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
- براءة عيسى عليه السلام مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب.
- سؤال غير الله شيئاً ضرب من الباطل والشرك، لأن غير الله لا يملك شيئاً، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟
يخبر تعالى أن له {ملك السموات والأرض وما فيهن} من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب {وهو على كل شيء قدير} لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
في هذه الآية (120) البرهنة الصحيحة على ألوهية الله تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما السلام.


Comments
NameEmailMessage