U3F1ZWV6ZTE3NDMwODE4MzA4MTc5X0ZyZWUxMDk5Njg2NzQ0NjUyNQ==
أبحث فى جوجل
أبحث فى جوجل
إعلان

التفسير الميسر لسورة البقرة (مختصر تفسير سورة البقرة) تفسير الشيخ أبى بكر الجزائرى من أيسر التفاسير



مختصر تفسير سورة البقرة
للشيخ أبى بكر الجزائرى من تفسيره أيسر التفاسير 



الربع الأول : من الأية 1 : الأية 25

من بداية السورة (1) إلى قوله تعالى : وبشر الذين أمنو وعملوا الصالحات (25)

 (1) { آلم } : هذه من الحروف المقطعة تكتب آلم . وتقرأ هكذا :
ألِفْ لام مِّيمْ . والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم « ن » ومنها الأحادية مثل ص . ق ، ن ، ومنها الثنائية مثل طه ، ويس ، وحم ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت فى تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وكونها من المتشابه الذى استأثر الله تعالى بعلمه إلى الصواب ولذا يقال فيها : آلم : الله أعلم بمراده بذلك .
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين : الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر فى نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حم . طس . ق . كهيعص وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة .
والثانية لما انكر المنكرون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدِّى لهم كأنها تقول لهم : ان هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا انتم مثله . ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو { الم ذلك الكتاب } . { الر تلك آيات الكتاب } { طس تلك آيات القرآن } كأنها تقول : إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا .
(2) { ذلِكَ الكِتبُ لاَ ريْبَ فيهِ هْدىً للمُتَّقِينَ }
{ ذلك } : هذا ، وانما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك . لما تفيده الإِشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن .
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحى الله وكتابه بحال ، وذلك لإعجازه ، وما يحمله من هدى ونور لأهل الايمان والتقوى يهتدون بهما الى سبيل السلام والسعادة والكمال .
(6){ كفروا } : الكفر : لُغة التغطية والجحود ، وشرعاً التكذيب بالله وبما جاءت به رسلُه عنه كلا أو بعضا .
(7){ ختم الله } : طبع إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى لا يعلم ما فيه ، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير .
{ الغشاوة } : الغطاء يغشَّى به ما يراد منع وصول الشىء إليه .
(10){ فى قلوبهم مرض } : فى قلوبهم شك ونفاق والم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على أيديهم .
{ فزادهم الله مرضا } : شكاً ونفاقاً والماً وخوفاً حسب سنة الله فى أن السيئة لا تعقب إلاّ سيئة .
(11){ الفساد فى الأرض } : الكفر وارتكاب المعاصى فيها .
{ الإِصلاح فى الأرض } : يكون بالإِيمان الصحيح والعمل الصالح ، وترك الشرك والمعاصى .
من هداية الأية : ذم الادعاء الكاذب وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين .
الإِصلاح فى الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله ، والافساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
العاملون بالفساد فى الأرض يبررون دائما إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد .
(13){ السفهاء } : جمع سفيه : خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير .
(14){ شياطينهم } : الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من انسان أو جان والمراد بهم هنا رؤساؤهم فى الشر والفساد .
{ مستهزئون } : الاستهزاء : الاستخفاف والاستسخار بالمرء .
(15){ الطغيان } : مجاوزة الحد فى الأمر والاسراف فيه .
{ الْعَمَه } : للقلب كالعمى للبصر : عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلال
(16){ اشتروا } : استبدلوا بالهدى الضلالة اى تركوا الإيمان وأخذوا الكفر .
{ تجارتهم } : التجارة : دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه ، والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإِيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنى فى الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذُلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم .
(17) مثل هؤلاء المنافقين فيما يظهرون من الايمان مع ما هم مبطنون من الكفر كمثل من أوقد ناراً للاستضاءة بها فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون . لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي وبما يضمرون من الكفر اذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شىء حتى أنفسهم .
(18){ صمٌ ، بكم عميٌ } : لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون .
الأية إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره وذلك لتوغلهم فى الفساد فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الايمان بحال من الأحوال .
(19){ الصيّب } : المطر .
{ الظلمات } : ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر .
{ الرعد } : الصوت القاصف يُسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر .
{ البرق } : ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر .
{ الصواعق } : جمع صاعقة : نار هائلة تنزل اثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء .
الأيتين ( 19 ) ( 20 ) تتضمنان مثلا آخر لهؤلاء المنافقين . وصورة المثل العجيبة والمنطقية على حالهم هى مَطر غزير فى ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف وهم فى وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعون صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا ، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون ، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا فى ضوئه واذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيراى خائفين ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم لأنه تعالى على كل شىء قدير هذه حال اولئك المنافقين والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد وبالحجج والبينات وهى كالبرق فى قوة الاضاءة ، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وازاحة الستار عنهم فيؤخذوا ، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا فى إيمانهم الظاهر . وإذا نزل بآيات فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل لأنهم لذلك أهل وهو على كل شىء قدير :
(21){ الناس } : لفظ جمع لا مفرد له من لفظه ، واحده إنسان .
{ خلقكم } : أوجدكم من العدم بتقدير عظيم .
(22){ فراشا } : وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها .
{ بناءً } : مَبْنيّة للجلوس عليها والنوم فوقها .
(23){ الريب } : الشك مع اضطراب النفس وقلقها .
{ عبدنا } : محمد صلى الله عليه وسلم .
{ من مثله } : مثل القرآن ومثل محمد فى أمّيته .
{ شهداءكم } : أنصاركم . وآلهتكم التى تدعون انها تشهد لكم عند الله وتشفع .
لما قرر تعالى فى الآية السابقة أصل الدين وهو التوحيد الذى هو عبادة الله تعالى وحده قرر في هذه الآية أصل الدين الثانى وهو نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من طريق برهانى وهو ان كنتم فى شك من القرآن الى أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فاتوا بسورة من مثل سوره أو من رجل أمى مثل عبدنا فى أميته فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار بالإيمان بالوحى الإِلهى وعبادة الله تعالى بما شرع فيه .
(25){ بشر } : التبشير : الإِخبار السَّار وذلك يكون بالمحبوب للنفس .
{ تجرى من تحتها } : تجرى الأنهار من خلال أشجارها وقصورها والأنهار هى أنهار الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل .
{ وأتوا به متشابهاً } : أعطوا الثمار وقدم لهم يشبه بعضه بعضاً فى اللون مختلف فى الطعم .
{ مطهّرة } : من دم الحيض والنفاس وسائر المعائب والنقائص .

الربع الثانى : من الأية26 : الأية 43 (واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأركعوا مع الراكعين)

(26){ أن يضرب مثلاً } : أن يجعل شيئاً مثلا لآخر يكشف عن صفته وحاله فى القبح أو الحسن
{ الفاسقون } : الفسق الخروج عن الطاعة ، والفاسقون : هم التاركون لأمر الله تعالى بالايمان والعمل الصالح ، وبترك الشرك والمعاصى .
لما ضرب الله تعالى المثلين السابقين النارى والمائى قال المنافقون : الله أعلى وأجل أن يضرب هذا المثل فانزل الله تعالى رداً عليهم قوله { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلاً ما بعوضة ...} الآية .
فأخبر تعالى أن لا يمنعه الاستحياء ان يجعل مثلا بعوضة فما دونها فضلا عما هو أكبر . وان الناس حيال ما يضرب الله من أمثال قسمان مؤمنون فيعلمون أنه الحق من ربهم . وكافرون : فينكرونها ويقولون كالمعترضين : ماذا أراد الله بهذا مثلا!؟ .
من هداية الأية : أن الحياء لا ينبغى أن يمنع من فعل المعروف وقوله والأمر به .
يستحسن ضرب الأمثال لتقريب المعانى الى الاذهان .
اذا أنزل الله خيراً من هدى وغيره ويزداد به المؤمنون هدى وخيراً ، ويزداد به الكافرون ضلالاً وشرا ، وذك لاستعداد الفريقين النفسى المختلف .
(27){ ينقضون } : النقض الحلّ بعد الإبرام .
{ من بعد ميثاقه } من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الإِشهاد عليه .
{ يقطعون ما أمر الله به أن يوصل } : من إدامة الإِيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام .
(28){ كيف تكفرون بالله } : الاستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ . لعدم وجود مقتض للكفر .
{ وكنتم أمواتاً فأحياكم } : هذا برهان على بطلان كفرهم ، إذ كيف يكفر العبد ربه وهو الذى خلقه بعد أن لم يك شيئا .
{ ثم يميتكم ثم يحييكم } : إن إماتة الحى واحياء الميت كلاهما دال على وجود الرب تعالى وقدرته .
من هداية الأية : 1- إنكار الكفر بالله تعالى .
2- إقامة البرهان على وجود الله وقدرته ورحمته .
(29){ ثم استوى الى السماء } : علا وارتفع قهرا لها فكونها سبع سماوات .
{ فسواهن } : أتمّ خلقهن سبع سماوات تامات .
من هداية الأية : - حلّية كل ما فى الأرض من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب الا ما حرمه الدليل الخاصر من الكتاب أو السنة لقوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } .
(30){ نسبح بحمدك } : نقول سبحان الله وبحمده . والتسبيح : التنزيه عما لا يليق بالله تعالى .
{ ونقدس لك } : فننزهك عما لا يليق بك . والتقديس : التطهير والبعد عما لا ينبغى . واللام فى لك زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدّسَه .
من هداية الآية :
1- سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم .
2- عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف .
3- معرفة بدء الخلق .
4- شرف آدم وفضله .
(31){ الأسماء } : أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والانسان .
{ عرضهم } : عرض المسميات أمامهم ، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم ، وإلا لقال عرضها
(33){ غيب السموات } : ما غاب عن الأنظار فى السموات والأرض .
{ تبدون } : تظهرون من قولهم { أتجعل فيها من يُفسد فيها } الآية .
{ تكتمون } : تبطنون وتخفون يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته .
{ الحكيم } : الحكيم الذى يضع كل شىء فى موضعه ، ولا يفعل ولا يترك الا لحكمه .
من هداية الأية : جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها .
(34){ اسجدوا } : السجود هو وضع الجبهة والأنف على الأرض ، وقد يكون بانحناء الرأس دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع .
{ إبليس } : قيل كان اسمه الحارث ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أى أيأسه من كل خير ومسخه شيطاناً
من هداية الآية :
التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب ابلاس الشيطان ، وامتناع اليهود من قبول الاسلام .
التنبيه الى أن من المعاصى ما يكون كفراً أو يقود الى الكفر .
(35){ رغداً } : العيش الهنيّ الواسع يقال له الرَّغَد .
{ الشجرة } : شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرماً أو تيناً أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغى السؤال عنها .
(36){ فأزلهما } : أوقعهما في الزلل ، وهو مخالفتهما لنهى الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة
{ مستقر } : المستقر : مكان الاستقرار والاقامة .
{ إلى حين } : الحين : الوقت مطلقا قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة .
(37){ فتلقى آدم } : أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة .
{ كلمات } : هى قوله تعالى : { ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } { فتاب عليه } : وفقه للتوبة فتاب وقبل توبته ، لأنه تعالى تواب رحيم .
(40) { بنو إسرائيل } : اسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام وبنوه هم اليهود ، لأنهم يعودون فى أصولهم الى أولاد يعقوب الأثنى عشر .
{ أوفوا بعهدى } : الوفاء بالعهد اتمامه وعهد الله عليهم أن يبينّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به
{ أوف بعهدكم } : أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم فى الدنيا وعزكم فيها .
(41){ ولا تشتروا بآياتي } : لا تعتاضوا عن بيان الحق فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
{ ثمناً قليلاً } : متاع الحياة الدنيا .
{ وإياى فاتقون } : واتقونى وحدى فى كتمانكم الحق وجحدكم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن أنزل بكم نقمتى .
(42){ ولا تلبسوا الحق بالباطل } : أى لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به ، وذلك قولهم : محمد نبىّ ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بنى إسرائيل .
(43){ واركعوا مع الراكعين } : الركوع الشرعى : انحنا الظهر فى امتداد واعتدال مع وضع الكفين على الركبتين والمراد بها هنا : الخضوع لله والإسلام له عز وجل .

الربع الثالث : من الأية 44 : الأية 59

من قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر) (44) إلى قوله تعالى : (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذى قيل لهم ... الأية (59)

(44){ البر } : البر لفظ جامع لكل خير . والمراد هنا : الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول فى الاسلام .
{ تلاوة الكتاب } : قراءته ، والكتاب هنا التوراه التى بأيدى اليهود .
{ العقل } : قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار ، والصالح والفاسد
من هداية الأية : - قبح السلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله .
- السيئة قبيحة وكونها من عالم أشد قبحا .
(45){ الاستعانة } : طلب العون للقدر على القول والعمل .
{ الصبر } : حبس النفس على ما تكره .
{ الخشوع } : حضور القلب وسكون الجوارح ، والمراد هنا الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه .
من هداية الأية : - مشروعية الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة ، إذْ كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع الى الصلاة .
(46){ يظنون } : يوقنون .
{ ملاقوا ربهم } : بالموت ، راجعون إليه يوم القيامة .
(47){ فضلتكم على العالمين } : آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك على عهد موسى عليه السلام وفى أزمنة صلاحهم واستقامتهم .
(48){ ولا يقبل منها شفاعة } : هذه النفس الكافرة اذ هى التى لا تنفعها شفاعة الشافعين .
{ ولا يؤخذ منها عدل } : على فرض أنها تقدَّمت بِعَدْلٍ وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها .
(49){ يسومونكم سوء العذاب } : يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه
{ يستحيون نساءكم } : يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة ، ويذبحون الأولاد خوفاً منهم إذا كبروا .
(51){ اتخذتم العجل } : عجل من ذهب صاغه لهم السامرى ودعاه الى عبادته فعبدوه أكثرهم ، وذلك فى غيبة موسى عنهم .
فى الأية مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة بنى اسرائيل أربعين ليلة وهى القعدة وعشر الحجة ليعطيه التوراه يحكم بها بنى اسرائيل فحدث فى غيابه ان جمع السامرى حلى لنساء بني إسرائيل وصنع منه عجلاً ودعاهم الى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله منّ عليهم بالعفو ليشكروه .
(52){ الشكر } : اظهار النعمة بالاعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها فى مرضاته .
(53){ الكتاب والفرقان } : الكتاب : التوراة ، والفرقان : المعجزات التى فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل .
{ تهتدون } : إلى معرفة الحق فى كل شئونكم من أمور الدين والدنيا .
(57){ المن والسلوى } : المنّ : مادة لزجة حُلْوَةٌ كالعسل ، والسلوى : طائر يقال له السُّمانى
لما ذكّر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالباً إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله . ذكرهم هنا ببعض ذنوب اسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلهاً وعبادتهم له . وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى ، وتركه هارون خليفة له فيهم ، فصنع السامرى لهم عجلاً من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه فأطاعه أكثرهم وعبدوا العجل فكانا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم ان يقتل من لم يعبد العجل من عبده فقتلوا منهم سبعين ألفاً فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم انه هو التواب الرحيم كما ذكرهم بحادثة أخرى وهى انه لما عبدوا العجل وكانت ردة ، اختار موسى بأمر الله تعالى منهم سبعين رجلاً من خيارهم ممن لم يتورطوا فى جريمة عبادة العجل ، وذهب بهم الى جبل الطور ليعتذروا الى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل ، فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يُسمعنا كلامه فأسمعهم قوله : إنى أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيدٍ شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى . ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم ، قالوا : لن نؤمن لك أى لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة وكان هذا منهم ذنباً عظيماً لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحدا واحدا وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة ، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى وهى اكرامه لهم وانعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ والسلوى أيام حادثة التيه فى صحراء سيناء وفى قوله تعالى : { وما ظلمناهم } إشارة الى ان محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيّهم اذ قالوا له : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } . وما ظلمهم فى محنة التيه ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم .
(58){ القرية } : مدينة القدس .
{ حِطّة } : حِطّة : فِعْلَةٌ مثل ردة وحدة من رددت وحددت ، أمرهم أن يقولوا حِطة بمعنى احطط عنا خطايانا ورفع ( حِطةٌ ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : دخولنا الباب سجداً حِطةٌ لذنوبنا .
وقد تضمنت هذه الأية تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها نعمة الله على بنى اسرائيل وهى حال تستوجب الشكر ، وذلك أنه لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من موسى وهارون وخلفهما فى بنى اسرائيل فتى موسى يوشع بن نون وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليه بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمرٍ إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً . واشكروا لى هذا الإِنعام بان تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين . دخولنا الباب سجداً حطةٌ لذنُوبنا التى اقترفناها بنكولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون . نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثواباً كما تضمنت الآية الثانية حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الى أمروا به والقول الى قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين : حبة فى شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فأنزل على الظالمين منهم طاعوناً أفنى منهم خلقاً كثيراًجزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل . وكان فيما ذكر عظة لليهو لو كانوا يتعظون .
(59){ فبدل } : غيروا القول الذى قيل لهم قولوه وهو حِطة فقالوا : حبَّة في شَعْرة .
{ رجزاً } : وباء الطاعون .

الربع الرابع : من الأية 60 : الأية 74

من قوله تعالى (وإذا أستسقى موسى لقومه) إلى قوله : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة ... الأية)

(60){ استسقى } : طلب لهم من الله السقيا أى الماء للشرب وغيره .
{ فانفجرت } : الانفجار : الانفلاق فانفجرت : انفلقت من العصا العيون
{ مشربهم } : ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية .
{ ولا تعثوا } : العَثَيّ والعِثِيّ : أكبر الفساد وفعله عِثي كرضي يعثي كيرضي وعثا يعثوا كعدا يعدو .
{ مفسدين } : الافساد : العمل بغير طاعة الله ورسوله فى كل مجالات الحياة .
(61){ القثاء } : الخيار والقته ونحوها .
{ الفُوم } : الفوم : الحِنطة وقيل الثوم لذكر البصل بعده .
{ مصراً } : مدينة من المدن، قيل لهم هذا وهم فى التيه كالتعجيز لهم والتحدى لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين فاصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين .
{ ضربت عليهم الذلة } : احاطت بهم ولازمتهم الذلة وهى الصغار والاحتقار .
والمسكنة : والمسكنة وهى الفقر والمهانة
{ الاعتداء } : مجاوزة الحق الى الباطل ، والمعروف إلى المنكر . والعدل الى الظلم .
(62){ النصارى } : الصليبيون سموا نصارى إما لأنهم يتناصرون أو لنزول مريم بولدها عيسى قرية الناصرة ، والواحد نصران أو نصرانى وهو الشائع على الألسنة .
{ الصابئون } : امة كانت بالموصل يقولون لا إله إلا الله . ويقرأون الزبور . ليسوا يهودا ولا نصارى واحدهم صابيء ، ولذا كانت قريش تقول لمن قال لا إله الا الله صابيء أى مائل عن دين آبائه الى دين جديد وحَدَ فيه الله تعالى .
مناسبة الآية ومعناها :
لما كانت الآية فى سياق دعوة اليهود إلى الاسلام ناسب أن يعلموا أن النِّسَبَ لا قيمة لها وانما العبرة بالإِيمان الصحيح والعمل الصالح المزكى للروح البشرية والمطهرة لها فلذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وغيرهم كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإِيمان وعمل صالحاً مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تكروا من الدنيا ، إذ الآخرة خير وأبقى .
والإِيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالايمان بالنبى الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبى الخاتم فى كتابه وما أوحى إليه ، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهى لا تزكى النفس ولا تطهرها . والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها .
(63){ الميثاق } : العهد المؤكد باليمين .
(65){ اعتدوا فى السبت } : تجاوزوا الحدَّ فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا
{ خاسئين } : مبعدين عن الخير ذليلين مهانين .
(66){ نكالاً } : عقبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سبباً فيه .
(67){ الجاهل } : الذى يقول او يفعل مالا ينبغي قوله أو فعله .
(68){ الفارض } : المسنة ، والبكر الصغيرة التى لم تلد بعد . والعوان : النّصَفُ وسط بين المسنة والصغيرة .
(69){ فاقع } : يقال : أصفر فاقع شديدة الصفرة كأحمر قانىء وأبيض ناصع .
(71){ الذلول } : الرّيّضة التى زالت صعوبتها فاصبحت سهلة منقادة .
{ تثير الأرض } : تقبلها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى أنها لم تستعمل فى الحرث ولا فى سقاية الزرع أى لم يُسن عليها ، وذلك لصغرها .
{ مسلّمة } : سليمة من العيوب كالعور والعرج .
{ لا شية فيها } : الشية العلامة أي لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض .
من هداية الآيات فى قصة بنى إسرائيل :
- بيان ما كان عليه قوم موسى من بنى اسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون .
- حرمة الاعتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهى وعلتها .
- الندب الى الأخذ بالمتيسر وكراهة التشدد فى الأمور .
- بيان فائدة الاستثناء بقوله إن شاء الله ، إذ لو لم يقل اليهود ان شاء الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة .
- ينبغي تحاشي الكلمات التى قد يفهم منها إنتقاص الأنبياء مثل قولهم الآن جئت بالحق ، اذ مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إلا فى هذه المرة من عدة مرات سبقت!!
(72) {نَفْساً} : نفس الرجل الذي قتله وارثه استعجالاً للإرث.
{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} : تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول قتلها القبيل الآخر.
{مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} : من أمر القاتل ستراً عليه دفعاً للعقوبة والفضيحة.
(73){بِبَعْضِهَا} : ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلاً.
(74) يقول تعالى لليهود موبخاً لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه، فاختصم في شأن القتل كل جماعة تنفي أن يكون القاتل منها، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة إحقاقاً للحق وفضيحة للقاتلين، فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة، فيحيا ويخبر عن قاتله ففعلتم وأحيا الله القتيل وأخبر بقاتله فقتل به، فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على حلمه وعلمه وقدرته، وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلاقكم وطاعتكم، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة فهي لا ترق ولا تلين ولا تخشع على عكس الحجارة، إذ منها ما تتفجر منه العيون، ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله؛ كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى، وكما أضطرب أحد تحت قدمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من الذنوب والآثام، وسيجزيكم به جزاء عادلاً إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا.
من هداية الأية
الكشف عن نفسيات اليهود وإنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع.
اليهود من أقسى البشر قلوباً إلى اليوم، إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون.
من علامات الشقاء: قساوة القلوب، وفي الحديث: "من لا يرحم لا يرحم".

الربع الخامس : من الأية 75 : الأية 91

من قوله تعالى : (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ... ) إلى قوله : (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أُنزل علينا ... الأية)

(75){أَفَتَطْمَعُونَ} : الهمزة للإنكار الاستبعادي، والطمع: تعلق النفس بالشيء رغبة فيه.
{يُحَرِّفُونَهُ } : التحريف: الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه كما قالوا في نعت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة: أكحل العينين ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، قالوا: طويل أزرق العينين، سبط الشعر.
(76){أَتُحَدِّثُونَهُمْ} : الهمزة: للإستفهام الانكاري، وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي في التوراة.
{بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} : إذا خلا منافقوا اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة، وهو مما فتح الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم.
{لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} : يقولون لهم لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من العلم حتى لا يحتجوا عليكم به، فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله.
و هذا الكلام جارٍ على عقيدة اليهود في تشبيههم الرب تعالى بحكام البشر في رواج الحيل عليه، وإمكان مغالطته وإنه تعالى يوجد الشيء ثم يندم ويأسف كما هو صريح في التوراة فلذا أنكروا على بعضهم إخبار المؤمنين بصدق النبوة المحمدية مخافة أن يحتجوا عليهم يوم القيامة بذلك.
ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم، ويذكر وجه استبعاده بما عرف به اليهود سلفاً وخلفاً من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله، تعمية وتضليلاً حتى لا يُهتدى إلى وجه الحق فيه، ومن كان هذا حاله يبعد جداً تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} وهم كاذبون وإذا خلا بعضهم ببعض أنكروا على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه، متعللين بأن مثل هذا الاعتراف يؤدي إلى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة، وسبحان الله كيف فسد ذوق القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على الله، قال تعالى في التنديد بهذا الموقف الشائن: {أَوَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ؟.
من هداية الأية : أن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له اليهود.
(78){أُمِّيُّونَ} : الأمي: المنسوب إلى أمة كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه، فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة.
{أَمَانِيَّ} : الأماني: جمع أمنية وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه، وإما القراءة من تمنى الكتاب إذا قرأه.
ومن جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} إلا مجرد قراءة فقط، أما إدراك المعاني الموجبة لمعرفة الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب، وما يقولونه ويتفوهون به لم يَعْدُ الحرص والظن الكاذب.
من هداية الأية :  ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه فضلاً عن معرفة حكمه وأسراره وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد على هذا فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلاً عن غير الحافظين له.
(79) ويل: الويل: كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو عذاب.
{الْكِتَابَ} : ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه إلى الله تعالى ليتوصلوا به إلى أغراض دنية من متاع الدنيا القليل.
{مِنْ عِنْدِ اللهِ} : ينسبون ما كتبوه بأيديهم إلى التوراة بوصفها كتاب الله ووحيه إلى موسى عليه السلام.
من المعلوم إن التوراة قد أخذت من اليهود في حملة بختنصر، وفي حملة القائد الروماني، ولذا ضاع أكثرها وزيد فيها ونقص بحيث ما أصبحت صالحة لهداية البشرية، ومن هنا أصبح علماؤهم يكتبون الكلمات وينسبونها إلى التوراة التي هي كتاب الله في الأصل، ويزعمون أن ما كتبوه هو من كتاب الله.
{يَكْسِبُونَ} : الكسب يكون في الخير، وهو هنا في الشر فيكون من باب التهكم بهم.
(80) {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} : أربعين يوماً وهذا من كذبهم وتضليلهم للعوام منهم ليصرفوهم عن الإسلام.
وذكر ابن كثير في سبب نزول قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً} أن عكرمة قال: "خاصمت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها آخرون، يعنون محمداً وأصحابه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده على رؤسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفنكم فيها أحد" فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ... } الآية.
(83) الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
حسناً: حسن القول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطبة باللين، والكلم الطيب الخالي من البذاءة والفحش.
توليتم: رجعتم عما التزمتم به مصممين على أن لا تتوبوا.
ما زال السياق الكريم في تذكير اليهود(وهم يهود المدينة، وهم ثلاث طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة) بما كان لأسلافهم من خير وغيره والمراد هدايتهم لو كانوا يهتدون، فقد ذكرهم في الآية (83) بما أخذ الله تعالى عليهم في التوراة من عهود ومواثيق على أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا في عبادته سواه. وأن يحسنوا للوالدين ولذوي القربى واليتامى والمساكين وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويقول حسناً للناس فلم يفعل ذلك إلا القليل .
(84) قوله تعالى في الآية: {تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} ، وقوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ليس معناه أن أحدهم يقتل نفسه ويسفك: أي يسيل دمه، وإنما لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنكم أمة واحدة.
فى هذه الأية ذكرهم رب العزة بميثاق خاص أخذه عليهم في التوراة أيضاً وهو الإسرائيلي لا يقتل الإسرائيلي ولا يخرجه من داره بغياً وعدواناً عليه، وإذا وقع في الأسر وجب فكاكه بكل وسيلة ولا يجوز تركه أسيراً بحال، أخذ عليهم بهذا ميثاقاً غليظاً وأقروا به وشهدوا عليه
(85) تظاهرون: قرئ تظّاهرون، وتظاهرون بتاء واحدة ومعناه تتعاونون.
بالإثم والعدوان: الإثم: الضار الموجب للعقوبة، والعدوان الظلم.
أسارى: جمع أسير: من أخذ في الحرب.
الأسر: مأخوذ من الإسار وهو: القد الذي يشد به المحمل فيسمى أخيذ الحرب: أسيراً، لأنه يشد وثاقه، وجمع: أسرى، وأسارى؛ كسكرى، وسكارى، ثم سمي كل أخيه في الحرب: أسيراً.
الخزي: الذل والمهانة.
يوبخ الله تعالى اليهود على عدم وفائهم بما التزموا به حيث صار اليهودي يقتل اليهودي ويخرجه من داره بغياً وعدواناً عليه ويسفك دمه وإذا انتهت الحرب فادوا أسراهم طاعة لله تعالى إذا أوجب ذلك عليهم. وفي نفس الوقت إن أتاهم يهودي أسيراً2 فَدوه بالغالي والرخيص، فندد الله تعالى بصنيعهم هذا الذي هو إهمال واجب وقيام بآخر تبعاً لأهوائهم فكانوا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ومن هنا توعدهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
(وقد حصل لهم هذا بالمدينة النبوية وذلك أن سكان المدينة كانوا يتألفون من قبيلتين: الأوس، والخزرج، وقبائل اليهود الثلاث، وكانت تندلع الحروب بينهم لأتفه الأسباب، وكانوا بنو قينقاع وبنو النضير حلفاً للخزرج، وبنو قريظة حلفاً للأوس، فإذا اندلعت الحرب بين الأوس والخزرج قاتل اليهود مع حلفاؤهم، وبذلك يقتل اليهودي أخاه )
(86) أخبر الله تعالى فى هذه الأية أنهم بصنيعهم ذلك اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة فكان جزاؤهم عذاب الآخرة حيث لا يخفف عنهم ولا ينصرون فيه بدفعه عنهم.
(87)  قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} . إلخ. إيحاء باللوم والعتاب بل هو تقريع وتوبيخ لليهود على تمردهم على رسلهم بتكذيب البعض وقتل البعض اتباعاً لأهوائهم وأغراضهم الدنية.
{وَقَفَّيْنَا} : أرسلناهم يقْفُو بعضهم بعضاً أي واحداً بعد واحد.
(88) {غُلْفٌ} : عليها غلاف يمنعها من الفهم لما تدعونا إليه، أو هي أوعية للعلم فلا نحتاج معها إلى أن نتعلم عنك.
{يَسْتَفْتِحُونَ} : يطلبون الفتح أي النصر وذلك بإيمانهم واتباعهم للنبي المنتظر. ألا إنهم لما جاءهم كفروا به، وهذه طبيعتهم كما قيل: شنشنه أعرفها من أخزم.
يذكر تعالى تبجحهم بالعلم واستغناءهم به، ويبطل دعواهم وثبت علة ذلك وهي: أن الله لعنهم بكفرهم، فلذا هم لا يؤمنون،
(89) يذكر تعالى كفرهم بالقرآن ونبيه بعد أن كانوا قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون للعرب إن نبياً قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونقاتلكم معه وننتصر عليكم، فما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله عليهم؛ لأنهم كافرون.
(90) يقبح الله تعالى سلوكهم حيث باعوا أنفسهم رخيصة، باعوها بالكفر فلم يؤمنوا بالقرآن ونبيه حسدا أن يكون في العرب نبي يوحى إليه، ورسول يطاع ويتبع، فرجعوا من طول رحلتهم في الضلال بغضب عظيم سببه كفرهم بعيسى، وبغضب عظيم سببه كفرهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع الغضب العذاب المهين في الدنيا والآخرة.
(أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) سمي الحسد: بغياً وظلماً؛ لأن البغي والظلم بمعنى واحد، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والحاسد متمني زوال النعمة عن المحسود وهو في هذا الحال ظالم متعد؛ لأنه لا يناله من زوالها نفع ولا من بقاءها ضرر.
(91) يخبرالله تعالى أن اليهود إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن يدّعون أنهم في غير حاجة إلى إيمان جديد بحجة أنهم مؤمنون من قبل بما أنزل الله تعالى في التوراة وبهذا يكفرون بغير التوراة وهو القرآن، مع أن القرآن حق، والدليل أنه مصدق لما معهم من حق في التوراة، ثم أمر الله رسوله أن يبطل دعواهم موبخاً إياهم بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إذ قتل الأنبياء يتنافى مع الإيمان تمام المنافاة.


الربع السادس : من الأية 92 : الأية 105

من قوله تعالى (ولقد جاءكم موسى بالبينات ) إلى قوله تعالى (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ... الأية)


(92) {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} : يريد إلهاً عبدتمو ه في غيبة موسى عليه السلام.
(93)  قوله: {وَاسْمَعُوا ... } ليس المراد بالسماع بالحاسة، وإنما المراد الطاعة والامتثال؛ كقول المرء: فلان لا يسمع كلامي، فإن معناه لا يمتثل أمري ولا يطيعني كما أن قوله: {وَعَصَيْنَا} ليس معناه بلفظ عصينا وإنما معناه إنهم لم يمتثلوا الأمر الصادر إليهم.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} : أي حب العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك.
 فى هذه الأية يذكر تعالى اليهود بما أخذه على أسلافهم من عهد وميثاق بالعمل بما جاء في التوراة عندما رفع الطور فوق رؤوسهم تهديداً لهم غير أنهم لم يفوا بما عاهدوا عليه، كأنهم قالوا سمعنا وعصينا، فعبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم بسبب كفرهم ثم أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقبح ما ادعوه من أن إيمانهم هو الذي أمرهم بقتل الأنبياء وعبادة العجل، والتمرد والعصيان.
(94) أمر الله تعالى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم مباهلاً إياهم: إن كانت الدار الآخرة خالصة لكم لا يدخل الجنة معكم أحد فتمنوا الموت لتدخلوا الجنة وتستريحوا من عناء الدنيا ومكابدة العيش فيها، فإن لم تتمنوا ظهر كذبكم وثبت كفركم وأنكم أصحاب النار، وفعلاً ما تمنوا الموت ولو تمنوه لماتوا عن آخرهم.
من هداية الأية : صحة الإسلام، وبطلان اليهودية، وذلك لفشل اليهود في المباهلة بتمني الموت.
المؤمن الصالح يفضل الموت على الحياة لما يرجوه من الراحة والسعادة بعد الموت.
(95) أخبر تعالى أن اليهود لن يتمنوا الموت أبداً، وذلك بسبب ما قدموه من الذنوب والخطايا العظام الموجبة لهم عذاب النار بأنهم مجرمون ظلمة والله عليم بالظالمين، وسيجزيهم بظلمهم إنه حكيم عليم.
(96) يخبر الله تعالى أن اليهود أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين الذين يود الواحد منهم أن يعيش ألف سنة، فكيف يتمنون الموت إذاً وهم على هذا الحال من الحرص على الحياة، وذلك لعلمهم بسوء مصيرهم إن هم ماتوا. كما يخبر تعالى أن الكافر لا ينجيه من العذاب طول العمر ولو عاش أكثر من ألف سنة، ثم هدد الله تعالى اليهود وتوعدهم بقوله: {وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الشر والفساد وسيجزيهم به.
صدق القرآن فيما أخبر به عن اليهود من حرصهم على الحياة ولو كانت رخيصة ذميمة، إذ هذا أمر مشاهد منهم إلى اليوم.
(97) يأمر تعالى رسوله أن يرد على اليهود قولهم: لو كان الملك الذي يأتيك بالوحي ميكائيل لأمنا بك، ولكن لما كان جبريل، فجبريل عدونا؛ لأنه ينزل بالعذاب، بقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} فليمت غيظاً وحنقاً، فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن بإذن ربه على قلب رسوله مصدقاً -القرآن- لما سبقه من الكتب وهدى يهتدى به وبشرى يبشر به المؤمنون الصالحون.
(98) روى الترمذي في سبب نزول: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ ... } إلخ. أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل: "قالوا: ذلك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذلك عدونا لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: {لِلْكَافِرِينَ} .
وذكر جبريل وميكائيل بعد ذكرهم في عموم الملائكة دليل على شرفهما وعلو مقامهما.
(99) ذكر الطبري أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ ... } إلى قوله: {الْفَاسِقُون} نزل رداً على ابن صوريا اليهودي، حيث قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها.
يرد تعالى على قول ابن صوريا اليهودي للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جئتنا بشيء، بقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا
الفسق: مشتق من فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، وبه الْفَاسِقُونَ} ؛ كالأعور بن صوريا اليهودي.
(100) {نَبَذَه} : طرحه وألقاه غير آبه به ولا ملتفت إليه.
النبذ: الطرح والإلقاء، ولذا سمي اللقيط منبوذاً، وسمي النبيذ: نبيذاً؛ لأنه طرح التمر والزبيب في الماء وعليه قول الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلاً من نعالك
يكون القرآن الكريم، فقد نبذوه أيضاً بعد علمهم؛ بأنه الحق مصدقاً لما معهم.
سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على أهل الدار.
من هداية الأية : الفسق العام ينتج الكفر، إن العبد إذا فسق وواصل الفسق عن أوامر الله ورسوله سيؤدي به ذلك إلى أن ينكر ما حرم الله وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بالله.
(100) ينكر الحق سبحانه وتعالى على اليهود كفرهم ونبذهم للعهود والمواثيق وليسجل عليهم عدم إيمان أكثرهم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
{وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} : أي أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه لمنافاته لما هم معروفون عليه من الكفر بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كأنهم لا يعلمون مع أنهم يعلمون حق العلم.
من هداية الأية : اليهود لا يلتزمون بوعد ولا يفون بعهد، فيجب أن لا يوثق في عهودهم أبداً.
(101) ينعي البارئ عز وجل على علماء اليهود نبذهم للتوراة لما رأوا فيها من تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإثباتها فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ1 فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
من هداية الأية :  قبح جريمة من تنكر للحق بعد معرفته، ويصبح وكأنه جاهل به.
(102) اشتهر بين علماء السلف أن ما تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان كان سببه: أن مردة من الشياطين كتبوا كتاباً ضمنوه الكثير من ضروب السحر والشعوذة والأباطيل ونسبوه إلى كاتب سليمان، وهو: أصف ودفنوه تحت كرسي سليمان حين ابتلي بنزع ملكه، ولما مات سليمان أخرج الكتاب شياطين الجن بالتعاون مع شياطين الإنس، وأعلنوا في الناس أن سليمان كان ساحراً، وما غلب الجن والإنس إلا بالسحر، فصدقهم أناس وكذب آخرون، ولما بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفر به اليهود وتنكروا للتوراة لاتفاقها مع القرآن أنزل الله تعالى قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} فبرأ سليمان وكفر اليهود.
{مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} : الذي تتبعه وتقول به الشياطين من كلمات السحر.
{عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} : على عهد سليمان ووقت حكمه.
{الشَّيَاطِينَ} : جمع شيطان وهو من خبث وتمرد ولم يبق فيه قابلية للخير.
{السِّحْرَ } : هو كل ما لطف مأخذه وخفي سببه مما له تأثير على أعين الناس أو نفوسهم أو أبدانهم.
الخلاق: النصيب والحظ.
ما زال السياق الكريم في بيان ما عليه اليهود من الشر والفساد، ففي هذه الأية يخبر تعالى: أن اليهود لما نبذوا التوراة لتقريرها بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأكيدها لصحة دينه اتبعوا الأباطيل والترهات التي جمعها شياطين الإنس والجن في صورة رُقى وعزائم وكانوا يحدثون بها، ويدّعون أنها من عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وأنها هي التي كان سليمان يحكم بها الإنس والجن، ولازم هذا أن سليمان لم يكن رسولاً ولا نبياً وإنما كان ساحراً كافراً، فلذا نفى الله تعالى عنه ذلك بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وأثبته للشياطين فقال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . كما يعلمونهم ما ألهمه الملكان هاروت وماروت ببابل العراق من ضروب السحر وفنونه، وهنا أخبرنا تعالى عن ملكي الفتنة أنهما يقولان لمن جاءهما يريد تعلم السحر: إنما نحن فتنة فلا تكفر بتعلمك السحر وهذا القول منهما يفهم منه بوضوح أن أقوال الساحر وأعماله التي يؤثر بها على الناس منها ما هو كفر في حكم الله وشرعه قطعاً.
كما أخبر تعالى في هذه الآية أن ما يتعلمه الناس من الملكين إنما يتعلمونه ليفرقوا بين الرجل وامرأته، وأن ما يحدث به من ضرر هو حاصل بإذن الله تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات، ولو شاء الله أن يوجد مانعاً يمنع من حصول الأمر بالضرر لفعل وهو على كل شيء قدير. فبهذا متعلموا السحر بسائر أنواعه إنما هم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. وفي آخر الآية يقرر تعالى علم اليهود بكفر الساحر ومتعلم السحر ومتعاطيه حيث أخبر تعالى أنهم لا نصيب لهم في الآخرة من النعيم المقيم فيها. فلذا هم كفار قطعاً.
وأخيراً يقبح تعالى ما باع به اليهود أنفسهم، ويسجل عليهم الجهل بنفي العلم إذ قال تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
ذكر القرطبي: أن ابن بطال قال: في كتاب وهب بن منبه أن يأخذ المسحور سبع ورقات من سدر أخضر فيدقها بين حجرين ثم يخلطلها بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ثم يحثو منها ثلاث حثيات ويغتسل به فإنه يذهب عن كل ما ألم إن شاء الله تعالى.
من هداية الأية :  الله تعالى خالق الخير والضير، ولا ضرر ولا نفع إلا بإذنه فيجب الرجوع إليه في جلب النفع، ودفع الضر بدعائه والضراعة إليه.
العلم المهم؛ كالظن الذي لا يقين معه لا يغير من نفسية صاحبه شيئاً فلا يحمله على فعل خير ولا على ترك شر بخلاف الرسوخ في العلم فإن صاحبه يكون لديه من صادق الرغبة وعظيم الرهبة ما يدفعه إلى الإيمان والتقوى ويجنبه الشرك والمعاصي. وهذا ظاهر في نفي الله تعالى العلم عن اليهود في هاتين الآيتين.
(104) {رَاعِنَا} : أمهلنا وانظرنا حتى نعي ما تقول.
{انْظُرْنَا} : أمهلنا حتى نفهم ما تقول ونحفظ.
أمر الله تعالى المؤمنين أن يراعوا الأدب في مخاطبة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجنباً للكلمات المشبوهة؛ ككلمة: راعنا، إذ قد تكون من الرعونة، ولما تدل عليه صيغة المفاعلة؛ إذ كأنهم يقولون: راعنا نُراعك، وهذا لا يليق أن يخاطب به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسبب نزول هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ... } إلخ. أن اليهود استغلوا كلمة: راعنا، وصاروا يقولونها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم ينوون بها سب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجود كلمة في العبرية مثلها ومعناه: السب والشتم؛ كالرعونة. فأنزل الله هذه الآية، أرشد فيها المسلمين إلى ترك كلمة: راعنا، وإبدالها: بانظرنا، فانقطع الطريق عن اليهود لعنهم الله.
(105){مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} : من الوحي الإلهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع الهداية وطرق الإسعاد والإكمال في الدارين.
{الْفَضْلِ} : ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه. والله عز وجل هو صاحب الفضل إذ كل ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو في غنى عنه ولا حاجة به إليه أبداً.
وأرشدهم تعالى إلى كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الأدب وهي انظرنا، وأمرهم أن يسمعوا لنبيهم إذا خاطبهم حتى لا يضطروا إلى مراجعته، إذ الاستهزاء بالرسول والسخرية منه ومخاطبته بما يفهم الاستخفاف بحقه وعلو شأنه وعظيم منزلته كفر بواح.
معنى انظرنا: هو معنى راعنا، ولكن لما استعملها اليهود وصاروا ينوون بها سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنها عندهم من الرعونة لذلك أرشد الله المسلمين إلى كلمة: انظرنا.
أخبر تعالى عباده المؤمنين بأن الكافرين من أهل الكتاب ومن غيرهم من المشركين الوثنيين لا يحبون أن يُنزل عليكم من خير من ربكم وسواء كان قرآناً يحمل أسمى الآداب وأعظم الشرائع وأهدى سبل السعادة والكمال، أو كان غير ذلك من سائر أنواع الخيرات، وذلك حسداً منهم للمؤمنين كما أخبرهم أنه تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده فحسد الكافرين لكم لا يمنع فضل الله عليكم ورحمته بكم متى أرادكم بذلك.


الربع السابع : من الأية 106 : 123

من قوله تعالى : (ما ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) إلى قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا)

(106){نَنْسَخْ} : نبدل أو نزيل.
{نُنْسِهَا} : نمسحها من قلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للعالم. روى أن علياً رضي الله عنه أرسل إلى رجل كان يخوف الناس في المسجد فجاءه فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وعن ابن عباس مثله، وقال له: هلكت وأهلكت.
يخبر تعالى راداً على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غداً، أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكماً شاقاً على المسلمين إلى حكم أخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى اثنين. أو حكماً خفيفاً إلى شاق زيادة في الأجر؛ كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان، أو حكماً خفيفاً إلى حكم خفيف مثله؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو حكماً غير حكم آخر؛ كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلاً عنه، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة، ويبقى حكمها؛ كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو ينسخ الآية وحكمها. وهذا معنى قوله: {أَوْ نُنْسِهَا} ، وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآناً نزل وقرأه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظاً، ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو تعال يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
وفي الكلام إشارة إلى سبب نزول هذه الآيات، والمراد بالذين قالوا أن محمداً..إلخ: هم اليهود، واليهود ينفون وجود النسخ في الشرائع وهم مخطئون في ذلك خطأ كبيراً، إذ قد أباح الله تعالى أن لآدم أن ينكح بناته بنيه فترة من الزمن، ثم نسخ ذلك، وأباح لنوح أكل سائر الحيوان بعد نزوله من السفينة، ثم نسخ ذلك. كما أوحى الله إلى إبراهيم أن يذبح ولده، ثم نسخ ذلك إذ فداه بذبح عظيم قبل الذبح، وهذا نسخ للأمر قبل فعله.
من هداية الأية :  رأفة الله تعالى بالمؤمنين في نسخ الأحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم.
وجوب التسليم لله والرضا بأحكامه، وعدم الاعتراض عليه تعالى.
ثبوت النسخ في القرآن الكريم، كما هو ثابت في السنة، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا إجماع.
(108) {أَمْ تُرِيدُونَ} : بل أتريدون، إذ (أم) هنا للإضراب الانتقالي فهي بمعنى: بل، والهمزة، وما سئله موسى هو، قول بني إسرائيل له: (أرنا الله جهرة) .
قوله تعالى: {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ..} . معنى سؤال بني إسرائيل موسى بأن يريهم الله جهرة، أي: مواجهة بعد أن سمعوا كلامه، كما سألوه غير هذا تعنتاً وجهلاً بمقام الرسول موسى عليه السلام، ولذا حذر الله المؤمنين من مثل هذه المواقف القبيحة.
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} ، فهو توبيخ لمن طالب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور ليس في مكنته، وإعلام من يجري على أسلوب التعنت وسوء الأدب مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يصاب بزيغ القلب فيكفر، دلّ على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
من هداية الأية :  ذم التنطع في الدين وطرح الأسئلة المحرجة والتحذير من ذلك.
(109) {أَهْلِ الْكِتَابِ} : اليهود والنصارى.
{حَسَداً} : الحسد تمني زوال النعمة على من هي به.
{تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} : عرفوا أن محمداً رسول الله وأن دينه هو الدين الحق.
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} : لا تؤاخذهم ولا تلوموهم، إذ العفو ترك العقاب، والصفح الإعراض عن الذنب.
{حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} : أي الإذن بقتالهم والمراد بهم يهود المدينة، وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
مناسبة هذه الأية وما بعدها لما قبلهما ظاهرة، وهي أنه لما حذر تعالى المؤمنين من مسلك اليهود مع أنبياءهم في الأسئلة المحرجة المتعنتة، أعلمهم أن أعدائهم من اليهود يودون لهم الكفر بعد إيمانهم حسداً لهم وعلى رأس هؤلاء كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وغيرهم، كما أن ابن أبي، وجماعة من سكان المدينة كانوا يعملون جاهدين على صرف من آمن عن إيمانه، ولما لم يحن الوقت للقتال، أمرهم تعالى بالصفح والعفو والإعداد حتى يأتي الأمر بالقتال.
وفى هذه الأية يخبر تعالى المؤمنين بنفسية كثير من أهل الكتاب وهي الرغبة الملحة في أن يتخلى المسلمون عن دينهم الحق ليصبحوا كافرين، ومنشأ هذه الرغبة الحسد الناجم عن نفسية لا ترغب أن ترى المسلمين يعيشون في نور الإيمان بدل ظلمات الكفر، وبعد أن أعلم عباده المؤمنين بما يضمر لهم أعداؤهم، أمرهم بالعفو والصفح؛ لأن الوقت لم يحن بعد لقتالهم فإذا حان الوقت قاتلوهم وشفوا منهم صدورهم.
الحسد ثلاثة أنواع: وهي: تمني زوال نعمة عمن هي به، وتمني زوالها ولو لم تحصل لمتمنيها، وهذا شر وأقبح من الأول، وهما محرمان لها لما فيهما من تسفيه المنعم عز وجل، إذ الحاسد معترض على قسمة الله وعطاؤه عباده ما شاء. وتمني حصول نعمة كالتي حصلت لغيره، وهذا مباح وليس حراماً ويشهد له الحديث الصحيح: "لا حسد إلا في اثنتين" الحديث ويسمى غبضا.
اليهود والنصارى يعلمون أن الإسلام حق وأن المسلمين على حق فحملهم ذلك على حسدهم ثم عداوتهم، والعمل على تكفيرهم ... وهذه النفسية ما زالت طابع أهل الكتاب إزاء المسلمين إلى اليوم.
 (110) {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} : إقامة الصلاة: أداؤها في أقواتها مستوفاة الشروط والأركان والسنن.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : أعطوا زكاة أموالكم وافعلوا كل ما من شأنه يزكي أنفسكم من الطاعات.
في الظرف الذي لم يكن مواتياً للجهاد على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالإعداد للجهاد، وذلك بتهذيب الأخلاق والأرواح وتزكية النفوس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء على طاقاتهم الروحية والبدنية إلى حين يؤذن لهم بالجهاد.
من هداية الأية :  تقوية الشعور بمراقبة الله تعالى ليحسن العبد نيته وعمله.
(111) {الْجَنَّةَ} : دار النعيم وتسمى دار السلام وهي فوق السماء السابعة.
لما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة التقى باليهود في مجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعدائهم السابق تماروا فادعت اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً، وادعت النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان نصرانياً فرد الله تعالى عليهم وأبطل دعواهم حيث طالبهم بالبرهان عليها فلم يقدروا وأثبت تعالى دخول الجنة لمن زكى نفسه بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.
هود: جمع هائد، أي: متبع اليهودية، ومثله: عوذ، جمع عائد، وهي: الحديثة النتاج من الظباء، والإبل، والخيل.
ما تمناه اليهود وأشير إليه هنا بقوله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} هو أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردوهم كفاراً، وأن يدخلون الجنة وحدهم دون غيرهم.
(113) هذه الأية سجلت كفر كل من اليهود والنصارى، بشهادتهم على بعضهم بعضاً فقد كفر اليهود والنصارى بقولهم: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له، وكفّر النصارى اليهود بقولهم: ليست اليهود على شيء مع أنهم يقرأون التوراة والإنجيل، فلذا كان تكفيرهم لبعضهم لبعض حقاً وصدقاً. ثم أخبر تعالى أن ما وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من الكفر والضلال قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم وذلك لجهلهم، وأخبر تعالى أنه سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضلالهم.
(114){وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} : عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو يمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضاً.
و أصل السعي: المشي، ومنه السعي بين الصفا والمروة، وهو المشي بينهما ثم أطلق على التسبب مطلقاً يقال: سعى فلان في مصلحتك وسعى فلان في الإفساد بين فلان وفلان.
و المساجد: جمع مسجد بكسر الجيم على غير قياس إذ فعل بالفتح، يفعل بالضم، الاسم منه كالمصدر مفعل بالفتح، ونظير المسجد المطلع والمشرق والمسكن والمرفق. والمسجد بالفتح: جبهة المرء وأعضاء سجوده السبعة.
ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلماً ممن منع مساجد الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها، لأن العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد الحياة كلها وعطلها، وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشاً بصدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام، أو فلطيوس ملك الروم الذي خرّب المسجد الأقصى، وقد خرب بيت المقدس أيضاً بختنصر اليهودي البابلي قبل النصارى.
من هداية الأية : وجوب حماية المساجد من دخول الكافرين إلا أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلاء صاغرون. أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلاً، ولذا ضمن تعالى قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} ، أمر المسلمين بجهاد الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم فيذلوا ويهونوا.
(115){فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} : هناك الله تعالى إذ الله عز وجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً وجد الله تعالى، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها.
فى هذه الأية يخبر تعالى راداً على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بين المقدس إلى الكعبة، مؤذناً بجواز صلاة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت، فأخبر تعالى أن له المشرق والمغرب خلفاً وملكاً وتصرفاً، يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها شرقاً أو غرباً، جنوباً أو شمالاً، فلا اعتراض ولا إنكار وأن الله تعالى محيط بالكائنات، فحيثما توجه العبد في صلاته فهو متوجه إلى الله تعالى، إلا أنه تعالى أمر بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة بمن عرف جهتها لا يجوز له أن يتجه إلا إليها.
(ولله المشرق والمغرب) بناء على كروية الأرض، فإن الأرض كلها مشرق ومغرب، إذ كل مكان تشرق فيه هو مكان تغرب فيه.
من هداية الأية عظم جريمة من يتعرض للمساجد بأي أذى أو إفساد.
صحة صلاة النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها. إذ صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي النافلة على راحتله حيثما اتجهت به القبلة وإلى غيرها.
وجوب استقبال القبلة إلا عند العجز فيسقط هذا الواجب. وللعجز صور منها: أن يكون مريضاً لا يقدر على التحول، ومنها: أن يكون خائفاً، ومنها: أن يكون مقاتلاً أو هارباً، ومنها: أن يكون جاهلاً بها فطلبها ولم يعرف فصلى حيث ترجح القبلة وإن لم يصبها.
العلم بإحاطة الله تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلماً فلا يخفى عليه من أمر العوالم شيء ولا يعجزه آخر.
(116) قانتون: خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه.
ما زال السياق الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر زيفها ويبطلها نهائياً ففي هذه الأية  وما بعدها يذكر تعالى قول أهل الكتاب والمشركين في أن الله اتخذ ولداً، إذ قالت اليهود: العزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعض مشركي العرب: الملائكة بنات الله، ذكر تعالى قولهم اتخذ الله ولداً ثم نزه نفسه عن هذا القول الباطل والفرية2 الممقوتة، وذكر الأدلة العقلية على بطلان الدعوى.
فأولاً: مِلْكيةُ الله تعالى لما في السموات والأرض، وخضوع كل من فيهما لحكمه وتصريفه وتدبيره يتنافى عقلاً مع اتخاذ ولد منهم.
ثانياً: قدرة الله تعالى المتجلية في إبداعه السموات والأرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى معها احتياجه إلى الولد، وهو مالك كل شيء ورب كل شيء.
من الأدلة العقلية على إبطال فرية اتخاذ الله تعالى الولد: أن الولدية تقضي التجانس، والله تعالى ليس كمثله شيء، وهو لا يجانسه شيء، ثم الولد يتنافى مع الرق والملك والله له ملك السموات والأرض، فكيف يكون الرقيق ولداً؟!.
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمي إياي فقوله لي: ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً".
(118) أو تأتينا آية: كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى.
يرد تعالى على قولة المشركين الجاهلين: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا، فأخبر تعالى أن مثل هذا الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والانتكاس، فقد قال اليهود لموسى أرنا الله جهرة، أما رؤية الله وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة الامتحان والتكليف، لذا لم يجب إليه أحداً من قبلهم ولا من بعدهم، وأما الآيات فما أنزل الله تعالى وبينه في كتابه من الآيات الدالة على الإيمان بالله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإيمان به واتباعه كاف ومغن عن أية آية مادية يريدونها، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.
(119) ولا تسأل: قرئ بالتاء للمجهول، ولا نافية والفعل مرفوع، وقرئ بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم.
(120)  ملتهم: بمعنى مللهم، إذ لكل كافر ملة، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أن الكفر ملة واحدة، وذهب أحمد في رواية له ومالك إلى أن الكفر ملل، ولذا فلا يرث اليهودي النصراني، ولا النصراني اليهودي، ولا المجوسي. إذ لكل ملة، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يتوارث أهل ملتين" ويبقى معنى الكفر ملة واحدة، أي: إنه ليس فيه فاضل، ومفضول.
روي أن أحمد استدل على كفر من قال بخلق القرآن بهذه الآية: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وهو القرآن. فمن قال بخلق القرآن، قال بخلق علم الله تعالى. وهو كفر صريح.
من ولي ولا نصير: الولي من يتولاك ويكفيك أمرك، والنصير من ينصرك ويدفع عنك الأذي.
يتلونه حق تلاوته: لا يحرفون كلمه عن مواضعه ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره.
من هداية الأية : من يوالي اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولاية الله تعالى ويحرم نصرته.
طريق الهداية في تلاوة كتاب الله حق تلاوته بأن يجوده قراءة ويتدبره هداية ويؤمن بحكمه ومتشابهه، ويحلل حلاله ويحرم حرامه، ويقيم حدوده كما يقيم حروفه.
(122) إسرائيل: لقب يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
(123) العدل: الفداء.
يلاحظ تقديم الشفاعة في النداء الثاني على أخذ العدل وتأخير الشفاعة في هذا النداء وتقديم العدل وما هو إلا تفنن في الأسلوب إذهاباً للسآمة. وهذا شأن الكلام البليغ.

الربع الثامن : من الأية 124 : الأية 141

من قوله تعالى : وإذا إبتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن : إلى قوله تعالى : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون : 141

(124) الكلمات: جمع كلمة، وهي اللفظ المفرد، وتطلق على الكلام أيضاً، والمراد بها هنا كلمات تحمل الأوامر التكليفية، ومن أبرزها ما يلي: كسر الأصنام، والهجرة، وذبح إسماعيل، وبناء البيت العتيق، والختان، والصلاة، والزكاة، وخصال الفطرة، والصدق، والصبر، وبالجملة: فقد نهض إبراهيم بكل ما عاهد إليه ربه بالقيام به من الشرائع، فلذا أكرمه بالإمامة وشرفه بها.
ابتلى: اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه.
بكلمات: متضمنة أوامر ونواهي.
أتمهن: قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها.
إماماً: قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.
الظالمين: الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.
بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكذا المشركين في الآيات السابقة لهذه الآية، أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بما كلفه من أوامر ونواهي، فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام، وهو أنه جعله إماماً للناس، ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه الوثنيين، وتحطيم أوثانهم، والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قرباناً لله، وبناء البيت، وحجة الدعوة إليه مما استحق به الإمامة للناس كافة، وفي هذا تبكيت للفرق الثلاثة: العرب المشركين، واليهود، والنصارى. إذ كلهم يدعي انتماءه لإبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم مشركون، عادل وهم ظالمون، مُتبع للوحي الإلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون، وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته ، كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها فهي لا تكون إلا في أهل الخير والعدل والرحمة لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين العتاة.
الذرية: مأخوذ من ذرأ الله الخلق درأً، أي: خلقهم والجمع: ذراري.
(125) البيت: الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.
مثابة: مرجعاً يثوب إليه العمار والحجاج.
أمناً: مكاناً آمناً يأمن فيه كل من دخله
مقام إبراهيم: الحجر الذي كان قد قام عليه إبراهيم أيام كان يبني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران، فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.
تطهير البيت: تنزيه عن الأقذار الحسية؛ كالدماء والأبوال. ومعنوية؛ كالشرك والبدع والمفاسد.
ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معاً بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام، ومآثره الطيبة الحميدة، ومواقفه الإيمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذباً وزوراً، إذ هو موحد وهم مشركون، وهو مؤمن وهم كافرون، فقال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس يثوبون إليه في كل زمان حجاجاً وعماراً، وأمناً دائماً من دخله، أمن على نفسه وماله وعرض. وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فكان من سنة من طاف بالبيت أن يصلي خلف المقام ركعتين، كما أوصينا من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من كل رجز معنوياً؛ كالأصنام وعبادة غير الله تعالى، أو حسياً؛ كالأقذار والأوساخ من دم أو بول حتى يتمكن الطائفون والعاكفون والمصلون من آداء هذه العبادات بلا أي أذى يلحقهم أو يضايقهم.
العكوف: ملازمة المسجد للصلاة والعبادة، والعاكفون الملازمون للمسجد الحرام من ساكن مكة وغريب.
(126) تضمنت الأية أمر الله تعالى لرسوله أن يذكر دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل بلداً آمنا من دخله يأمن فيه على نفسه وماله وعرضه، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا إن الكافرين لا يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث يلجئهم تعالى مضطراً لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه -وهو النار- من مصير.
هل كانت مكة حراماً قبل دعوة إبراهيم أو بعد دعوته خلاف، ويشهد لقولها ما كانت حراماً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها.." الحديث في مسلم.
الكافر لا يحرم الرزق لكفره بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم.
مصير من مات كافراً إلى النار، لا محالة، والموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئاً.
(127) وإذ: ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره: أذكر وقت كذا وكذا.
من هداية الأية : فضل الإسهام بالنفس في بناء المساجد
وفي الحديث الصحيح: "من بنى لله مسجداً بنى الله له قصراً في الجنة".
(128) أرنا مناسكنا: علمنا كيف نحج بيتك، تمسكاً وتعبداً لك.
(129) الحكمة: السنة وأسرار الشرع والإصابة في الأمور كلها.
يزكيهم: يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.
العزيز الحكيم: العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.
(130) الاصطفاء: مأخوذ من الصفوة، وهو تخير الأصفى: أي الأكثر صفاء، واصطفى: قلبت فيه التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، إذ الأصل: اصطفى، أي: طلب الصفوة.
إلا من سفه نفسه: لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإسلام إلا عبد جهل قدر نفسه فأزلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها، وهي: الإسلام.
سفه نفسه: استخف بقدرها جهلاً به. ولذا نصب نفسه لتضمن سفه معنى جهل.
من هداية الأية : لا يرغب عن الإسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.
(132) وصى وأوصى، بمعنى: عهد إليه بكذا، والموصى به هنا هو كلمة: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وذلك بعبادته وحده بما شرع بعد خلع الأنداد. وذي: هي ملة إبراهيم.
في قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إيجاز بليغ، إذ معناه: الزموا الإسلام ودموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا. وجملة: {وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في محل نصب على الحال، والمعنى: مطيعون خاضعون.
(133) أم: بمعنى: بل. والهمزة هي التي للاستفهام الإنكاري وتقدير الكلام: بل أكنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت فوصى بنيه. يوبخهم على كذبهم وينكر عليهم.
يوبخ تعالى اليهود القائلين كذباً وزوراً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، فقال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أي: كنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهماً إياهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ؟ فأجابوه بلسان واحد: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا، وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وثبت أنه وصاهم بالإسلام لا باليهودية.
من هداية الأية : الإسلام دين البشرية جمعاء، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.
الإسلام هو ملة سائر الأنبياء، وأن تنوعت أنواع التكليف عندهم، واختلفت مناهج العمل بينهم، إذ الإسلام هو انقياد لله وخضوع، ولذا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد".
استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإسلام حتى الموت عليه.
(134) ينهى تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} يعني إبراهيم وأولاده- لها ما كسبت من الإيمان وصالح الأعمال، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم وتجزون بها، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في أخرتكم وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، ولا يتم لكم هذا إلا بالإسلام، فاسلموا.
من هداية الأية : كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال: اليهود قوم بهت.
(135) حنيفاً: مستقيماً على دين الله موحداً فيه لا يشرك بالله شيئاً.
أصل الحنف: الميل ومنه قولهم: رجل أحنف أي: مائل القدمين إلى بعضهما بعضاً، قالت أم الأحنف: والله لولا الحنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله. ولما مال إبراهيم عن أديان الشرك إلى دين التوحيد قيل فيه: حنيف، وصار بمعنى مستقيم، إذ هو على منهج الحق، وغيره على الباطل.
(136) الأسباط: أولاد يعقوب عليهم السلام وهم: اثنا عشر ولداً: يوسف وبنيامين وبوذا ولكل واحد منهم أمة من الناس. الواحد: سبط والجمع: أسباط، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيبلة، وفي ولد إسماعيل عليه السلام، وسموا الأسباط من السبط، وهو: التتابع لأنهم متتابعون.
(137) في شقاق: خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.
(138) صبغة الله: دينه الذي طهرنا به ظاهراً وباطناً فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام فقد قال اليهود للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. كونوا يهوداً تهتدوا إلى الحق، وقالت النصارى من وفد نجران، كذلك كونوا نصارى تهتدوا. فحكى الله تعالى قولهم، وعلم رسوله أن يقول لهم لا تتبع يهودية ولا نصرانية بل تتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال.
(140) شهادة عنده من الله: المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ظهوره.
الغافل: من لا يتفطن للأمور لعدم مبالاته بها.
يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول والمؤمنين، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، فعلّم الله رسوله كيف يرد عليهم منكراً عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده كانوا هوداً أو نصارى، إذ قال له: قل لهم: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ؟} فإن قالوا نحن أعلم، كفروا، وإن قالوا الله أعلم انقطعوا؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبداً يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا مسلمين، ثم هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم نعوت الرسول والأمر بالإيمان به عند ظهوره فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

قال ابن كثير، عن الحسن البصري: إن أهل الكتاب كانوا يقراءون في كتاب الله الذي آتاهم: إن الدين الإسلام وإن محمداً رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
من هداية الأية : اليهودية والنصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.

الربع التاسع : من الأية 142 : الأية 157

من قوله تعالى سيقول السفهاء من النساء ما ولاهم عن قبلتهم ، إلى قوله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون : 157

(142) السفهاء: جمع سفيه، وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خُلق وسوء سلوك.
ما ولاهم: ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة.
القبلة: الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.
هذا إخبار بما سيقوله السفهاء من المنافقين واليهود والمشركين قبل أن يقوله، وفائدته، أولاً: تقرير النبوة المحمدية، إذ هذا إخبار بالغيب فكان كما أخبر، وثانياً: توطين نفس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين به حتى لا يضرهم عند سماعه من السفهاء، لأن مفاجأة المكروه أليمة شديدة، فإن ذهبت المفاجأة هان الأمر، وخف الألم، وهذا من باب "قبل الرمي يراش السهم". ومناسبة الآيات لما قبلها استمرار الحجاج إلى أنه كان في الأصول وأصبح في الفروع.
من هداية الأية : الأراجيف وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة، فعلى المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزوا حتى يظهر الباطل وينكشف والزيف وتنتهي الفتنة.
(143) أمة وسطاً: وسط كل شيء خياره، والمراد منه أن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأمم وأعدلها.
ينقلب على عقبيه: يرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
لكبيرة: شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهاد كبير، وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.
إيمانكم: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} خياراً عدولاً أي: كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم، وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به4 عليم. ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُول} فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجازي السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة على النفس إلا على الذين هداهم الله إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة إلى قبلة، ما دام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.
وأخيراً طمأنهم تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهراً لا يُضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حي حتى صلى إلى الكعبة، وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.
وقد صلى المؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس من قبل تحويل الله تعالى القبلة بهذه الآيات التي نزلت في شانها. وروى مالك أن تحويل القبلة كان قبل غزوة بدر بشهرين.
من هداية الأية :  في هذه الآية دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لعدالة الأمة بشهادة ربها، فإذا أجمعت على أمر وجب الحكم به، وفي أي عصر من العصور إلى قيام الساعة.
ومن هذا التكريم (لإمة المصطفى صلى الله عليه وسلم) أنهم إذا شهدوا على أحدهم بالخير وجبت له الجنة لحديث الصحيح: "مرت جنازة فأثنى عليها خير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجبت وجبت وجبت" الحديث فسأل فقال: "من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
من هداية الأية : جواز النسخ في الإسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة المكرمة.
من هداية الأية :  صحة صلاة من صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه إعادتها ولو صلى شهوراً إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أداه اجتهاده.
روى البخارى في سبب نزول هذه الآية أن البراء قال: صلينا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ثم علم الله هوى نبيه، أي: حبه، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية.
(144) تقلب وجهك في السماء: تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي.
الشطر: هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام، لأن الشطر لغة: النصف أو الجزء مطلقاً.
اختلف في أول صلاة صلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون إلى الكعبة، فقيل: الظهر، وقيل: العصر، ولم يرجح أحد القولين، وقيل: كانت صلاة الظهر في مسجد بني سلمة، المعروف بمسجد القبلتين حتى صلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس وبعضها إلى الكعبة، فسمي لذلك مسجد القبلتين.
اختلف في: هل الغائب عن البيت الحرام يصلى إلى عين الكعبة أو إلى جهتها. الصواب أنه يصلي إلى جهة الكعبة ناوياً استقبال البيت، لأن استقبال عين الكعبة معتذر على غير الموجود في المسجد الحرام، أما في المسجد الحرام فلا تصح صلاته إن لم يستقبل عين الكعبة.
يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلب وجهه في السماء انتظاراً لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود لقبلة أبيه إبراهيم، إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ1الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، وبهذا المر الإلهي تحولت القبلة، وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان بالمدينة، قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} أي: في نواحي البلاد وأقطار الأرض {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي شطر المسجد الحرام، كما أخبر تعالى في هذه الآية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة، فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغاف عما يعملونه.
الشطر: لغة: النصف ومنه الحديث: "الطهور شطر الإيمان"، والشاطر من الناس: من أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثاً، وهو من بعُد عن طاعة الله ورسوله أيضاً.
من هداية الأية : وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه إلى جهة مكة.
روي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي".
(145) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أتى اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه أو حقيقة القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك وصلوا إلى قبلته، كما إن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، كما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين لم يكونوا أبداً ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم.
قلت في التفسير: لو أتى اليهود إلخ: لأن لئن في الآية بمعنى لو، لأنها أجيبت بجواب لو، وهو المضي والوقوع، إذ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} ، فقوله: {مَا تَبِعُوا} جواب لئن، والمفروض فيها أن يجاب بالمضارع.
(146) يعرفونه: الضمير عائد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.
(147) من الممترين: الشاكين والامتراء: الشك وعدم التصديق.
(148) الوجهة: من المواجهة وهي الجهة والوجه كلها بمعنى واحد، ومفعول موليها محذوف أي وجهة، أو يكون موليها بمعنى متوليها وحينئذ فلا حذف ولا تقدير.
اختلف في الجهة التي كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقبلها في مكة قبل الهجرة، والراجح أنه كان يجعل الكعبة أمامه وهو متجه إلى الشام، بمعنى أنه يصلي بين الركنين اليمانيين، ولما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس حتى حول إلى الكعبة، وهل كان استقباله بيت المقدس باجتهاد منه أو بوحي، الظاهر أنه باجتهاد منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكلٍ وجهة هو موليها: التنوين في (كل) دال على محذوف، هو لكل أهل ملة؛ كالإسلام، واليهودية، والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلاتهم.
من هداية الأية : الإعراض عن جدل المعاندين، والإقبال على الطاعات تنافساً فيها وتسابقاً إليها إذ هو أنفع وأجدى من الجدل والخصومات مع من لا يرجى رجوعه إلى الحق.
(150)  قال ابن كثير والقرطبي: قبلة: استدل مالك بقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما هو مذهب الجمهور، أبي حنيفة والشافعي وأحمد والذي أراه يحقق المطلوب من الآية هو أن ينظر المصلي أولاً أمامه امتثالاً لأمر الله تعالى، ثم بعد ذلك ينظر إلى موضع سجوده.
الحجة: الدليل القوي الذي يظهر صاحبه على من يخاصمه.
يأمر الله تعالى  رسوله والمؤمنين بأن يولوا وجههم شطر المسجد الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى لا يكون لأعدائهم من اليهود والمشركين حجة، إذ يقول اليهود: ينكرون ديننا ويستقبلون قبلتنا، ويقول المشركون: يدعون إنهم على ملة إبراهيم ويخالفون قبلته. هذا بالنسبة للمعتدلين منهم، أما الظالمون والمكابرون فإنه لا سبيل إلى إقناعهم إذ قالوا بالفعل: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إليه، فمثل هؤلاء ولا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم كما قال تعالى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} . فاثبتوا على قبلتكم الحق لأتم نعمتي عليم بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها، ولأهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت عليكم بإرسال رسولي، يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من أمور الدين والدنيا معاً.
من هداية الأية :  حرمة خشية الناس ووجوب خشية الله تعالى.
وفى في هذا إبطال للتقية التي جعلها الروافض من أصول دينهم.
(152) أصل الذكر يكون بالقلب، ولما كان القلب باطناً جعل اللفظ باللسان دليلاً عليه، فأصبح الذكر يطلق على ذكر اللسان وإن كان المطلوب هما معاً أي ذكر القلب واللسان، والجملة أمر وجواب: فاذكروني أمر، وأذكركم جواب وجزاء، وذكر الله للعبد أعظم، وقد ورد في فضل الذكر الكثير من الأحاديث منها: حديث ابن ماجة ونصه: "أن رجلاً قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله".
(153) الاستعانة: طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.
الصبر: حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
(154) الشعور: الإحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.
تضمنت الأية نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين أن من قتل في سبيل الله إذ هو حي في البرزخ وليس بميت، بل هو حي يرزق في الجنة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش". (رواه مسلم) . فلذا لا يقال لمن قتل في سبيل الله: مات1 ولكن استشهد وهو شهيد وحي عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها بمفارقتها للحياة في هذه الدار.
لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات، بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنما انتقل من حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة، كما أن لفظ الموت مفزع للإنسان فإذا دارت المعركة وسقط الشهداء، وقيل: مات فلان وفلان يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة: الموت، ولذا لا يقال: مات، ولكن: استشهد.
(155) الابتلاء: الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
الأموال: جمع مال وقد يكون ناطقاً وهو المواشي، ويكون صامتاً وهو النقدان وغيرها.
لفظ شيء يدل على تهويل الفاجعة الدال عليها الخوف والجوع وما بعدهما كما يدل أيضاً على أن ما يبتليهم به من ذلك هو هين فلا يقاس بما يصيب به أهل عداوته من أهل الشرك والكفر والفسق إذا أخذهم بذنوبهم.
أسند التبشير إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه متأهل له بالرسالة فغيره لا يملكه، وقد لا يصدق فيه، كما أن اللفظ دال على سمو مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقسم تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف بواسطة أعداءه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب، وبنقص الأموال الماشية للحرب والقحط، وبالأنفس؛ كموت الرجال، وبفساد الثمار بالجوائح، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره، ثم أمره رسوله بأن يبشر الصابرين.
من فسر الخوف بالخوف من الله، والجوع: بالصيام، ونقص من الأموال: بالزكاة لم يخطأ، ولكن ما فسرت به الآية هو الصواب الحق الذي عليه أئمة التفسير.
(156) المصيبة: ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
(157) الصلوات: جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
ورحمة: الرحمة: الإنعام وهو جلب ما يسر، ودفع ما يضر، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.
المهتدون: إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.

الربع العاشر : من الأية 158 : 177

من قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله : إلى قوله تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا فى الكتاب لفى شقاق بعيد

(158)الصفا والمروة: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية، والمروة: جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (760) ذراعاً.
شعائر الله: أعلام دينية جمع شعيرة، وهي العلامة على عبادة الله تعالى، فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.
الحج: زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً.
العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
الجناح: الإثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه.
يطوف: يسعى بينهما ذاهباً جائياً.
خيراً: الخير: اسم لكل ما يجلب المسرة، ويدفع المضرة، والمراد به هنا العمل الصالح.
أخرج البخاري عن عاصم ابن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
الصفا: لغة: جمع صفاه، وتجمع على: صفي وأصفاء، مثل: أرجاء: الحجارة الملساء الصلبة البيضاء. والمروة: واحدة المرور وهي الحجارة الصغار التي فيها لين.
الحج: لغة: القصد، والعمرة: الزيارة
يخبر الله تعالى مقرراً فريضة السعي بين الصفا والمروة، ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وآخر على المروة يقال له: نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة، فقال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} يعني السعي بينهما من شعائر الله: أي عبادة من عبادته إذ تعبد بالسعي بينهما نبينه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء فريضة الحج أو اعتمر لأداء واجب العمرة فليسعى بينهما أداءً لركن الحج والعمرة ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين: إساف ونائلة.
السعي: ركن الحج عند مالك، وأحمد والشافعي ولم يره ركناً أبو حنيفة، وما ذهب إليه الجمهور هو الذي يؤخذ به لحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"، وكتب بمعنى: فرض لغة، وشرعاً.
من هداية الأية : وجوب السعي بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"
من ترك السعي وسافر، يعود إليه محرماً فيطوف بالبيت ويسعى بحكم أنه فرض وركن، ومن قال بوجوبه دون ركنيته يجزئه ذبح شاة.
وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من باب الصفا بعد أن طاف بالبيت وهو يقول: "إن الصفا والمرة من شعائر الله" ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به " فدل هذا على وجوب البدء في السعي بالصفا قبل المروة، ودل فعلة صلى الله علية وسلم على أن السعى سبعة اشواط لاينقص ولايزيد.
من هداية الأية :  لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجداً، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار.
(159) يكتمون: يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشيء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به.
البينات: جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته، والمراد به هنا ما يثبت نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب.
الهدى: ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه والمراد به هنا ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدين الصحيح المفضي بالأخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.
الكتمان يكون بإلغاء الحفظ المقرر، وإلغاء التدريس والتعليم للواجب بيانه وتعليمه والدعوة إليه.
عاد الساق بعد الإجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب، ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والإيمان به فأخبره تعالى أن الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى في التوراة والإنجيل من صفات الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر بالإيمان به وبما جاء به من الدين، هؤلاء البعداء يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة والمؤمنون.
هل يجوز لعن المؤمن العاصي المعين؟ لا يجوز لعن المؤمن العاصي المعين وذلك للحديث الصحيح: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم"، إذ لعنوا مؤمناً حال إقامة الحد عليه؛ حد شرب الخمر.
من هداية الأية :  حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار". وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة: "لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً" وتلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إلخ ...
(160) من هداية الأية : ( يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغيره، وإظهار ما كتم، وأداء ما أخذه بغير الحق.
(161) من هداية الأية :  من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.
جواز لعن المجاهرين بالمعاصي؛ كشراب الخمر، والمرابين، والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال.
(163) لم يرد في القرآن لفظ الإله إلا الله سبحانه وتعالى، وأما إله بالتنكير فكثير.
وإلهكم إله واحد: في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو وفي ألوهيته أي في عبادته فلا معبود بحق سواه.
(164) اختلاف الليل والنهار: بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث لا يكون النهار دائماً ولا الليل دائماً.
وبث فيها من كل دابة: وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب.
تصريف الرياح: باختلاف مهابها مرة صبا، ومرة دبور، ومرة شمالية، ومرة غربية، أو مرة ملقحة، ومرة عقيم.
جمع لفظ: السموات؛ لأنها أجسام متباينة، وأفرد لفظ الأرض؛ لأنها نوع واحد من تراب طبقة فوق أخرى.
ففي هذه الآيات الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته، وهو لذلك رب العالمين وإله الأولين والآخرين ولا رب غيره، ولا إله سواه.
من هداية الأية الآيات الكونية في السموات والأرض تثبت وجود الله تعالى رباً وإلهاً موصوفاً بكل كمال منزهاً عن كل نقصان.
الآيات التنزيلية القرآنية تثبت وجود الله رباً وإليهاً وتثبت النبوة المحمدية وتقرر رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الانتفاع بالآيات مطلقاً -آيات الكتاب أو آيات الكون- خاص بمن يستعملون عقولهم دون أوهوائهم
نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سب الريح، فقد روى ابن ماجة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تسبوا الريح فإنها من روح الله، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها".
سمي السحاب: سحاباً لأنه يسحب من موضع إلى آخر، أي من بلد إلى بلد آخر.
في بعض تلبية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لبيك إله الحق لبيك".
الآيات الكونية: هي المنسوبة إلى الكون الذي هو الخلق الذي كونه الله تعالى فكان وذلك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات والآيات التنزيلية هي المنسوبة إلى القرآن المنزل من الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(165) أنداداً: جمع ند، وهو المثل والنظير، والمراد بالأنداد هنا: الشركاء يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات؛ كالدعاء والنذر لها والحلف بها.
الحب: حبان: حب عبادة، وهذا لا يكون إلا لله تعالى. وحب غريزة؛ كحب الطعام والشراب، وسائر الملاذ، فهذا يجب القصد فيه وعدم الإفراط فقط، وخير الحب ما كان لأجل الله تعالى.
(166) التبرؤ: التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه.
الذين اتبعوا: المعبودون والرؤساء المضلون.
الذين اتبعوا: المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال.
الأسباب: جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد وغرض خاص.
(167) كرة: رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا.
الحسرات: جمع حسرة وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل.
من هداية الأية :  يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه.
(168) الحلال: ما انحلت عقدة الحظر عنه وهو ما أذن الله تعالى فيه.
الطيب: ما كان طاهراً غير نجس، ولا مستقذر تعافه النفوس.
خطوات الشيطان: الخطوات: جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي، والمراد بها هنا: مسالك الشيطان، وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.
(169) السوء: كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.
الفحشاء: كل خصلة قبيحة؛ كالزنا، واللواط، والبخل، وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.
ألفينا: وجدنا.
لفظ الفحشاء: لم يطلق في القرآن إلا على فاحشة واللواط، اللهم إلا في آية واحدة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ، فإن الفحشاء هنا بمعنى: البخل، بمنع الزكاة.
قيل: السوء ما لا حد فيه من الذنوب، والفحشاء ما فيه حد.
أصل الفحشاء: قبح المنظر وعليه قول الشاعر: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش. ثم توسع فيه فأصبح يطلق على ما قبح من المعاني.
(171) مثل: المثل: الصفة والحال.
ينعق: يصيح: والاسم النعيق وهو الصياح ورفع الصوت.
الدعاء: طلب القريب؛ كدعاء المؤمن ربه: يارب. يارب.
النداء: طلب البعيد؛ كأذان الصلاة.
الصم: جمع أصم فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.
البكم: جمع أبكم فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.
لا يعقلون: لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم، وهي العقل.
لما نددت الآية قبل هذه (170) بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطيقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا؛ كالشياه من الغنم يسوقها راعيها، حيث شاء فإذا نعق بها داعياً لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم نوديت، إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد3 الطويل والاتباع بدون دليل.
فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلال كمثل غنم1 ينعق بها راعيها فهو إذا صاح فيها داعياً لها أو منادياً لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت لفقدها العق. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي نعق إلخ....
يقال: نعق الغراب، ونغق بالغين، ونعق، نعق إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بمعناه، فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح، قيل فيه نعب.
النعيق: دعاء الراعي، وتصويته للغنم، وعليه قول الشاعر:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالاً
وهناك معنى آخر للآية قاله الطبري: وهو أن المراد مثل الكافرين في دعاؤهم آلهتهم؛ كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه وما فسرناه به أصح وأمثل.
من هداية الأية :  حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع.
(172) أخرج مسلم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا آيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ..} الآية. ثم ذكر الرجل يطيل الرجل، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟! ".
وما أهل به لغير الله: الإهلال: رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.
(173) غير باغ ولا عاد: الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي المعتدي المجاوز لما له إلى ما ليس له.
الإثم: أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.
من هداية الأية :  حرمة أكل الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.
جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} .
أذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكل السمك والجراد وهما من الميتة، وحرم أكل كل ذي ناب4 من السباع وذي مخلب من الطيور.
 للحديث الصحيح: "أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال".
لحديث صحيح: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور".
هذه أصول المحرمات الأربعة، وأما المختنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فهي متفرعة عن تلك الأصول وهي مذكورة في أول المائدة.
من وجد طعام لا تقطع فيه يد يأكله ولا يأكل من الميتة بإذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمحتاج أن يأكل من الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة بغية غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"، وقوله من: أي من الثمر المعلق، إذ سئل عنه فقال.. إلخ.
(174) لا يكلمهم الله: لسخطه عليهم ولعنه لهم.
لا يكلمهم كلام تشريف وتكريم كما يكلم أولياؤه الصالحين. أما ما كان من كلام وتحقير نحو: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} ، فلا يدخل في هذا النفي. والله أعلم.
ولا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عليهم.
الشقاق: التنازع والعداء حتى يكون صاحبه في شق، ومنازعة في آخر.
هذه الآيات الثلاث : الأية 174 وما بعدها نزلت قطعاً في أحبار أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس من الدنيا يجحدون أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه إرضاء للعوام حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعدتهم المالية، وحتى يبقى لهم السلطان الروحي عليهم، فهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} ، وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار إذ هو مسببها ومع النار غضب الجبار فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم، غيروا صفته وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان حتى لا يتبع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويشترون به ثمناً قليلاً : وهو أيضاً الرشوة التي يأخذها القاضي والمفتي والعياذ بالله.
(175) يخبر الله تعالى أنهم  وهم البعداء اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله، وعلى التقحم في النار، فلذا قال تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ4 عَلَى النَّارِ} . وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء الكفرة؛ لأن الله نزل الكتاب بالحق مبيناً فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم ومبيناً سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب الله وأليم عذابه.
فما أصبرهم على النار : هذا تعجب للمؤمنين من حالهم.
 (176) أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى1 لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم، ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به فتركوه وأخذوا بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد.

الربع الحادى عشر : من الأية 177 : الأية 188

من قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ... (177) إلى قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .... (188)

(177) البر: اسمُ جامع لكل خير وطاعة لله ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأتى المال على حبه: أعطى المال حيث تعين اعطاؤه مع شدة حبه له فآثر ما يحب الله على ما يحب.
(قوله أعطى المال على حبه) فيه دليل على أن في المال حقاً غير الزكاة وشاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن في المال حقاً سوى الزكاة" رواه ابن ماجة والترمذي.
{لَيْسَ الْبِرَّ} كل البر {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات
هذه الآية: {ليَسَ اَلْبِر} ... إلخ. آية عظيمة تضمنت قواعد الشرع وأمهات الأحكام لم تضمن آية غيرها ما تضمنته هي، إذ تضمنت أركان الإيمان وقاعدتي الإسلام؛ الصلاة والزكاة، والجهاد والصبر، والوفاء، والتقوى والإنفاق العام والخاص.
أركان الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب في الآية الكتب.
أركان الإيمان: ستة: جاءت في حديث جبريل الذي رواه مسلم وهي: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر تؤمن والقدر خيره وشره"، ولم يذكر القدر في الآية؛ لأن الكتاب دال عليه.
إن أل: التي في الكتاب للجنس، والجنس تحته أفراد كالإنسان، أفراده كثيرون، والكتب المطلوب الإيمان بها هي: كل ما أنزل من كناب وأعظمها: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم عليه السلام.
(178) كتب عليكم القصاص
: كتب: فرض، والقصاص: إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف.
في القتلى: الفاء سببية، أي بسبب القتل، والقتلى: جمع قتيل وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة.
قيل: كتب هنا: هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ولا منافاة بين ما شرع وفرض علينا في القرآن والسنة، وما كتب في كتاب المقادير إذا الكل سبق به علم الله وأراده فكان كما أراد.
القصاص: مأخوذ من قص الأثر إذا تتبعه، ومنهم: قاص؛ لأنه يتتبع الأخبار والآثار والقاتل؛ كأنه سلك طريقاً فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك.
فمن عفي له من أخيه شيء: فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو.
فاتباع بمعروف: فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين.
وأداء إليه بإحسان: وأن يكون أداء الدية بإحسان خالياً من المماطلة والنقص.
ذلك تخفيف من ربكم: أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلاً من القصاص تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط، وأنتم مخبرون بين العفو والدية والقصاص.
فمن اعتدى بعد ذلك: يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير.
القصاص: المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضاً.
(179) حياة: إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل، يذكر أنه سيقتل فيترك القتل فيحيا، ويحيا من أراد قتله، ويحيا بحياتهما خلق كثير وعدد كبير.
أولي الألباب: أصحاب العقول الراجحة، واحد الألباب: لبٌ: وهو في الإنسان العقل.
لعلكم تتقون: ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة.
اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال مالك والشافعي، وكثير من العلماء هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة، وقال آخرون عذابه أن يقتل ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام.
ذحل الجاهلية: ثأر الجاهلية وعاداتها، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة، رجل قتل غير فاتلة، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية".
هذه الآية نزلت في حين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر، فلذا يقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه الآية تبطل ذحل الجاهلية وتقرر مبدأ العدل المساواة في الإسلام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} ، فلا يقتل بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان ولا بالعبد حر ولا عبدان.
فمن تنازل له أخوه وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقاً فليتبع ذلك ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو، وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منه شيئاً.
ثم ذكر تعالى منته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيراً بين ثلاثة: العفو، أو الدية، أو القود "القصاص" في حين أن اليهود كان مفروضاً عليهم القصاص فقط، والنصارى الدية فقط، وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القصة، وهو أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل فقال: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا، أو هو عذاب الآخرة، ومن هنا قال مالك والشافعي: حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء إن عفي عنه قبل، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى، وقال آخرون: ترد منه الدية ويترك لأمر الله، وقال عمر بن العزيز -رحمه الله-: يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه يحقق المصلحة العامة. ثم أخبر تعالى: أن في القصاص الذي شرع لنا، وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء، فقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
الجمهور على أن الجماعة تقتل بالواحد، وذلك إذا باشروا القتل فقتلوا لقول عمر رضي الله عنه في قتل غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم ولم يخالفه أحد فكان إجماعاً.
ذهب بعض إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة وحالفهم الجمهور لآية المائددة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية.
أخوة: أي في الإسلام إذ لا يقتل المسلم بالذمي، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقتل مسلم بكافر"، وهو مذهب الجمهور، وذلك لعدم تكافؤا الدمين".
اختلف في هل يقتل الرجل بولده فذهب الجمهور إلى عدم قتله به، وذهب مالك إلى أنه إذا أضجعه يقتل به، فإذا رماه بحجر أو بعصا أو بأي سبب فيه شبهة إنه لم يرد قتله فلا يقتل به لحديث: " إدرأوا الحدود بالشبهات".
بلاغة القرآن الكريم، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل، فقال القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظاً وواقعاً.
اختلف في أخذ الدية من قاتل العمد فقال الجمهور: ولي الدم يخير بين أخذ الدية والقصاص، ولا خيار للقاتل، فلو قال: اقتصوا مني ليس له ذلك بل هو لولي الدم لأنه مخير بين ثلاثة.
(180) كتب: فرض وأثبت.
خيراً: مالاً نقداً، أو عرضاً، أو عقاراً.
الوصية: الوصية ما يوصى به من مال وغيره.
هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} إلخ. تسمى آية الوصية وذكر الفعل والوصية مؤنثة لأحد أمرين: الأول: الفصل بين الفعل والفاعل، والثاني: ما لا فرج له يذكر ويؤنث.
المراد من الموت هنا: أسبابه، إذا العرب إذا أحضر السبب كنت به عن المسبب، قال جرير في مهاجاته الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه ... فليس لهارب مني نجاة
فكنى بنفسه عن الموت، إذ هو سبب مجيئه في نظره وزعمه.
يقول الله تعالى لعباده المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص أو غيره أو بدل نوعاً بآخر فلا إثم على الموصي ولكن الإثم على من بدل وغير، وختم هذا الحكم بقوله: أن الله سميع عليم، تهديداً ووعيداً لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء،
(182) جنفاً أو إثماً: الجنف: الميل عن الحق خطأ، والإثم: تعمد الخروج عن الحق والعدل.
بمناسبة ذكر آية القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل، والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله، ذكر تعالى آية الوصية هنا فقال تعالى: كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالاً الوصية، أي: الإيصاء للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث، ويقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلا وصية لوارث" ، ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثاً فأقل، فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدارقطني لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة، ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديوناً لازمة، وحقوقاً واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"،
أخبر تعالى أن من خاف من موص جنفاً أو ميلاً عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إيماً على الموصى حيث جار وتعدى على علم في وصيته فأصلح بينهم، أي: بين الموصي والموصى لهم فلا إثم عليه في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط، وختم هذا الحكم بقوله: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعداً بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد.
نص الحديث: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". رواه أصحاب السنن وغيرهم، وهو صحيح الإسناد.
يجوز تبديل الوصية إذا كان فيها جور أو محرم لقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} .
(184) يطيقونه: أي: يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجأ برؤه.
فمن تطوع خيراً: أي: زاد على المُدّين أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له.
من هداية الأية  الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن.
(185) من هداية الأية :  رخصة الإفطار للمريض والمسافر.
المريض له حالتان. الأولى: أن يكون مرضه شديداً فهذا يجب عليه أن يفطر. والثانية: أن يكون مرضه غير شديد فيستحب له الفطر.
يعود الصائم الخشية من الله تعالى في السر والعلن.
كسر حدة الشهوة، ولذا أرشد العازب إلى الصوم. لحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه فإنه له وجاء" أي خصاء.
يذهب المواد المترسبة في البدن، وبذلك تتحسن صحة الصائم.
(185) {شَهْرُ رَمَضَانَ} : هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا جر جوفه من العطش4.
{هُدىً لِلنَّاسِ} : هادياً للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين.
{وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} : البينات: جمع بينة، والهدى: الإرشاد، والمراد أن القرآن نزل هادياً للناس ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة فارقاً لهم بين الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
شهد الشهر: حضر الإعلان عن رؤيته.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} : وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير، وصفته المشهورة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
اختلف في قبول شهادة الواحد في هلال رمضان، والذي عليه الأكثر وهو الأحوط للدين أن الواحد إذا كان عدلاً تقبل شهادته، هذا في الصام، أما في الإفطار وهو رؤية هلال شوال فلا بد من شاهدين اثنين.
إذا أسلم الكافر ليلاً وبلغ الصبي وجب عليهما الصيام من الغد، أما إذا أسلم الكافر وبلغ الغلام في نهار رمضان فإنه يستحب لهما الإمساك ولا يجب.
يكفي في بيان فضل رمضان قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". رواه مسلم، قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " في الصحيح.
(186) ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي قائلين: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} الآية، ومعنى المناجاة: المكالمة بخفض الصوت، والمناداة برفع الصوت، وإجابة الله دعوة عبده قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه. وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم بالإيمان به وبطاعته في أمره ونهيه، وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين الدنيا والآخرة.
من هداية الأية :  كراهية رفع الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان4 والإقامة.
دل على فضل الدعاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلق عليه لفظ العبادة، فقال: "الدعاء هو العبادة" رواه أبو داود، ومما يحرم الإجابة: أكل الحرام، والاستعجال. وأن يقول دعوت فلم يستجب لي، ذلك لحديث مسلم.
على الداعي أن يعزم في دعوته ولا يقل: اللهم أعطني كذا إن شئت، فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث البخاري: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فاعطني فإنه لا مستكره له".
يستحب الإسرار بالدعاء لقوله تعالى: {زكريَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} .
من الأوقات التي يرجى فيه استجابة الدعاء: ما بين الأذان والإقامة، والسحر، ووقت الفطر، وحال السفر، والمرض، وفي السجود، ودبر الصلوات، وعند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، فقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ويؤكده.
(187){الرَّفَثُ} : الجماع.
{لِبَاسٌ لَكُمْ} : كناية عن اختلاط بعضكم ببعض؛ كاختلاط الثوب بالبدن.
{تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} : بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله لكم ذلك.
{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} : اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة.
{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} : الفجر الكاذب وهو بياض يلوح في الأفق؛ كذنب السرحان.
روي في سبب نزول هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية أن عمر رضي الله عنه بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشكى إليه ما حدث له من وقاع أهله ليلاً، فأنزل الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} الآية.
ويحتمل اللفظ معاني أخرى مثل: ما أبيح لكم، وليلة القدر، والرخصة، والتوسعة.
لحديث مسلم: "لا يغرنكم من سحوركم آذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وأشار بيديه يعني معترضاً.
السرحان: الذئب.
{الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} : سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماماً.
{الْفَجْرِ} : انتشار الضوء أفقياً ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء الأفق كله.
{عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} : منقطعون إلى العبادة في المسجد تقرباً إلى الله تعالى.
{حُدُودُ اللهِ} : جمع حد وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركاً.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ} : أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة.
كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية. كأن الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناساً أتوا نسائهم وأخبروا ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، فقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي: الاختلاط بهن، إذ لا غنى للرجل عن امرأته ولا المرأة عن زوجها {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . يسترها وتستره؛ كالثوب يستر الجسم، وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلاً بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة أو المنع، فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم فقال تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} . وأعلن لهم عن الإباحة بقوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} . يريد من الولد، لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة بل للإنجاب والولد. وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم فلا يحل للرجل وهو معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته وإن فعل أثم وفسد اعتكافه وجب عليه قضاؤه. قال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها فقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة وهي بيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة ليعد بذلك المؤمنين للتقوى، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم. وقد فعل فله الحمد وله المنة.
الاعتكاف: ملازمة المسجد للعبادة وهو من سنن الإسلام فقد اعتكف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستحب أن يكون في العشر الأواخر من رمضان، وأقله يوم وليلة. ولا يصح إلا في المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة، ويفسده الجماع ويجب قضاؤه على من أفسده بجماع أهله.
استعمال الكتابة بدل التصريح فيما يتسحي من ذكره، حيث كنى بالمباشرة عن الوطء.
ثبت بالسنة: سنة السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر4.
لحديث مسلم: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور".
لحديث: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" رواه أحمد.
المباشرة: كناية عن الجماع: إذ البشرة تمس البشرة فيه.
يحرم الوصال: وهو صيام يومين فأكثر بلا إفطار لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم والوصال، إياكم الوصال، يحذر منه ". أخرجه البخاري.
 (188) تُدْلُوا: الإدلاء بالشيء، إلقاؤه، والمراد هنا: إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم.
{بِالأِثْمِ} : المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة أي الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق.و الباطل: لغة: الذاهب الزائل.
فى هذه الأية ذكر نوعاً هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أمال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها المرء كاذباً.
إن هذه الآية وإن نزلت في سبب خاص: وهو تخاصم عبدان ابن أشوع الحضرمي مع أمرؤ القيس الكندي، إذ ادعى الأول مالاً على الثاني، فأنكر وأراد أن يحلف، فنزلت فإنها عامة في أمة الإسلام قاطبة، فلا يحل أكل مال أمرء مسلم بغير حق، فيدخل فيه القمار والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق وكذا ما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، وذلك كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان بيع الخمر وغيرها.





الربع الثانى عشر : من الأية 189 : الأية 202

من قوله تعالى : يسئلونك عن الأهلة : إلى قوله تعالى : أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب



(189) جمع هلال: وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى من الشهر؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
المواقيت: جمع ميقات: الوقت المحدد المعلوم للناس.
روى أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلين: ما بال الهلال يبدوا دقيقاً، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم: هي مواقيت للناس، وعلة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق: هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء وتعرف الشهور، فنعرف رمضان ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبراً، فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ} . بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ومن هداية الأية
أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال عما لا يعنيه.
وشاهده في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
(190) {وَلا تَعْتَدُوا}: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال ومن اعتزل القتال.
(191){ثَقِفْتُمُوهُمْ} : تمكنتم من قتالهم.
{وَالْفِتْنَةُ} : الشرك
{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : المراد به مكة والحرم من حولها. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهي مقررة لحكم سابقاتها، إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون الدين كله لله فلا يعبد غيره، وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم، إذ لا عدوان إلا على الظالمين وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
قتال من قاتل المسلمين لا يسمى عدواناً إلا من باب المشاكلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، إذ الأولى حقاً سيئة، أما الثانية فإنها قصاص عادل وسميت سيئة مشاكلة في اللفظ.
(194) الآية (194) في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص
والحرمات: جمع حرمة، كالظلمات: جمع ظلمة، والحرمة: ما منع العبد من انتهاكه، والقصاص يمعنى المساواة هذه الآية لا خلاف بين العلماء في أنها أصل المماثلة في القصاص، فمن جرح جرح بمثل ما جرح، ومن قتل يقتل بمثل ما قتل به، اللهم إلا من قتل بزنا أو لواط فهذا قطعاً لا مماثلة فيه ولكن يقتل بالسيف.
لهذا الآية نظيرها وهو قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، وهي بالنسبة إلى الأمة قد نسخت بآيات الجهاد، أما بالنسبة للأفراد فالجمهور على أن الفرد لا يعاقب بنفسه ولكن بواسطة الحاكم، ولكن يرى بعضهم كالإمام الشافعي: أن الفرد إذا لم يتوصل إلى أخذ حقه إلا بالمعاقبة فلينظر إذا كان يمكنه أن يأخذ بقدر ما أخذ منه مساواة بلا زيادة فلا بأس أن يأخذ بشرط أن يأمن من نسبته إلى السرقة حتى لا يتعرض إلى إقامة الحد عليه.
(195) وأما الآية (195) فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا ولمقاتلين ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا. كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة وإحسان الأعمال إتقانها وتجويدها، وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم، فقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله.
(196){وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : فإتمامهما أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : الحصر والإحصار أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدو يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة.
ذهب مالك والشافعي إلى أن المحصر بمرض لا يحل له أن يتحلل بل عليه أن يبقى على إحرامه حتى يطوف ولو بعد عام، وذهب غيرهما إلى أن المريض الشديد المرض حكمه حكم المحصر بالعدو ينحر ويتحلل، وإن كان الحج فرضاً عليه القضاء، وإن كان نفلاً فلا قضاء عليه.
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير.
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} : لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدي فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب وأن يريدوا بهما الله تعالى، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامها، فالواجب عليهم أن يذبحوا ما تيسر لهم، فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضاً أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس، فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان من طعام، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعه وحذرهم من إهمال أمره والاستخفاف بشرعه فقال: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
المكي وساكن الحرم إن حصرا بمرض لا يحل لهما التحلل بذبح الهدي بل عليهما أن يحملا على نعش ويوقف بهما بعرفة ويطاف بهما وهما على النعش.
من هداية الأية الكريمة
بيان حكم الإحصار، وهو ذبح شاة من مكان الإحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.
الواجب على المحصر أن يذبح هدي في الحرم وإن عجز ذبحه في مكان الإحصار، وإن عجز ذبحه حيث أمكنه وإن لم يجده لفقر صام عشرة أيام بدله، والواجب أن لا يتحلل إلا بعد نحر الهدي إن كان ذلك في مقدوره، هذا أوسط المذاهب في هذه المسألة الشائكة الكثيرة الآراء.
بيان فدية الأذى: وهي أن من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام بأن حلق أو لبس مخيطاً أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
بيان حكم التمتع، وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقي في مكة وحج من عامه أن عليه ذبح شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
(197) {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} : هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
لو أحرم ليلة العاشر وهي ليلة العيد ووصل إلى عرفة ووقف بها قبل طلوع الفجر صح حجه.
{فَرَضَ} : نوى الحج وأحرم به.
يكره أن يحرم المسلم بالحج قبل أشهره، ولو أحرم صح إحرامه وعليه المضي فيه والأفضل له أن يتحلل بعمرة وإن بقى على إفراده كره له ذلك، وصح منه، هذا أرجح المذاهب في هذه المسألة.
{فَلا رَفَثَ} : الرفث: الجماع ومقدماته.
{وَلا فُسُوقَ} : الفسق والفسوق: الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.
الجدال: المخاصمة والمنازعة.
الجناح: الإثم.
(198){تَبْتَغُوا فَضْلاً} : تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج.
{أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} : الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.
{الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} : مزدلفة وذكر الله تعالى عندها: هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها وصلاة الصبح.
ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق والجدال حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره، وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال
أنه بتجنب هذه الثلاثة يكون حجه مبرور لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". قالت العلماء: الحج المبرور: الذي لم يعص الله تعالى فيه وحف بفعل الخيرات.
الجدال: مأخوذ من الجدال الذي هو الفتل للحبل ونحوه، فالمجادل يريد أن يفتل رأي من يجادله أي يثنيه عنه ويرده عليه.
(200) المناسك: جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة.
الخلاق: الحظ والنصيب.
يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة، واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات.
(201){حَسَنَةً} : حسنة الدنيا: كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال وحسنة الآخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين أن أنس بن مالك: قال كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} .


الربع الثالث عشر : واذكروا الله فى أيام معدودات .... 203

من قوله تعالى : وأذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا أثم عليه ومن تأخر فلا أثم عليه : 203 : إلى قوله : إن الذين أمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم : 218

(203) الأيام المعدودات: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
روى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر من أول الحجة.
في الآية  يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ألله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
لقد رخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق بلا خلاف.
قيل أن هذا التخيير ونفي الإثم على المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لأنه حذر متحرز من كل ما يريبه فرفع الإثم حتى لا يبقى في نفسه ما يؤلمه من التقديم والتأخير وهو وجه حسن للآية.
روى أحمد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله". وروى مسلم أيضاً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله".
(204){أَلَدُّ الْخِصَامِ} : فوي الخصومة شديدها، لذلاقة لسانه.
الألد: لغة الأعوج والمنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق، ولا يستقيم وفي الحديث: "إذ خاصم فجر".
من هداية الأية : 
التحذير من الاغترار بفصاحة وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص.
يشهد له حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن من الشعر لحكمة وأن من البيان لسحراً".
(205){الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} : الحرث: الزرع، والنسل: الحيوان.
(207){وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} رحيم بهم.
قيل: أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى: هو الأخنس بن شريق، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة (207) هو: صهيب بن سنان الرومي أبو يحي، إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه قالوا: لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد، فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله، فأعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة، ورآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: ربح البيع أبا يحي ربح البيع. والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.
(208){السِّلْم} : الإسلام.
روي أن حذيفة بن اليمان قال في هذه الآية: "الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر. وقد خاب من لا سهم له في الإسلام".
اختلف في تحديد معنى السلم في الآية، والراجح أنها بمعنى الإسلام ويكون الخطاب معنياً به بعض من آمن من أهل الكتاب وبقى متمسكاً ببعض شرائع التوراة؛ كتحريم يوم السبت، وتحريم شرب لبن الإبل، أمروا بالدخول في الإسلام كافة، أي: بقبول شرائعه كلها وترك شرائع غيره وتكون بمعنى الصلح وترك الحرب والتهارج ويكون الخطاب للمسلمين عامة بترك التهارج بينهم والتقاتل.
(209){فَإِنْ زَلَلْتُمْ} : وقعتم في الزلل وهو الفسق والمعاصي.
أصل الزلل: الزلق، وهو اضطراب القدم وتحركها في الموضع المراد إثباتها فيه، والمراد هنا عدم الثبات على طاعة الله ورسوله بفعل الأمر وترك النهي بتزيين الشيطان ذلك للعبد حتى يقع في الضرر.
من هداية الأيات
وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئلا يكون أمن من مكر الله.
إذ حصول الأمن لازمه الاستمرار على المعاصي وعدم التوبة، والله يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
(211) فسرت نعمة الله هنا: بالإسلام، وهو كذلك فإن الإسلام أكبر نعمة لما يجلبه من السعادة والكمال وما يدفعه من العقاب في الدارين.
جملة: {أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} خبرية متضمنة للوعيد ذيل بها الكلام، والعقاب من العقب كأن المعاقب يمشي بالمجازاة في أثار عقبه ليجزيه به.
(212) والله يرزق من يشاء بغير حساب  (212) الآية: ترغيب في طلب فضل الله تعالى وفي الحديث الصحيح: " يا ابن آدم أنفق أنفق عليك"، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، وفي الصحيح أيضاً: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
(213){كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} : كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة واحدة على الإسلام والتوحيد وذلك قبل قوم نوح.
أي الذين كانوا على الدين الحق وهم عشرة قرون من آدم إلى أن حدث فيهم الشرك، فبعث الله تعالى فيهم عبده الشكور نوحاً عليه السلام.
لفظ: الأمة: مأخوذ من أممت كذا إذا قصدته، فسميت الجماعة مقصدهم واحد أمة، وقد يطلق على الواحد أمة، إذ كان مقصده واحداً على خلاف غيره، ومنه قول الرسول صلى الله عيه وسلم في قس بن ساعدة: "يحشر يوم القيامة أمة وحده".
{النَّبِيِّينَ} : جمع نبي والمراد بهم الرسل إذ كل نبي رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة والنذارة والمستمدة من كتب الله تعالى المنزلة عليهم.
عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل منهم: ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا قول جمهور أهل السنة والجماعة، والرسل المذكورون بالاسم العلم في القرآن: خمسة وعشرون رسولاً، وأول الأنبياء: آدم، وأول الرسل: نوح، وخاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
لفظ: الناس: اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، وإنما واحده من غير لفظه، وهو انسان، وآل فيه للاستغراق، أي: جميع أفراده، أي: البشر كلهم.
(214) {أَمْ حَسِبْتُمْ} : أظننتم - أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة، والاستفهام إنكاري ينكر عليهم ظنهم هذا لأنه غير واقع موقعه.
{الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} : البأساء: الشدة، من الحاجة وغيرها والضراء: المرض والجراحات والقتل.
{مَتَى نَصْرُ اللهِ} : الاستفهام للإستبطاء.
من هداية الأية
الابتلاء بالتكاليف الشرعية، ومنها الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة.
جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.
(215) {مِنْ خَيْرٍ} : من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير.
سال عمرو بن الجموح وكان ذا مال. سأل رسول الله صلى الله علية وسلم، مادا ينفق وعلى من ينفق؟. فنزلت الآية جواباً لسؤاله، فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان، والأقربون، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وأعلمهم تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير مطلقاً.
(216) {كُرْهٌ} : مكروه في نفوسكم طبعاً.
عَسَى: هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه مرجو الحصول متوقع لا على سبيل الجزم، إلا أنها إن كانت من الله تعالى تفيد اليقين.
يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال المشركين والكافرين وهم يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيراً، وأن ما يحبونه قد يكون شراً، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة، كما أن ترك الجهاد محبوب لهم وهو شر لهم؛ لأنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم، وانتهاك حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الآخرة. وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لأشياء وهي شر لهم وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به قبل خلقه، والله يعلم وهم لا يعلمون فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه.
قال القرطبي: كما اتفق في بلاد الأندلس تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار فاستولى العدو على البلاد وأسر وقتل وسب واسترق فإن لله وإنا إليه راجعون. ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته، وأنشد لأبي سعيد الضرير قوله شاهداً لمعنى الآية الكريمة:
رب امرء تتقيه ... جر أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه ...
وبدا المكروه فيه
ومن هداية الأية الكريمة
جهل الإنسان بالعواقب يجعله يحب المكروه، ويكره المحبوب.
(217) لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار. فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيراً لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم رجلاً يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين وأخذوا العير وقفلوا راجعين وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية، وهي أول ليلة من رجب. فثارت ثائرة قريش وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه، وردد صوتها اليهود، والمنافقون بالمدينة حتى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف العير والأسيرين ولم يقض فيهما بشيء، وتعرض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}(هذا كان قبيل نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام) أي: عن القتال فيه، أجبهم يا رسولنا وقل لهم القتال فيه وزر كبير بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام، وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزراً في حكم الله تعالى، كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عنه دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام. مضافاً إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. ثم أخبر تعالى المؤمنين محذراً إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافراً فإن أعماله الصالحة كلها تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً.
اختلف في المرتد هل يستتاب أو يقتل بالردة فوراً والجمهور على أنه يستتاب أولاً فإن أصر قتل ومالك يرى أن من سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستتاب ويقتل واستشهد بالمرأة التي قتلت خادمها بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينكر عليها، وكذلك الزنديق يقتل ولا يستتاب.
الأصل في قتل المرتد حديث صحيح: "من بدل دينه فاقتلوه" واختلف في قتل المرأة إذا ارتددت الجمهور إنها لا تقتل لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والأطفال في الحرب.
من هداية الأية  :الردة محبطة للعمل فإن تاب المرتد يستأنف العمل من جديد، وإن مات قبل التوبة فهو من أهل النار الخالدين فيها أبداً.
(218) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك، وأنه يرجون رحمة الله أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله.

الربع الرابع عشر : يسئلونك عن الخمر والميسر .... 219



(219) {الْخَمْرِ} : كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل، ويطلق لفظ الخمر على عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها.
الميسر: القمار، وسمي ميسراً؛ لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة.
الإثم: كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض.
المنافع: جمع منفعة، وهي ما يسر ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال والمواد.
{الْعَفْوَ} : العفو هنا: ما فضل وزاد عن حاجة الإنسان من المال.
{تُخَالِطُوهُمْ} : تخلطون مالهم مع مالكم ليكون سواء.
{لاعْنَتَكُمْ} : العنت: المشقة الشديدة، يقال: أعنته إذا كلفه مشقة شديدة.
كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر، إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة، ولما هاجر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فأجابهم الله تعالى بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فترك الكثير كلاً من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: "انتهينا ربنا" وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال: "مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه" في ثلاثة نفر وهم: العاق لوالديه، ومسبل إزاره، ومدمن الخمر.
وقوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فهو كما قال تعالى فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم، وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله، وتضييع الصلاة حقاً إن فيهما لإثماً كبيراً، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة ومنها: الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء به، إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.
أما قوله تعالى في الآية: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله. فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: {قُلِ الْعَفْوَ} أي: ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه البخاري.
من هداية الأية : 
بيان أفضل صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو العفو في هذه الآية. شاهده حديث مسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" أي: تصدق به على الفقراء والمساكين.
(220) {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية، فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه، فقال تعالى: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ ... } مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح، ودفع الحرج في الخلط فقال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائماً على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاعْنَتَكُمْ} أي: أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم، وقوله: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.
(222)أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم السائل من فرجها: فإن كان أسود غائراً تعلوه حمرة فذلك الحيض، ويحرم عليها الصوم والصلاة ويحرم وطئها، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة للأحاديث الصحيحة في ذلك، وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأقله لا حد له على الصحيح، وأقل الطهر أيضاً خمسة عشر يوماً ليكمل الشهر حيضاً وطهراً، وإن كان الدم زائداً على مدة الحيض فهو الاستحاضة وتصلي معه وتصوم وتوطأ أيضاً. والحكم الثالث: دم النفاس وأكثره أربعين يوماً، وأقله يوم وليلة وحكمه حكم الحيض.
(223){نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} : يريد مكان إنجاب الأولاد، فشبه النساء بالحرث؛ لأن الأرض إذا حرثت أنبت الزرع، والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن الله تعالى.
{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : إذن بجماع المرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان في القبل الذي هو منبت الزرع، وهي طاهرة من الحيض والنفاس.
من هداية الأية :  حرمة نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} وهو القبل.
وذلك لتحريم وطء المرأة في دبرها للآية الكريمة وللأحاديث الصحاح وما أكثرها ومنها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن"، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة" وورد: تلك اللوطية الصغرى.
(224) العرضة: ما يوضع مانعاً من شيء، واليمين يحلفها المؤمن أن لا يفعل خيراً.
العرضة: ما ينصب في الطريق مانعاً، فيعترض طريق السائرين وأصبح يطلق على كل ما يوضع أمام الناس، يقال: فلان أصبح عرضة للناس. أي: يقعون فيه، ويقال: المرأة عرضة للنكاح، أي: إذا بلغت فهي أمام أنظار الرجال.
من هداية الأية : - كراهية منع الخير بسبب اليمين، وعليه فمن حلف أن لا يفعل خيراً فليكفر عن يمينه وليفعل الخير لحديث الصحيح: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير".
(225) اللغو: الباطل، وما لا خير فيه. ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه، أو ما يجري على لسانه من أيمان من غير أرادة الحلف.
{كَسَبَتْ قُلُوبُكُم} ْ: ما تعمد القلب وقصد اليمين لأجله لفعله حتماً أو منعه.
ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعاً من فعل الخير، وذلك كأن يحلف العبد أن لا يتصدق على فلان أو أن لا يكلم فلاناً أو أن لا يصلح بين اثنين فقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ} يريد الحلف به عرضة لأيمانكم، أي: مانعاً لكم من فعل خير أو ترك إثم أو إصلاح بين الناس. وأخبرهم أنه سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عز وجل.
- لغو اليمين معفو عنها ولها صورتان: الأولى: أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف نحو لا والله، وبلى والله، والثانية: أن يحلف على شيء يظنه كذا فيتبين خلافه، مثل أن يقول: والله ما في جيبي درهم ولا دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شيء من ذلك ثم يجده فهذه صورة لغو اليمين.
- اليمين المؤاخذ عليها العبد هي: أن يحلف متعمداً الكذب قاصداً له من أجل الحصول على منفعة دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وتسمى باليمين الغموس، واليمين الفاجرة.
- اليمين التي تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فلا يفعل، أو يحلف أن لا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل، ولم يقل أثناء حلفه إن شاء الله، والكفارة مبينة في آية المائدة وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.
(226) {يُؤْلُونَ} : الإيلاء: الحلف على عدم وطء الزوجة.
التربص: الانتظار والتمهل.
{فَاءُوا} : رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين.
ما السر في الأربعة أشهر؟ يبدو أنه ثلث السنة، والثلث كثير كما في حديث سعد في الوصية، ويؤيد هذا ما أجراه عمر رضي الله عنه من سؤال النساء عن مدى صبر المرأة على زوجها. فقلن شهران، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفد في أربعة أشهر. فأمر قواد الأجناد أن لا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر.
من هداية الأية : - بيان حكم الإيلاء، وهو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعاً عن الوطء، إلى أن تنتهي مدة الحلف إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن يمينه، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفئ إلى زوجته أو تطلق عليه وإن كان ساخطاً غير راض.
(228) {قُرُوءٍ} : القرء: إما مدة الطهر، أو مدة الحيض.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} : يريد على الزوجة حقوق لزوجها، ولها حقوق على زوجها.
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} : هي درجة القوامة أن الرجل شرعاً هو القيم على المرأة.
بمناسبة طلاق المؤلي إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الآية: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} إلخ. أن على المطلقة التي تحيض أن تنتظر، فلا تتعرض للزواج مدة ثلاثة أقراء فإن انتهت المدة ولم يراجعها
زوجها فلها أن تتزوج، وهذا الانتظار يسمى عدة، وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها، إذ له الحق أن يراجعها فيها، وهذا معنى قوله تعالى في الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} .
كما أن على المطلقة أن لا تكتم الحيض بأن تقول: ما حضت إلا حيضة أو حيضتين وهي حاضت ثلاثاً تريد بذلك الرجعة لزوجها، ولا تقول حضت ثلاثاً وهي لم تحض من أجل أن لا ترجع إلى زوجها، ولا تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس بولده، وهذا من كبائر الذنوب. ولذا قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} ، يريد من حيض وحمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} يريد الزوج أحق بزوجته المطلقة ما دامت في عدتها وعلى شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة بها بل لا بد وأن يريد برجعتها الإصلاح وطيب العشرة بينهما وهذا ظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحا} ، وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الإصلاح أيضاً.
معنى أحق في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أن المطلقة لها حق أن لا ترجع والزوج له حق أن يراجعها متى شاء فكان هناك حقان أقواهما حق الزوج. أو يقال: اسم التفضيل هنا ليس على بابه، والأول أظهر لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأيم أحق بنفسها".
(229) {الطَّلاقُ} : الاسم من طلق وهو أن يقول لزوجته: أنت طالق أو طلقتك.
{مَرَّتَانِ} : يطلقها، ثم يردها، ثم يطلقها ثم يردها. أي يملك الزوج الإرجاع في طلقتين أما إن طلق الثالثة فلا يملك ذلك ولا ترجع حتى تنكح زوجاً غيره.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} : حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن لا يؤدي حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت، ويسمى هذا خلعاً.
كان الطلاق في الجاهلية وبرهة من الزمن في الإسلام ليس له حد فقد يطلق الرجل امرأته عشرات المرات حتى إن رجلاً قال لامرأته لا آويك ولا أدعك تحلين. قالت وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {الطلاق مرتان} إلخ.
الطلاق شرعاً: هو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين بألفاظ مخصوصة منها: أنت طالق. والطلاق مباح لرفع الضرر عن أحد الزوجين أو عن كليهما.
روى الدارقطني، عن أنس: أن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله تعالى: {الطلاق مرتان} فلما صار ثلاثاً؟. قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي الثالثة.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} : حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من مهر زوجته شيئاً بدون رضاها، إلا في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء معه، وهو غير ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالاً ويطلقها ويسمى هذا خلعاً، وهو حلال على الزوج غير الظالم، وهذا معنى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} وهي هنا المعاشرة الحسنة فلا جناح أي لا إثم فميا فدت به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن يأخذه منها مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما.
من هداية الأية :  حرمة الطلاق الثلاث بلفظ واحد؛ لأن الله تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} .
وهو الطلاق البدعي، والجمهور على أنه يقع ثلاثة وخلاف الجمهور يقولون: طلاق بدعي ويقع واحدة، ودليلهم الآية: {الطلاق مرتان} ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والطلاق بلفظ الثلاث ليس فيه مرتان ولا إقراء، فلذا هو بدعي ولا تبين المطلقة به، بل هي مطلقة واحدة لا غير.
لا يحل لامرء أن يتزوج مطلقة ثلاثاً ليحلها لزوجها للعن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يفعل ذلك في قوله: "لعن الله المحلل والمحلل له". وسماه: بالتيس المستعار.
(230){فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} : الطلقة الثالثة فلا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره.
من هداية الآية:
1- المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها إلا بشرطين: الأول: أن تنكح زوجا ًغيره نكاحاً صحيحاً، ويبنى بها ويطأها. والثاني: أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن لا يتكرر ذلك الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات.
2- موت الزوج الثاني كطلاقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الأول بشرطه.
3- إن تزوجت المطلقة ثلاثاً بنية التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الأول فلا يحلها هذا النكاح لأجل التحليل، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبطله وقال: "لعن الله المحلل والمحلل له" ويسمى بالتيس المستعار، ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلاثاً بقصد أن يحلها للأول.
اختلف فيمن طلقت طلقة أو طلقتين ثم تزوجت ومات زوجها وطلقها ورجعت إلى زوجها الأول، فهل النكاح الجديد يهدم السابق أو تبقى على ما كانت عليه؟. الجمهور على أنها تبقى على ما كانت عليه من طلقة أو طلقتين.
(231){أَجَلَهُنَّ} : أجل المطلقة مقاربة انتهاء أيام عدتها.
{أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} : تسريح المطلقة تركها بلا مراجعة لها حتى تنقضي عدتها وتبين من زوجها.
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والخلع والرجعة ففي هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها بمعروف، والمعروف هو حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي عدتها ويسرحها بمعروف فعيطيها كامل حقوقها ولا يذكرها إلا بخير ويتركها تذهب حيث شاءت. وحرم على أحدهم أن يراجع امراته من أجل أن يضر بها فلا هو يحسن إليها ولا يطلقها فتستريح منه، فقال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} يريد عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي نفسها منه بمال وأخبر تعالى: أن من يفعل هذا الإضرار فقد عرض نفسه للعذاب الأخروي.
كما نهى تعالى المؤمنين عن التلاعب بالأحكام الشرعية، وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقد قال تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُواً} وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم حيث من عليهم بالإسلام دين الرحمة والعدالة والإحسان، وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
(232) {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : أي انتهت عدتهن.
بلوغ الأجل في هذه الآية هو نهايته وليس كالآية السابقة، إذ بلوغ الأجل فيها المراد: قرب نهايته، إذ لو بلغ الأجل نهايته ما كان صحت مراجعتها.
{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} : أي لا تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل الذي طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.
{إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} : إذا رضي الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك.
ينهى الله تعالى أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها، إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو به وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الآية استجابة لأخت معقل بن يسار رضي الله عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها معقل.
اسم هذا الزوج: (أبو البداح) وكان قد طلق أخت معقل بن يسار، ورغب في العودة إليها بنكاح جديد بعد انقضاء عدتها، فأبى معقل وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت هذه الآية: {وإذا طلقتم ... } إلخ.
دليله: أن أخت معقل كانت ثيبة ومعنها أخوها من الزواج بمن طلقها وراجعها ثم طلقها مرة ثانية وانقضت عدتها ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعقل: " إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح "، فقال آمنت بالله وردها إلى أبي البداح، فهذا دليل على شرطية الولي في النكاح البكر والثيب سواء.
{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فهم الأحياء الذي يستجيبون لله ورسوله إذا أمروا أو نهوا.
وأخيراً أخبرهم تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم، حالاً ومآلاً، وأطهر لقلوبهم ومجتمعهم. وأعلمهم أنه يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه، والانصياع لأمره ونهيه. فقال تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .

الربع الخامس عشر

(233) {حَوْلَيْنِ} : عامين.
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} : أي على الأب.
{بِالْمَعْرُوفِ} : بحسب حاله يساراً أو إعساراً
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} : أي لا يحل أن تؤذي أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها، أو بمنعها الأجرة على إرضاعه هذا في حال طلاقها، أو موت زوجها.
في الآية دليل على أن الأم أحق بالحضانة إذا طلقت أو مات الوالد ولا خلاف في ذلك ما لم تتزوج فإن حضانتها تسقط بذلك لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن شكت إليه: "إنت أحق به ما لم تنكحي". واختلف في مدة الحضانة، فمالك يرى: أنها إلى بلوغ الغلام وتزوج الجارية، ورأى الشافعي: أنها إلى ثمان سنوات ثم يخبر الولد بين أبيه وأمه، فأيهما اختار له ذلك، والبنت كذلك. فقد صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الولد بين أبيه وأمه.
{وَلا مَوْلُودٌ لَهُ} : أي ولا يضار الوالد كذلك بأن يجبر على إرضاع الولد من أمه المطلقة أو يطالب بأجرة لا يطيقها.
{وَعَلَى الْوَارِثِ} : الوارث هو الرضيع نفسه إن كان له مال وإلا فعلى من يكفله من عصبته.
{فِصَالاً} : فطاماً للولد قبل نهاية العامين.
بمناسبة بيان أحكام الطلاق وقد تطلق المرأة أحياناً وهي حامل ذكر تعالى أحكام الرضاع، وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي: على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة، وأن على المولود له وهو الأب إن كان موجوداً نفقة المرضعة طعاماً وشراباً وكسوة بالمعروف بحسب حال الوالد من الغنى والفقر، إذ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها من قدرة.
ثم نبه تعالى على أنه لا يجوز أن تؤذى الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من إرضاع ولدها أو تكره على إرضاعه وهي لا تريد ذلك، أو تحرم النفقة مقابل الإرضاع أو يضيق عليها فيها كما لا يجوز أن يضار أي يؤذي المولود له وهو الأب: بأن يجبر على إرضاع ولده من أمه وقد طلقها ولا يأن يطالب بنفقة باهظة لا يقدر عليها. وعلى الوارث وهو الرضيع نفسه إن كان له مال. فإن لم يكن له مال فعلى عصبته الذكور الأقرب فالأقرب أي عليهم أجرة الإرضاع فإن لم يكن للولد مال وليس له عصبة وجب على الأم أن ترضعه مجاناً؛ لأنها أقرب الناس إليه، ثم ذكر تعالى رخصتين في الإرضاع: الأولى: فطام قبل عامين، فإن لهما ذلك بعد التشاور في ذلك وتقدير مصلحة الولد من هذا الفطام المبكر. فقال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا تضييق ولا حرج. والثانية إن أراد المولود له أن يسترضع لولده من مرضعاً غير أمه فله ذلك إن طابت به نفسه الأم، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} بشرط أن يسلم الأجرة المتفق عليها بالمعروف بلا إجحاف ولا مماطلة، وأخيرا وعظ الله كلاً من المرضِع والمرضَع له بتقواه في هذه الحدود التي وضعها لهما، وأعلمهم أنه بما يعملون بصير فليحذروا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه. فسبحانه من إلهٍ عظيم برٍ رحيم.
(234){وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} : يتركون زوجات لهم.
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} : ينتظرن حتى انقضاء عدتهن، وهي أربعة أشهر وعشر ليال.
{بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : بلغن انتهاء العدة.
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : لا حرج عليكم أيها الأولياء فيما فعلن في أنفسهن من مس الطيب والتجمل والتعرض للخطاب.
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والعدد والنفقات، ففي هذه الآية (234) أن على من مات عليها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشر ليال إن كانت حرة، أو نصف المدة إن كانت أمة فلا تتجمل ولا تمس طيباً، ولا تتعرض للخطاب بحال حتى تنقضي عدتها المذكورة في الآية إلا أن تكون حاملاً فإن عدتها تنقضي بوضع حملها لقوله تعالى من سورة الطلاق: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإذا بلغت أجلها، أي: انتهت المدة التي هي محدة فيها فلا جناح على ذوي زوجها المتوفي ولا على ذويها هي فيما تفعل بنفسها من ترك الإحداد والتعرض للخطاب للتزوج
الإحداد واجب على المتوفى عنها زوجها فقط لحديث الصحيح: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". والإحداد: هو ترك أنواع الزنية حتى الكحل والخضاب، وعليها لزوم البيت وعدم التعرض للخطاب.
من مات زوجها أو طلقها في غيبته عنها: هل تعتد من يوم الطلاق أو الوفاة أو من يوم يأتيها الخبر بذلك؟. الجمهور وهو الراجح أنها تعتد من يوم الوفاة أو الطلاق، وعليه فلو مات ز وجها أو طلقها ولم يلقها حتى انتهت مدة العدة فلا عدة عليها بعد.
من هداية الأية :
1- بيان عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشر ليال، وبينت السنة أن عدة الأمة على النصف.
قيل: الحكمة في العشر ليال بعد الأربعة أشهر، أنها التي ينفخ فيها الروح في الجنين لحديث: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة". الحديث. فثلاثة أربعينات بأربعة أشهر، وفي العشر بعد ينفخ فيه الروح. والحديث هو حديث ابن مسعود في مسلم.
2 هذا مذهب مالك، أما الجمهور فإنه يفارقها فإذا انتهت عدتها له أن يخطبها ويتزوجها، ولا فرق في هذا بين عدة الوفاة أو الطلاق غير الرجعي.
2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها وهو عدم التزين ومس الطيب وعدم التعرض للخطاب وملازمة المنزل الذي توفى عنها زوجها وهي فيه فلا تخرج منه إلا لضرورة قصوى.
(235){ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : لا إثم عليكم في التعريض دون التصريح بالخطبة، كما لا إثم في إضمار الرغبة في النفس.
{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} : أي حتى تنتهي العدة.
تضمنت الأية تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلاق أو وفاة فلا يحل خطبتها لما في ذلك من الضرر؟ إذ قد تحمل هذه الخطبة من رجل مرغوب فيه لماله أو دينه أو نسبه أن تدعي المرأة انقضاء عدتها وهي لم تنقض، وقد تفوت على زوجها المطلق لها فرصة المراجعة، وهذا كله ضرر محرم. كما تضمنت الآية في صدرها رفع الحرج، أي: الإثم في التعريض بالخطبة دون اللفظ الصريح المحرم فقال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها المسلمون فيما عرضتم من خطبة النساء المعتدات نحو قوله: إني راغب في الزواج، أو إذا انقضت عدتك تشاورينني إن أردت الزواج. كما تضمنت الكشف عن نفسية الرجل إذ قال تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} مبدين رغبتكم منهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، ولكن لا تواعدوهن سراً هذا اللفظ هو الدال على تحريم خطبة المعتدة من وفاة أو من طلاق بائن، أما الطلاق الرجعي فلا يصح الخطبة فيه تعريضاً ولا تصريحاً؛ لأنها في حكم الزوجة، وقوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} هو الإذن بالتعريض.
كما تضمنت هذه الآية حرمة عقد النكاح على المعتدة حتى تنتهي عدتها إذ قال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ، والمراد من الكتاب المدة التي كتب الله على المعتدة أن تتربص فيها. وختمت الآية بوعظ الله تعالى المؤمنين حيث أمرهم أن يعلموا أن الله يعلم ما في أنفسهم ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم وتصرفاتهم فليحذروه غاية الحذر، فلا يخالفوه في أمره ولا نهيه. كما أعلمهم أنه تعالى غفور لمن تاب منهم بعد الذنب حليم عليهم لا يعاجلهم بالعقوبة ليتمكنوا من التوبة.
من هداية الأية :
- حرمة خطبة المعتدة، وجواز التعريض لها بلفظ غير صريح.
- حرمة عقد النكاح على معتدة قبل انقضاء عدتها، وهذا من باب أولى ما دام الخطبة محرمة ومن عقد على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ولا تحل له بعد عقوبة لهما.
هذا مذهب مالك، أما الجمهور فإنه يفارقها فإذا انتهت عدتها له أن يخطبها ويتزوجها، ولا فرق في هذا بين عدة الوفاة أو الطلاق غير الرجعي.
(236) : يخبر تعالى عباده المؤمنين أنه لا إثم ولا حرج عليهم إن هم طلقوا أزواجهم قبل البناء بهن، وقبل أن يسموا لهن مهوراً أيضاً، وفي هذين الحالين يجب عليهم أن يمتعوهن بأن يعطوا المطلقة قبل البناء ولم تكن قد أعطيت مهراً ولا سمى لها فيعرف مقداره في هذه الحال، وقد تكون نادرة يجب على الزوج المطلق جبراً لخاطرها أن يعطيها مالاً على قدر غناه وفقره تتمتع به أياماً عوضاً عما فاتها من التمتع بالزواج، فقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} .
من هداية الأية :
المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء ولم يكن سمي لها مهراً، ومستحبة لغيرها. هذا أشهر المذاهب وأقربها من الحق، ومقدار المتعة موكول إلى المطلق، فليمتع بحسب حاله غنياً وفقراً، هذا في غير المطلقة قبل البناء ولم يسم لها مهراً؛ لأن متعتها واجبة، إذ ليس لها غيرها فقد يتولى القاضي بيان مقدارها.
من هداية الأية : - بيان حكم المطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر، وأن لها المتعة فقط بحسب حال المطلق من غنى وفقر.
(237) يخبر الله تعالى فى هذه الأية أن من طلق امرأته قبل البناء بها وقد سمى لها صداقاً قل أو كثر فإن عليه أن يعطيها وجوباً نصفه إلا أن تعفو عنه المطلقة فلا تأخذه تكرماً، أو يعفو المطلق تكرماً فلا يأخذ منه شيئاً فيعطيها إياه كاملاً فقال عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} -أي: فالواجب نصف ما فرضتم- إلا أن يعفون -المطلقات- أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج. ثم بعد تقرير هذا الحكم العادل الرحيم دعا الطرفين إلى العفو، وأن من عفا منهما كان أقرب إلى التقوى فقال عز وجل: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ونهاهم مع هذا عن عدم نسيان المودة والإحسان بينهما فقال: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
وإن كان الخطاب صالحاً لكل من الزوج والزوجة إلا إن العفو من الزوجة أولى؛ لأن الطلاق كان منه، ولو كانت هي سببه لكان عفوها هي أولى، ولعل هذا سر قوله: {أقرب للتقوى} .
من هداية الأية : - بيان حكم المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداق فإن لها نصفه وجوباً إلا أن تتنازل عنه برضاها فلها ذلك كما أن الزوج المطلق إذا تنازل عن النصف وأعطاها المسمى كاملاً فله ذلك.
(238) اختلف في بيان الصلاة الوسطى بلغ الخلاف عشرة أقوال حتى عدت كل صلاة الصلاة الوسطى حتى يتم المحافظة على الصلوات الخمس كلها، وأقوى الأقوال إنها الصبح أو العصر، ورجح مالك: الصبح، ورجح غيره: العصر، والسنة الصحيحة شاهدة لمن قال أنها العصر، وذلك لحديث الصحيح: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر".
وأفردت الصلاة الوسطى بالذكر تشريفاً لها.
من هداية الأية :- الدعوة إلى إبقاء المودة والفضل والإحسان بين الأسرتين: أسرة المرأة المطلقة، وأسرة الزوج المطلق، حتى لا يكون الطلاق سبباً في العداوات والتقاطع.
(240) يخبر تعالى أن الذين يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجاً فإن لهن من الله تعالى وصية على ورثة الزوج المتوفى أن ينفذوها وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفى عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل وتشرب إلى نهاية السنة بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال إلا إذا رغبت في الخروج بعد انقضاء العدة فلها ذلك، هذا معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقوله فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن تقدم معناه، وهو أن للمعتدة إذا انقضت عدتها أن تتزين وتمس الطيب وتتعرض للخطاب لتتزوج. وما ختمت به الآية: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إشارة إلى أن هذه الوصية قد شرعها عزيز حكيم فهي متعينة التحقيق والتنفيذ.
اختلف في توجيه هذه الآية فمن قائل: بنسخها وأن الناسخ لها الآية التي قبلها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، ومن قائل: بنسختها آية المواريث، إذ المتوفى عنها إن لم يكن للزوج ولد الربع من التركة، ومن قائل: وهو مجاهد ورجحه ابن جرير الطبري بعدم النسخ وأنه رحمة بالمؤمنة المتوفى عنها زوجها إذا أتمت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً يسمح لها بالبقاء في بيت زوجها الهالك إلى نهاية السنة، وهذا حسب اختيارها ورغبتها فكانت هذه الوصية وصية رحمة مندوباً إليها، وهذا الذي رجحته في تفسير الآية فليتأمل.
من هداية الأية : - الإبقاء على المعتدة عدة وفاة في بيت الهالك سنة إن طابت نفسها بذلك وذلك بعد انقضاء العدة الواجبة، فالزائد وهو سبعة أشهر وعشرون يوماً في هذه الوصية إلا أن جمهور أهل العلم يقولون بنسخ هذه الوصية، وعدم القول بالنسخ أولى، لاختلافهم في الناسخ لها.
(241) {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ففيها حكم آخر وهو أن المطلقة المبني بها على مطلقها أن يمتعها بشيء من المال كثياب أو دابة أو خادمة، وعليه فالمطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها، والمطلقة قبل البناء وقد سمى لها المهر فإن لها نصف المهر لا غير، والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في هذه الآية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الاستحباب؛ لأنها لها المهر كاملاً.
من هداية الأية :- حق المطلقة المدخول بها في المتعة بالمعروف ، و تقرير حق المتعة للمدخول بها على سبيل السنية والاستحباب كما تقدمت في النهر.

الربع  السادس عشر

(243 - 245) يخاطب الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: ألم ينته إلى علمك قصة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف، وهم أهل مدينة من مدن بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل عليه السلام، فهل أنجاهم فرارهم من الموت، فكذلك من يفر من القتال هل ينجيه فراره من الموت؟ والجواب: لا، وإذاً فلم الفرار من الجهاد إذا تعين؟ وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم بإحيائها فضل من الله عليها عظيم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وإذاً فقاتلوا أيها المسلمون في سبيل الله ولا تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وأعمالكم فاحذروه، ثم فتح تعالى باب الاكتتاب المالي للجهاد فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} لا شائبة شرك فيه لأحد والنفس طيبة به فإن الله تعالى يضاعفه له أضعافاً كثيرة الدرهم بسبعمائة درهم فأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل إعلاء كلمة الله، ولا تخافوا الفقر فإن ربكم يقبض ويبسط: يضيق على العبد ابتلاء ويوسع امتحاناً، فمنعكم الإنفاق في سبيل الله لا يغير من تدبير الله شيئاً.
(247) فقد تضمنت اعتراض ملأ بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكاً عليهم بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة، وأنهم أحق بهذا المنصب منه، ورد عليهم حجتهم الباطلة بقوله: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . كان هذا رد شمويل على قول الملأ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} . وكأنهم لما دمغتهم الحجة وهي أن الله تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة الجسم، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس وشجاعة العقل والقلب أقول كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بطالوت على عادة بني إسرائيل في التعنت طالبوا بآية تدل على أن الله حقاً اختاره لقيادتهم فقال لهم إلخ وهي الآية (248) الآتية.
قد أصبح بشرح الكلمات معنى الآية واضحاً وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى لطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المخصوب منهم وهو رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر استمداد قوة معنوياتهم لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون؛ كرضاض الألواح، وعصا موسى ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه، فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا للقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم، ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان التابوت آية على تمليك طالوت عليهم وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم فتسكن به قلوبهم وتهدأ نفوسهم فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى، "أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذا ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لنبي إسرائيل وساق الله أقداراً لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني إسرائيل" فكانت آية وأعظم آية، وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت، وباسم الله تعالى قادهم في الآية التالية (249) بيان السير إلى ساحات القتال.
( 251 - 252) {وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} : كان ذلك بعد موت شمويل النبي وموت طالوت الملك.
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} : فعلمه صنعة الدروع، وفهم منطق الطير هو وولده سليمان عليهما السلام.
وختم الله القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} بالجهاد والقتال، لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضاً على بعض، ويدفع بعضاً ببعض منة منه وفضلاً. كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
ثم التفت إلى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له تقريراً لنبوته وعلو مكانته: {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ} التي تقدمت في هذا السياق {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الربع السابع عشر

(253){مَنْ كَلَّمَ اللهُ} : كموسى عليه السلام.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} : وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث فضله تفضيلاً على سائر الرسل.
{بِرُوحِ الْقُدُسِ} : جبريل عليه السلام كان يقف دائماً إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه الله تعالى إليه.
هل يجوز للمسلم أن يقول مثل موسى أفضل من هارون، أو إبراهيم أفضل من عيسى مثلاً؟. الجواب: لا. لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله"، أي: لا تقولون فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. إذ نحن لا نقدر على التفضيل، وإنما يقدر عليه الله وحده، إذ هو يهب ما يشاء لمن يشاء.
(255) {اللهُ} : علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} : الإله المعبود، ولا معبود بحق إلا الله، إذ هو الخالق الرازق المدبر بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وما عداه من الآلهة فعبادتها بدون حق فهي باطلة.
{الْحَيُّ}: ذو الحياة العظيمة التي لا تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة للقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام.
{الْقَيُّومُ}: القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليه، القائم على كل نفس بما كسبت.
السِّنة: النعاس يسبق النوم.
{كُرْسِيُّهُ} : الكرسي: موضع القدمين، ولا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
{يَؤُودُهُ} : يثقله ويشق عليه.
ا أخبر تعالى عن يوم القيامة وأنه يوم لا بيع فيه ولا شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون، أخبر عن جلاله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال يوم القيامة فقال: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} : أي: أنه الله المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت. القيوم: العظيم القيومية على كل شيء، لولا قيوميته على الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} : إذ النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال المطلق. وهذه الجملة برهان على الجملة قبلها، إذ من ينعس وينام لا يتأتى له القيومية على الخلائق ولا يسعها حفظاً ورزقاً وتدبيراً. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} : خلقاً وملكاً وتصرفاً، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} : ينفي تعالى وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض ينفي أن يشفع عنده في الدنيا أو في الآخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في الشفاعة. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} : لكمال عجزهم. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} : لكمال ذاته. {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} : ولا يثقله أو يشق عليه حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} : العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي لا يغلبه شيء، العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير.
روى الترمذي وقال حديث حسن صحيح: "إن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " في هاتين الآيتين: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، و {الم اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، إن فيهما اسم الله الأعظم " ورواه أبو داود، أيضاً.
هذه آية الكرسي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" رواه النسائي وغيره.
ورد في الصحيح عن أبي موسى قال: "قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
من هداية الآية:
1- أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى اشتملت على ثمانية عشر إسماً لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر، وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
2- تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، وعند النوم، وفي البيوت لطرد الشيطان.
(256) {بِالطَّاغُوتِ}: كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما.
{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
من هداية الأية:
1- لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول في الإسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرون على دينهم.
2- الإسلام كله رشد، وما عداه ضلال وباطل.
3- التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل.
4- معنى لا إله إلا الله، وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغون.
(257) من هداية الأية - ولاية الله تعالى تنال بالإيمان والتقوى.
- نصرة الله تعالى ورعايته لأولياءه دون أعداءه.
(258) {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} : انقطع عن الحجة متحيراً مدهوشاً ذاك الطاغية الكافر وهو النمرود البابلي.
إذ هو ملك بابل وقيل أنه أحد الأربعة الذين ملكوا المعمورة وهم مسلمان، وكافران، فالمسلمان: سليمان، وذو القرنين عليهما السلام. والكافران: النمرود، وبختنصر عليهما لعائن الرحمن.
يقال له النمرود بن كؤتن بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام، وفي الآية دليل على جواز إطلاق اسم الملك على الحاكم الكافر ولما حارب الله تعالى أهلكه مع جيشه بالبعوض إذ فتح عليهم باباً من البعوض فأكلت الجيش فلم تتركه إلا عظاماً، وأما النمرود فقد دخلت بعوضة في دماغه فصار يضرب على دماغه حتى هلك بذلك.
(قال أنا أحى وأميت ) يريد أنه يحيي من أراد حياته، ويميت من أراد موته، وهذا مجرد تمويه وسفسطة فلذا عدل إبراهيم عنها وألزمه الحجة إن كان صادقاً في دعواه بالإتيان بالشمس من المغرب كما يأتي بها الله من المشرق.
(259) سميت القرية قرية: لاجتماع الناس فيها، مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته، وهي في القرآن، المدينة الكبيرة، والمراد بها هنا بيت المقدس، وقد خربها الطاغية بختنصر ثم بعد سبعين سنة أعيد بناؤها كما كانت.
العريش: سقف البيت، وجمعه: عروش، وهو كل ما يهيأ ليظل أو يكن من ينزل تحته، ومنه عريش الدالية، أي شجرة العنب، إذ يعرش لها عريش تمد عليه أغصانها لتتدلى منه عناقيدها.
اختلف فيمن هو المار على القرية، هل هو عزيز أو إرميا، أو الخضر، وأرجح الأقوال إنه عزيز، وما دام الله ورسوله لم يذكرا اسمه فلا داعي إلى ذكره، والتعرف إليه، ولذا لم أذكره في التفسير.
{لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يتغير بمر السنين عليه.
{نُنْشِزُهَا} : في قراءة ورش: ننشرها، بمعنى: نحييها بعد موتها. وننشزها: نرفعها ونجمعها لتكون حماراً كما كانت.
{بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ، ولكي تقتنع بما أخبرت به، فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين وشرابك وكان عصيراً من عنب فإنه لم يتغير طعمه ولا لونه، وقد مر عليه قرن من الزمن، وانظر إلى حمارك فإنه هلك بمرور الزمن ولم يبقى منه إلا عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته وفناؤه لمرور مائة سنة عليه.
(260) {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفية.
{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء.
{سَعْياً} : مشياً سريعاً وطيراناً.
{عَزِيزٌ} : غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال.
{حَكِيمٌ} : لا يخلق عبثاً ولا يوجد لغير حكمة، ولا يضع شيئاً في غير موضعه اللائق به.
من هداية الأية  
غريزة الإنسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه.
قالت العلماء: من غرائز الإنسان التي جبل عليها حبه معرفة المجهول والآية أكبر شاهد، إذ الخليل أحب أن يعرف كيفية إحياء الموتى.
ثبوت عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلائق أحياء بالحساب والجزاء.
إذ رؤية إبراهيم لكيفية إحياء الله تعالى الموتى من الطير أكبر دليل على قدرة الله تعالى على إحياء العباد يوم القيامة ومن هداية هذه الآية إراءه المشركين المنكرين للبعث الآخر هذه الحادثة العجيبة كأنهم يشاهدونها فتقوم بذلك الحجة عليهم وعلى كل منكر للبعث والحياة الآخرة.
(261) {مَنّاً وَلا أَذىً} : المن: ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه على الوجه التفضل عليه. والأذى: التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمة النابية أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه.
المن: من كبائر الذنوب، إذ صاحبه أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "في صحيح مسلم" والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة.
ومن هداية الأية حرمة المن بالصدقة وفي الحديث: "ثلاثة لا يدخلون الجنة ... " وذكر من بينهم المنان.
وصح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "الكلمة الطيبة صدقة" وقوله: "ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"، قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه ولا منان".

الربع الثامن عشر

(264) إبطال الصدقة: حرمان من ثوابها.
{صَفْوَانٍ}: حجر أملس.
{وَابِلٌ}: مطر شديد.
{صَلْداً} : أملس ليس عليه شيء من التراب.
{لا يَقْدِرُونَ} : يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.
من هداية الأية بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما.
(265) المثل: الصفة المستملحة المستغربة.
{وَتَثْبِيتاً}: تحقيقاً وتيقناً بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله.
لقد اختلف في معنى: {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ورجح ما فسرناه به في التفسير وهناك معنى آخر لطيف وهو: وتثبيتاً لأنفسهم على الإيمان وأفعال البر لأن الحسنة تلد الحسنة، فهم ينفقون أموالهم طلباً لرضوان الله وترويضاً منهم لأنفسهم على فعل الخير والإحسان.
الربوة: مثلثة الراء: المكان المرتفع.
{جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} : بستان كثير الأشجار بمكان مرتفع.
الوابل: المطر الغزير الشديد.
الطل: المطر الخفيف.
(266) {إِعْصَارٌ} : ريح عاصف فيها سموم.
(267) {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} : لا تقصدوا الرديء تنفقون منه.
{إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} : إلا أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه بتساهل منكم وتسامح.
من هداية الأية
وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم إذ الكل داخل في قوله: {مَا كَسَبْتُمْ} وهذا بشرط الحول وبلوغ النصاب.
الحول: هو مرور سنة كاملة على زكاة النقدين والأنعام وعروض التجارة، والنصاب في الحبوب والثمار خمسة أوسق لحديث الصحيح: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد. وفي النقدين: الذهب عشرون ديناراً ما يعادل سبعين غراماً، وفي الفضة: مائتا درهم: ما يعادل 460 غراماً، وفي الغنم أربعون شاة، وفي البقر ثلاثون بقرة، وفي الإبل خمس منها.
(268) قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ... } إلخ. اثنتان من الله تعالى، واثنتان من الشيطان. ويفسره حديث الترمذي إذ فيه قول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ ... } الآية.
(269) {الْحِكْمَةَ} : فهم أسرار الشرع، وحفظ الكتاب والسنة.
الحكمة: النبوة والقرآن والإصابة في الأمور بوضع كل شيء في موضعه، فأعلى الحكمة النبوة ثم القرآن والسنة. وفي الصحيح: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". واللفظ يشمل القرآن والسنة.
أصل الحكمة: إحكام الشيء وإتقانه، وعليه فحفظ القرآن والسنة وفهما والعمل بهما هو الحكمة، وفي الصحيح: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". وورد: رأس الحكمة مخافة الله.
يقال: أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، وما في التفسير فهو مأخوذ من تغميض العين لعدم رؤية العيب والرداءة، وقراءة الجمهور تشهد للمعنيين التجاوز، وتغميض العين.
يريد لا ينبغي لكم أن تنفقوا الرديء وأنتم لو أعطيتموه في حق لكم ما كنتم لتقبلوه لولا أنكم تغمضون وتتساهلون في قبوله، وهذا منه تعالى تأديب لهم وتربية.
(270) {مِنْ نَفَقَةٍ} : يريد قليلة أو كثيرة من الجيد أو الرديء.
{مِنْ نَذْرٍ} : النذر: التزام المؤمن بما لم يلزمه به الشارع، كأن يقول: لله عليّ أن أتصدق بألف؛ أو أصوم شهراً أو أصلى كذا ركعة يقول: إن حصل لي كذا من الخير أفعل كذا من الطاعات.
مما يجب علمه أنه شاع في العامة بين المسلمين النذر للأولياء والصالحين وهو محرم قطعاً إذ هو من شرك العبادة فبعضهم يقول يا سيدى فلان إن قضى الله حاجتي فعلت لك كذا، وآخر يقول: إن حصل لي كذا ذبحت لك أو جددت بناء قبتك أو أنرت ضريحك، فيجب أن ينهى عن هذا كله ويعلم من يفعله عن هذا كله ويعلم من يفعله أنه أشرك بعبادة ربه.
النذر المشروط مكروه لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من مال البخيل". أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أم النذر المطلق فهو قربة من أفضل القرب، وفي التفسير بيان لكل من المطلق والمشروط فانظره.
في الآية إبجاز بليغ إذ التقدير: وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلهما، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، فحذف من الأول لدلالة الأخير عليه تجنباً للتكرار المنافي لبلاغة الكلام.
الترغيب في الصدقات ولو قلت والتحذير من الرياء فيها وإخراجها من رديء الأموال.
(271) صدقة التطوع الإسرار بها أفضل، ففي الحديث: "صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل"، وفي الصحيح: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". والصدقة الواجبة وهي الزكاة إعلانها من أفضل إسرارها. هذا ومرد القضية إلى حال المتصدق والمتصدق عليه فإن كان المتصدق بإعلانه يتبعه غيره ويكون كمن سن سنة حسنة فالإعلان أفضل وإن كان المتصدق عليه يخجل ويستحي من الصدقة عليه فالإسرار له أفضل من غيره.

الربع التاسع عشر

(272) {هُدَاهُمْ} : هدايتهم إلى الإيمان وصالح الأعمال.
(273) {أُحْصِرُوا} : حبسوا ومنعوا من التصرف لأنهم هاجروا من بلادهم.
{ضَرْباً فِي الأَرْضِ} : أي: سيراً فيها لطلب الرزق بالتجارة وغيرها لحصار العدو لهم.
{بِسِيمَاهُمْ} : علامات حاجتهم من رثاثة الثياب وصفرة الوجه.
{مِنَ التَّعَفُّفِ} : ترك سؤال الناس والكف عنه.
{إِلْحَافاً}: إلحاحاً وهو ملازمة السائل من يسأله حتى يعطيه.
الإلحاح والإلحاف، والإحفاء مصادر ألح في السؤال، والحف وأحفى والإلحاف مشتق من اللحاف؛ لأنه يشتمل على الملتحق به، كذلك الإلحاف في السؤال؛ لأن المحلف يأتي أمام المسؤال ويأتي عن يمينه وعن شماله يسأله لا يفارقه حتى يعطيه أو يمنعه.
قيل أن هذه الأية نزلت في علي، إذ كان له أربعة دراهم فأنفقها على ما ذكر في الآية، والآية عامة في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير وفي كل حالة تتطلب الإنفاق سواء بالليل أو بالنهار سراً أو علانية.
من هداية الأية : جواز التصدق على الكافر المحتاج بصدقة التطوع لا الزكاة فإنها حق المؤمنين
شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت أن آخد الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم"، وشاهده في الصحيح: "خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم".
ثواب الصدقة عائد على المتصدق عليه فلذا لا يضر إن كان كافرا.
فضيلة التعفف وهو ترك السؤال مع الاحتياج1، وذم الإلحاح في الطلب من غير الله تعالى أما الله عز وجل فإنه يحب الملحين في دعائه.
(275) {يَأْكُلُونَ الرِّبا} : يأخذونه ويتصرفون فيه بالكل في بطونهم، وبغير الأكل، والربا هنا: ربا النسيئة وحقيقته أن يكون لك على المرء دين فإذا حل أجله ولم يقدر على تسديده تقول له: أخر وزد. فتؤخره أجلاً وتزيد في رأس المال قدراً معيناً، هذا هو ربا الجاهلية والعمل به اليوم في البنوك الربوية فيسلفون المرء مبلغاً إلى أجل ويزيدون قدراً آخر نحو العشر أو أكثر أو أقل، والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع وسواء كان ربا فضل أو ربا نسيئة.
{لا يَقُومُونَ} : من قبوهم يوم القيامة.
{يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} : يضر به الشيطان ضرباً غير منتظم.
يقال: خطة وتخبطة كملكه وتملكه، وعبده وتعبده، والتخبط: الضرب في غير استواء، ومنهم قولهم: خبط عشواء.
{مِنَ الْمَسِّ} : المس: الجنون، يقال: بفلان مس من جنون.
أصل المس: اللمس باليد، ومن مسه الشيطان اختلط عقله وأصبح يصيح بسبب مس الشيطان له فيقال: فلان يصرع من الجن، أي: من مس الجن له، والشيطان من الجن، فالمرابي يقوم يوم القيامة من قبره كالمجنون الذي به مس الجن يصرع صرعه.
(277) {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا} : أي: يذهبه شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منه شيء؛ كمحاق القمر آخر الشهر.
{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} : يبارك في المال الذي أخرجت منه، ويزيد فيه، ويضاعف أجرها أضعافاً كثيرة.
{كَفَّارٍ أَثِيمٍ} : الكفار: شديد الكفر، يكفر بكل حق وعدل وخير، أثيم: منغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكبها.
ربا الفضل بيانه في حديث مسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر والتمر بالملح بالملح مثل بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر: "فإذا اختلفت الأجناس فيبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد".
(279) {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} : اعلموا بحرب من الله ورسوله واحملوا سلاحكم ولاينفعكم1 سلاح فإنكم المهزومون الهالكون.
{فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} : بعد التوبة مالكم إلا رأس المال الذي عند المدين لكم فخذوه واتركوا زيادة الربا.
العسرة: الشدة والضائقة المالية.
(280) {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} : أي انتظار للمدين إلى أن ييسر الله عليه فيعطيكم رأس مالكم الذي أخذه منكم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من كان مقيماً على الربى لا ينزع فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه".
حرمة الربا مجمع عليها، والأحاديث الواردة في تحريمه كثيرة جداً، أذكر منها، حديث مسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر منها أكل الربا، وحديث أبي داود: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه".
(282) {تَدَايَنْتُمْ} : داين بعضكم بعضاً في شراء أو بيع أو سلم أو قرض.
تداين: تفاعل من الدين، يقال: داينت الرجل، عاملته بدين معطيعاً أو آخذاً كما بايعته إذا بعته أو باعك.
لما حث تعالى على الصدقات وحرم الربا، ودعا إلى العفو على المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدين الأمر الذي قد يتبادر إلى الذهن أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة فجاءت هذه الآية، آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقه وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة فقررت واجب الحفاظ عليه بكتابة الديون والإشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم وكون الشهود رجلين مسلمين حرين، فإن انعدام رجل من الاثنين قامت امرأتان مقامه، واستحث الله تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان في سعة من أمره، وحرم على الشهود إذا ما دعوا لأداء الشهادة أن يتخلوا عنها، وحرم على المتداينين أن لا يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة، فقال تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} ، ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه فقال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا ... } ، وأمر بالإشهاد على البيع فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ... } ، ونهى عن الإضرار بالكاتب أو الشهيدين، بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو كذلك في شغله، أو أن يدعي إلى مسافات بعيدة تشق عليه إذ أمره تطوع وفعل خير لا غير فليطلب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما. وحذر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والإضرار بالكاتب والشهيد فقال: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ... } وأكد ذلك بأمره بتقواه فقال: {وَاتَّقُوا اللهَ ... } بامتثال أمره ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما علمكم هذا العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم. هذا معنى الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ... } .
وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعاً، أو شراءً، أو سلفاً، أو قرضاً هذا ما قرره ابن جرير،
ورد القول بالإرشاد والندب.
- رعاية النعمة بشكرها لقوله تعالى للكاتب: كما علمه الله فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره منها.
- جواز النيابة في الإملاء لعجز عنه وعدم قدرة عليه.
- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.
5- وجوب الإشهاد على الكتابة لتأكدها به، وعدم نسيان قدر الدين وأجله.
- شهود المال لا يقلّون عن رجلين عدلين من الأحرار المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.
- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيراً تافهاً.
- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال.
- حرمة الإضرار بالكاتب4 والشهيد.
- تقوى الله تعالى بسبب العلم، وتُكسب المعرفة بإذن الله تعالى.

الربع العشرون

(283)  أمر تعالى بالإشهاد والكتابة في البيوع والسلم والفروض في الآيات السابقة أمر هنا -عند تعذر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات الكتابة وذلك في السفر- أمر بالاستعاضة عن الكتابة بالرهن وذلك بأن يضع المدين رهناً لدى دائنه عوضاً عن الكتابة يستوثق به دينه هذا في حال عدم ائتمانه والخوف منه، وأما إن أمن بعضهم بعضاً فلا باس بعدم الارتهان فقال تعال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ... } والرهان جمع رهن. وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فلم تأخذوا رهاناً، {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} في ذلك. ثم نهى تعالى نهياً جازماً عن كتمان شهادتهم فقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ... } وبين تعالى عظم هذا الذنب فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ... } وأعلم أنه عليم بما يعملونه فيجازيهم بعلمه، وهو تهديد ووعيد منه سبحانه وتعالى لكاتمي الشهادة والقائلين بالزور فيها.
قوله: {مَقْبُوضة} دل على اشتراط القبض ولو بالوكالة ولو أن عدلاً من الناس وضع الرهن تحت يده جاز، إذ هو معنى القبض، ويجوز رهن ما في الذمة كأن يرهن المدين ديناً له ثابتاً في ذمة مالي معترف غير منكر، لأن الاستيثاق يحصل بذلك.
أصل الرهن الدوام، وشرعاً: حبس عين في دين لاستيفاء الدين من العين أو من منافعها إذا عجز المدين عن التسديد، ويجمع الرهن على رهان، ورهن.
من هداية الأية : الرهن جائز بالكتاب وهذه الآية نص في الرهن في السفر، وأما في الحضر فهو جائز بالسنة وإجماع الأمة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى من يهودي طعاماً، فطلب اليهودي رهناً فرهنه درعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير.
(284)  يخبر الله تعالى فى الأية بأن له جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض خلفاً وملكاً وتصرفاً، وبناء على ذلك فإن من يبدي ما في نفسه من خير أو شر أو يخفه يحاسب به، ثم هو تعالى بعد الحساب يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان والتقوى، ويعذب من يشاء من أهل الشرك والمعاصي، له كامل التصرف؛ لأن الجميع خلقه وملكه وعبيده.
وسواس الصدر مما لا طاقة للعبد بدفعه بحال وقد سأل عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال، ما رواه مسلم عن علقمة بن عبد الله قال: سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوسوسة، قال: "تلك صريح الإيمان".
أنه لما نزلت الآية (284) {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... } وفيها { ... وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ... } اضطربت لها نفوس المؤمنين، وقالوا من ينجو منا إذا كنا نؤاخذ بما يخفى في أنفسنا من الهم والوسواس وحديث النفس فأمرهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرضا بحكم الله تعالى والتسليم به فقال لهم: "قولوا سمعنا وأطعنا ولا تكونوا كاليهود: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ... } فلما قالوها صادقين أنزل الله تعالى هاتين الآيتين: {آمَنَ الرَّسُولُ ... } فأخبر عن إيمانهم مقروناً بإيمان نبيهم تكريماً لهم وتطميناً فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... } وأخبر عنهم بقولهم الذي كان سبب استجابة الله تعالى لهم فقال عنهم: { ... وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وأخبرهم تعالى أنه لرحمته بهم وحكمته في تصرفه في خلقه لا يكلف نفساً إلا ما تتسع له طاقتها وتقدر على فعله، وإن لها ما كسبت من الخير فتجزى به خيراً وعليها ما اكتسبت من الشر فتجزى به شراً إلا أن يعفو عنها ويعفر لها فقال: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ... } وعلمهم كيف يدعونه ليقول لهم قد فعلت، كما صح به الخبر فقال قولوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وفعلاً قد عفا عنهم في النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف والسنان فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال.
الإصر: الأمر الغليظ الصعب أو هو الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة ويطلق الإصر على العهد ومنه: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي: عهدي وميثاقي، لأن الإصر يطلق على الحبل الذي تربط الأحمال ونحوها.
روى مسلم عن ابن عباس لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... } الآية، قال: دخل قلوبهم منها شيء فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا". قال: فألقى الله في قلوبهم الإيمان فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل قوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} الآية.
ورد في فضل خاتمة البقرة أحاديث كثيرة منها: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي".
حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". أي: رفع إثمه. أما أحكامه، ففيها تفصيل: فالغرامات لا تسقط، فمن كسر آنية خطأ أو نسياناً يغرمها لصاحبها، ومن نسى صلاة مفروضة قضاها، ومن قتل خطأ دفع الدية ويسقط القصاص بالخطأ، كما يسقط الكفر بالنطق خطأ وسهواً.
شاهده حديث: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل". رواه الجماعة.
لحديث مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". أي: من قام الليل لحديث: "من قرأ بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل، وكفتاه من شر الشيطان، فلا يكون له عليه سلطان".


Comments
NameEmailMessage