مختصر تفسير سورة النساء من أيسر التفاسير
للشيخ أبى بكر الجزائرى
مدنية
الآية:
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فإنها
مكية، فإنها نزلت يوم الفتح في مكة في شأن عثمان بن طلحة الحجي.
وآياتها
176 آية
1
(1){النَّاسُ}
: البشر، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان.
{تَسَاءَلُونَ
بِهِ} : كقول الرجل لأخيه: أسألك بالله أن تفعل لي كذا.
{وَالأَرْحَامَ}
: الأرحام: جمع رحم، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم قطعها. واتقوا الأرحام
أن تقطعوها فإن في قطعها فساداً كبيراً وخللاً عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم،
وتوعدهم تعالى إن لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا أرحامهم بقوله: {إِنَّ اللهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} مراعياً لأعمالكم محصياً لها حافظاً يجزيكم بها ألا
أيها الناس فاتقوه.
(2){الْيَتَامَى}
: جمع يتيم ذكراً كان أو أنثى، وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم.
{وَلا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} : الخبيث: الحرام، والطيب: الحلال،
والمراد بها هنا الرديء والجيد.
{حُوباً
كَبِيراً} : الحوب: الإثم العظيم.
من هداية
الأية
لا يحل
للرجل أن يستبدل جيداً من مال يتيمه بمال رديء من ماله؛ كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه
هزيلة أو يأخذ تمراً جيداً ويعطيه رديئاً خسيساً.
(3){صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَةً} : جمع صدقة، وهي الصداق والمهر، ونحلة بمعنى فريضة واجبة.
هَنِيئاً}
: الهنيء: ما يستلذ به عند أكله.
{مَرِيئاً}
: المريء: ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثاراً سيئة.
روى مسلم
عن عائشة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا} إلى قوله: {وَرُبَاعَ}
، قالت لعروة: "يا ابن أختي: هى اليتيمة، تكون في حجر وليها تشاركه في ماله
فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها
مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا ويبلغوا بهن سنتهن من الصداق،
وأمره أن ينكحوا ما طاب لهم" الحديث.
من هداية
الأية : استبنط من إباحة أربع أن الزوج عليه أن يبيت مع زوجته ليلة من أربع، ولا
يجوز التقصير في ذلك إلا برضاها.
فى هذه
الأية يرشد الله تعالى أولياء اليتيمات أن هم خافوا أن لا يعدلوا معهن إذا تزوج
أحدهم وليته أرشدهم أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى، وثلاث
ورباع. يريد اثنتين أو ثلاث أو أربع كل بحسب قدرته، فهذا خير من الزواج بالولية
فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها.
وقوله:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ولا يزد عليها
غيرها أو يتسرى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب إلى أن لا يجور المؤمن
ويظلم نساءه.
ومن هداية
الأية أيضاً
الإجماع
على أن المراد من قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أن ينكح الرجل اثنتين
أو ثلاثاً أو أربعاً على التخيير، وليس معناه الجمع بين تسع نساء، ومن فعل وهو
عالم يحد بالرجم، وإن كان جاهلاً يحد بالجلد.
(5) في
الآية دليل على مشروعية الحجر على السفيه، وسواء كان السفه لصغر أو لخفة عقل أو
عدم رشيد.
{السُّفَهَاءَ}
: جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال.
{قِيَاماً}
: القيام: ما يقوم به الشيء، فالأموال جعلها الله تعالى قياماً، أي: تقوم عليها
معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضاً.
(6) {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى} : أي: اختبروهم كي تعرفوا هل أصبحوا يحسنون التصرف في المال.
{بَلَغُوا
النِّكَاحَ} : أي: سن الزواج، وهي البلوغ.
يعرف
البلوغ بالاحتلام وإنبات شعر العانة، أو بلوغ ثمانية عشر سنة، هذا للغلام. أما
الجارية فتزيد بعلامة أخرى هي الحيض والحمل.
{آنَسْتُمْ}
: أبصرتم الرشد في تصرفاتهم.
{إِسْرَافاً
وَبِدَاراً} : الإسراف: الإنفاق في غير الحاجة الضرورية، والبدار: المبادرة
والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده.
{فَلْيَسْتَعْفِفْ}
: أي: يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه.
نهاهم
تعالى أن يعطوا أموالهم التي هي قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به
وصف السفه، وهو قلة البصيرة بالأمور المالية، والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن
ينفقوها في غير وجوهها، أو يفسدوها بأي نوع من الإفساد، كالإسراف ونحوه، وأمرهم أن
يرزقوهم فيها ويكسوهم، وقال فيها ولم يقل منها إشارة إلى أن المال ينبغي في تجارة
أو صناعة أو زراعة فيبقى رأس المال والكل يكون من الربح فقط، كما أمرهم أن يقولوا
لسفائهم الذين منعوهم المال أن يقولوا لهم قولاً معروفاً؛ كالعدة الحسنة والكلمة
الطيبة
هذا الآية
نزلت في ثابت بن رفاعة، وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم
ثابت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أبن أخي في حجري، فما
يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
من هداية
الأية :
العاجز عن
الوصاية لجهل أو عدم قدرته أو ضعف أرادته ينبغي له أن لا يلي مال يتيم أو قاصر
لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر: " يا أبا ذر إني أراك
ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" رواه
مسلم.
(7) {نَصِيبٌ}
: الحظ المقدر في كتاب الله.
(8) {قَوْلاً
سَدِيداً} : عدلاً صائباً.
والقول
السديد هو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد ابن أبي وقاص، وقد مرض
مرضاً شديداً فعاده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فقال سعد: يا
رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلث مالي؟ قال: "لا"
قال: فشطره؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث
كثير". ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنك أن تذر
ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".
(8) تضمنت الأية فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون
وهي أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك، وقدمت تركته للقسمة بين الورثة،
وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف أن يعطوا شيئاً
من تلك التركة قبل قسمتها وإن تعذر العطاء؛ لأن الورثة يتامى أو غير عقلاء يصرف
أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمة طيبة كاعتذار جميل تطيب به نفوسهم
(9){وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ، فقد تضمنت إرشاد الله
تعالى للمؤمن الذي يحضر مريضاً على فراش الموت بأن لا يسمح له أن يحيف في الوصية
بأن يوصي لوارث أو يوصي بأكثر من الثلث أو يذكر ديناً ليس عليه، وإنما يريد حرمان
الورثة.
(10){ظُلْماً}
: بغير حق يخول لهم أكل مال اليتيم.
(11){يُوصِيكُمُ}
: يعهد إليكم.
يرى الإمام
الشافعي أن من مات وعليه زكاة أو حج الفرض أن يخرج ذلك من ماله قبل قسمة التركة،
وقال مالك: إن أوصى به تنفذ تنفذ وصيته، وإن لم يوص فالمال للورثة، وهو أمره إلى
الله تعالى.
{فَرِيضَةً}
: فرض الله ذلك عليكم فريضة.
و الفرائض
ست: وهي النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
هذه الآية
الكريمة {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْنِ} إلخ. والتي بعدها (12) وهي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا
تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلخ. نزلت لتفصيل حكم الآية (7) والتي تضمنت شرعية التوارث
بين الأقارب المسلمين فالآية الأولى (11) بين تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء،
فقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي: في شأن أولادكم {لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} يريد إذا مات الرجل وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً فإن
التركة تقسم على أساس للذكر مثل نصيب الأنثيين، فلو ترك ولداً وبنتاً وثلاثة
دنانير فإن الولد يأخذ دينارين، والبنت تأخذ ديناراً، وإن ترك بنات اثنين أو أكثر
ولم يترك معهن ذكراً فإن للبنتين فأكثر الثلثين، والباقي للعصبة، إذ قال تعالى:
{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . وإن
ترك بنتاً واحدة فإن لها النصف والباقي للعصبة، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، وإن كان الميت قد ترك أبويه، أي: أمه
وأباه وترك أولاداً ذكوراً أو إناثاً فإن لكل واحد من أبويه السدس والباقي
للأولاد، وهو معنى قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، يريد ذكراً كان أو أنثى. فإن
لم يكن للهالك ولد ولا ولَدْ ولَدٍ فلأمه الثلث4 وإن كان له أخوة اثنان فأكثر
فلأمه السدس، هذا معنى قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ
السُّدُسُ} . أي: تسقط من الثلث إلى السدس وهو يسمى بالحجب فحجبها إخوة ابنها
الميت من الثلث إلى السدس. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ} يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى يكون بعد قضاء دين الميت
وإخراج ما أوصى به إن كان الثلث فأقل وهو معنى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . وقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} معناه: نفذوا هذه الوصية المفروضة
كما علمكم الله ولا تحاولوا أن تفضلوا أحداً على أحد فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم
وأبناؤكم ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، ولذا فاقسموا التركة
كما علمكم بلا محاباة فإن الله تعالى هو القاسم والمعطي عليم بخلقه وبما ينفعهم أو
يضرهم حكيم في تدبيره لشؤونهم فليفوض الأمر إليه، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم
حكيم.
هذه الآية
مبينة لما أجمل في آية: {للرجَال نَصيب..} وتسمى آية المواريث وهي من أعظم الآيات
قدراً؛ لأن علم الفرائض يعتبر ثلث العلم لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
رواية أبي داود وغيره: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة
قائمة، أو فريضة عادلة". ومعنى محكمة غير منسوخة، ومعنى قائمة ثابتة صحيحة،
ومعنى عادلة لم يخرج بها عن مراد الله تعالى منها، وذلك بإعطاء الوارث ما كتب الله
له.
خرج من
لفظ: الأولاد الكافر لأنه لا حق له في الإرث؛ لأن الكفر مانع، وذلك لقوله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".
كما خرج ميراث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: "إنا معاشر
الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة".
إذا كان
الولد خنثى فإنه يورث من حيث يبول، إن بال من حيث يبول الرجال يورث إرث الذكر، وإن
بال من حيث تبول النساء يورث إرث النساء، وإن أشكل ذلك يعطي نصف ميراث ذكر ونصف
ميراث أنثى. على هذا الجمهور.
هناك ما
يعرف بالثلث الباقي، وهو أن تهلك هالكة وتترك زوجها وأبويها؛ فللزوج النصف،
والباقي ثلثه للأم، والثلثان للأب، قرر هذا ابن عباس، وزيد بن ثابت، وقرره كافة
الأصحاب، وعليه الأئمة، وحتى لا تأخذ المرأة أكثر من الرجل.
قيل في سر
حجب الأخوة لأمهم من الثلث إلى السدس: أن والدهم هو الذي يلي نكاحهم وهو الذي ينفق
عليهم دون أمهم. وهو رأي حسن.
الجدة ترث
السدس ولا ترث الثلث، كما ترثه الأم إجماعاً.
من هداية
الآية الكريمة:
1- أن الله
تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغر منها شيئاً.
2- الاثنان
يعتبران جمعاً.
3- ولد
الولد حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.
4- الأب
عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض وما بقي يرثه بالتعصيب لقوله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فالأولى رجل
ذكر.
(12){أَزْوَاجُكُمْ}
: الأزواج هنا: الزوجات.
{وَلَدٌ} :
المراد هنا بالولد: ابن الصلب ذكراً كان أو أنثى، وولد الولد مثله.
{كَلالَةً1}
: الكلالة أن يهلك هالك ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته لأمه.
{وَلَهُ
أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} : أي: من الأم.
{غَيْرَ
مُضَارٍّ} : بهما -أي: الوصية والدين- أحداً من الورثة.
كانت الآية
قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة، والوارثون
بالمصاهرة: الزوج والزوجات، قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
أَزْوَاجُكُمْ} ، فمن ماتت وتركت مالاً ولم تترك ولداً ولا ولد ولدٍ ذكراً كان أو
أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف، وإن تركت ولداً أو ولد ولد ذكراً كان أو أنثى
فإن لزوجها من تركتها الربع لا غير لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} . وهذا من بعد سداد الدين إن كان على الهالكة
دين، وبعد إخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . هذا ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن
لم يترك الزوج ولداً ولا ولد ولد ذكراً كان أو أنثى فإن ترك ولداً أو ولد ولد
فللزوجة الثمن، وهذا معنى قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . هذا وإن
كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك
ولد، وإن كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوى وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ
رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} أي تورث كلالة أيضاً، والموروث كلالة وهو
من ليس له والد ولا ولد، وإنما يرثه إخوته لأمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه
وأمه كما في آي الكلالة في آخر هذه السورة، فإن كان له أخ من أمه فله السدس، وكذا
إن كانت له أخت فلها السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث1 لقوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ2 وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ
غَيْرَ مُضَارٍّ3} بأن يوصى بأكثر من الثلث، أو يقر بدين وليس عليه دين وإنما حسد
للورثة أو بغضاً لهم لا غير، فإن تبين ذلك فلا تنفذ الوصية ولا يسدد الدين وتقسم
التركة كلها على الورثة، وقوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللهِ} أي: وصاكم أيها
المؤمنون بهذا وصية فهي جديرة بالإحترام والامتثال. والله عليم بنياتكم وأحوالكم
وما يضركم وما ينفعكم فسلموا قسمته وأطيعوه فيها وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة فلا
يغركم حلمه أن بطشه شديد وعذابه أليم.
1 وهو ما
يعرف بالحجرية، أو الحمارية، أو المشتركة وهي: أن تموت امرأة وتترك زوجها وأمها
وأخوة لأمها وأخاً لأبيها وأمها، فللزوج النصف، والأم السدس، والباقي للأخوة للأم،
ولا شيء للأخ للأب، أو لهما معا. وسميت بالحمارية: لأنهم لما منعوا قالوا للقاضي
بينهم: هب أبانا حماراً أليست أمنا واحدة، وقالوا هب أبانا حجراً أليست أمنا
واحدة، وطالبوا بتشريكهم في الإرث فسميت المشتركة.
2 ذكرت
الوصية قبل الدين، والإجماع على تقديم الدين على الوصية لحكم رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وقيل في السر في ذلك: أن تقديم الوصية في اللفظ كان
بسبب أنه لا يوجد من يطالب بها فقد تنسى، وأما الدين فأهله يطالبون به فلا ينسى
ولا يترك.
3 مضار:
اسم فاعل، أي: مضارر، فأدغمت الراء في الراء فصارت مضار، أي: حال كون الموصي غير
مريد الإضرار بالورثة.
4 أي:
لأمه، ولهذا خالف أخوة الأم الورثة في ثلاث مسائل: الأولى: أنهم يرثون مع من يدلون
به وهو أمهم. والثانية: إن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. والثالثة: أنهم لا
يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة.
من هداية
الآية:
1- بيان
ميراث الزوج من زوجته، والزوجة والزوجات من زوجهن.
2- بيان ميراث
الكلالة وهو من لا يترك والداً ولا ولداً فيرثه إخوته فقط4 يحوطون به إحاطة
الإكليل بالرأس فلذا سُميت الكلالة.
3- إهمال
الوصية أو الدين إن علم إن الغرض منها الإضرار بالورثة فقط.
4- عظم شأن
المواريث فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى الله تعالى.
الأيتين 13
: 14
{تِلْكَ
حُدُودُ1 اللهِ} : تلك اسم إشارة أشير به إلى سائر ما تقدم من أحكام النكاح وكفالة
اليتامى وتحريم أكل مال اليتيم، وقسمة التركات. وحدود الله هي ما حده لنا وبينه من
طاعته وحرم علينا الخروج عنه والتعدي له.
الحدود:
جمع حد، وهو ظرف مكان يميز عن مكان آخر يمنع تجاوزه. هذا هو الحد لغة وشرعاً، ما
منع الله تجاوزه مما أحل إلى ما حرم فأحكام الشرع هي حدوده.
بيان جزاء
معصية الله ورسوله وهو الخلود في2 النار والعذاب المهين فيها.
إن أريد
بالعصيان هنا: الكفر، فالخلود على بابه. وإن أريد بها الكبائر: فالخلود مستعار لمدة
ما كقولنا: خلد الله ملكك. وكقول زهير: ولا أرى خالداً إلا الجبال الرواسيا.
هذا الخلود
لمن كانت معصيته مكفرة له، أما من لم يكفر بمعصيته فإنه لا يخلد في النار، بل يخرج
منها بإيمانه كما بينت ذلك السنة الصحيحة.
(15) {وَاللاتِي}
: جمع التي، اسم موصول للمؤنث المفرد، واللاتي للجمع المؤنث.
الفاحشة:
هي الفعلة القبيحة. وهي مصدر كالعافية. يقال فحش الرجل يفحش فحشا.
وأفحش: إذا
جاء بالقبح من القول أو الفعل.
والمراد
بها هنا: الزنا.
سمي الزنا:
فاحشة لأنه تجاوز الحد في الفساد، إذ به يفسد الخلق والعرض والنسب والدين والمجتمع،
وكفى بهذا فساداً عظيماً.
النساء:
اسم جمع واحدة من غير لفظ: "امرأة" والمحصنات: جمع محصنة وهي التي تزوجت
زواجاً شرعياً، وسواء بقيت عليه أو تأيمت بموت أو طلاق.
والمراد
بالنساء في قوله مِنْ نِسائِكُمْ: النساء اللاتي قد أحصن بالزواج سواء أكن ما زلن
في عصمة أزواجهن أم لا. وهذا رأى جمهور الفقهاء.
وبعضهم يرى
أن المراد بالنساء هنا مطلق النساء سواء أكن متزوجات أم أبكارا.
فيكون
المعنى. أمسكوهن في البيوت إلى أن يتوفاهن الموت، أو إلى أن يجعل الله لهن سبيلا
أى مخرجا من هذه العقوبة.
وقد جعل
الله- تعالى- هذا المخرج بما شرعه بعد ذلك من حدود بأن جعل عقوبة الزاني البكر:
الجلد. وجعل عقوبة الزاني الثيب: الرجم وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن
مالك الأسلمى، ورجم الغامدية، وكانا محصنين.
قال الإمام
ابن كثير ما ملخصه: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة
العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ولهذا قال-
تعالى-:وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الآية. فالسبيل الذي
جعله الله هو الناسخ لذلك- أى لإمساكهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت-.
قال ابن
عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخه بالجلد أو الرجم.
(16){يَأْتِيَانِهَا}
: الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها.
منكم: أي
من المسلمين، إذ لا بد من أربعة شهود من المسلمين يشهدون بأنهم رأوا الفرج في
الفرج. مثل: الميل في المكحلة، لحديث أبي داود عن جابر قال: "جاءت اليهود
برجل وامرأة منهم زنيا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ي
بأعلم رجل منكم، فأتوه بابن صوريا، فناشدهما: كيف تجدان أمر هذين في التوراة.
قالا: نجد في التوراة إذا شاهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها، مثل الميل في
المكحلة رجماً. قال: فما يمنعمكا أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطانناً فكرهنا القتل.
فدعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهود فحضروا وشهدوا فأمر برجمهما
فرجما".
وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما.
أى واللذان
يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد
ليندما على ما فعلا، وليرتدع سواهما بهما.
وقد اختلف
العلماء في المراد بقوله وَالَّذانِ.
فمنهم من
قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا.
ومنهم من
قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط.
ومنهم من
قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب.
والمختار
عند كثير من العلماء هو الرأى الأول، قالوا: لأن الله- تعالى- ذكر في هاتين
الآيتين حكمين:
أحدهما:
الحبس في البيوت.
والثاني:
الإيذاء. ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني، والشرع يخفف في
البكر ويشدد على الثيب، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد،
فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب، والحكم الأخف وهو الإيذاء على البكر.
قالوا: وقد
نسخ حكم هذه الآية بآية النور، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة.
هذا، ولأبى
مسلم الأصفهاني رأى آخر في تفسير هاتين الآيتين، فهو يرى أن المراد باللاتى في
قوله وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ النساء السحاقات اللاتي
يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والمراد بقوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
اللائطون من الرجال وحدهم الإيذاء.
وأما حكم
الزناة فسيأتى في سورة النور.
قال
الآلوسى: وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد، وبأن الصحابة قد اختلفوا في حكم
اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص
يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك. وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة
السحاق لا معنى له. لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا. فلو كان المراد السحاقات
لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج. وحيث جعل هو
عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات
(17){بِجَهَالَةٍ}
: لا مع العمد والإصرار وعدم المبالاة.
تفسير
طنطاوى
(19){كَرْهاً}
: بدون رضاهن.
العضل:
المنع بشدة كأنه إمساك بالعضلات أو من العضلات.
{بِبَعْضِ
مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} : أي: من المهور.
الفاحشة:
الخصلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا.
{مُبَيِّنَةٍ}
: ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء.
من
المعاشرة بالمعروف: أن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا
فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها.
{بُهْتَاناً
وَإِثْماً} : أي: كذباً وافتراء، وإثماً حراماً لا شك في حرمته؛ لأنه ظلم.
{أَفْضَى
بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} : أي: خلص الزوج إلى عورة زوجته والزوجة كذلك.
{مِيثَاقاً
غَلِيظاً} : هو العقد وقول الزوج: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
{يَا
أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}
إبطال ما كان شائعاً بين الناس قبل الإسلام من الظلم اللاحق بالنساء، فقد كان
الرجل إ ذا مات والده على زوجته ورثها أكبر أولاده من غيرها فإن شاء زوجها وأخذ
مهرها وإن شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال فأنزل الله تعالى قوله:
{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهاً} . فبطل ذلك الحكم الجاهلي بهذه الآية الكريمة وأصبحت المرأة إذا مات
زوجها اعتدت في بيت زوجها فإذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها ما لها وما ورثته
من زوجها أيضاً وقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . فهذا حكم آخر وهو
أن يحرم على الزوج إذا كره زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدي منه ببعض مهرها، إذ
من معاني العضل المضايقة والمضارة، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا أو تترفع
عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت بفاحشة
مبينة لا شك فيها أو أنشزت نشوزاً بيناً فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه
بمهرها أو بأكثر حتى يطلقها، وذلك لقوله تعالى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ} ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل
والإحسان
(20 ، 21) الأيتين
تضمنتا: تحريم أخذ شيء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لإتيانها بفاحشة ولا
لنشوزها، ولكن لرغبة منه في طلاقها ليتزوج غيرها في هذه الحال لا يحل له أن يضارها
لتفتدي منه بشيء ولو قل، ولو كان قد أمهرها قنطاراً فلا يحل أن يأخذ منه فلساً
فضلاً عن دينار أو درهم هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً} أتأخذونه بهتاناً، أي: ظلماً بغير حق وكذباً وافتراء وإثماً، أي:
ذنبا ًعظيماً، ثم قال تعالى منكراً على من يفعل ذلك: وكيف تأخذونه أي: بأي وجه يحل
لكم ذلك، والحال أنه قد أفضى بعضهم إلى بعض أي: بالجماع، إذ ما استحل الزوج فرجها
إلا بذلك المهر فكيف إذا يسترده أو شيئاً منه بهتاناً وإثماً مبيناً، فقال تعالى:
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ؟ وقوله تعالى:
{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} يعني: عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول:
الزوج نكحتها على مبدأ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فأين التسريح بإحسان إذا
كان يضايقها حتى تتنازل عن مهرها أو عن شيء منه، هذا ما أنكره تعالى بقوله:
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إذ هو استفهام إنكاري. نعم إنكاري، وفيه معنى التعجب
أيضاً؛ لأنه أمر مستنكر ومتعجب منه لفظاعته وخروجه عن اللياقة والأدب.
روى أصحاب
السنن، وصححه الترمذي: أن عمر بن الخطاب كان يخطب فقال: "ألا لا تغالوا في
صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها
رسول الله ما أصدق قط امرأة من نساؤه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية، فقامت إليه
امرأة فقالت له يا عمر: أيعطينا الله وتحرمنا؟ أليس الله سبحانه وتعالى يقول:
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ؟ قال عمر:
أصابت امرأة وأخطأ عمر".
اختلف في
الإفضاء الذي يجب به المهر، قال عمر: "إن أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة
فقد وجب الصداق وعليها العدة، ولها الميراث وهو قول فصل. أما الإفضاء الذي تحل به
المطلقة ثلاثاً من الوطء لحديث: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"
والإفضاء في هذه الآية: الجماع أيضاً. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
من هداية
الأيتين
جواز أخذ
الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها؛
كالزنى أو النشوز.
جواز غلاء
المهر فقد يبلغ القنطار غير أن التيسير فيه أكثر بركة.
(22) {وَلا
تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} : لا تتزوجوا امرأة الأب أو الجد.
{إِلا مَا
قَدْ سَلَفَ} : إلا ما قد مضى قبل هذا التحريم.
{وَمَقْتاً}
: ممقوتاً مبغوضاً للشارع، ولكل ذي فطرة سليمة.
سأل ابن
الأعرابي عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات
عنها، ويقال لمن تزوج امرأة أبيه: الضيزن.
(23){أُمَّهَاتُكُمْ}
: جمع أم، فالأم محرمة ومثلها الجدة وإن علت.
{وَرَبَائِبُكُمُ}
: الربائب: جمع ربيبة هي بنت الزوجة.
{وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ} : الحلائل: جمع حليلة وهي امرأة الابن من الصلب.
ذكر محرمات
النسب فذكر الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت
فهؤلاء سبع محرمات من النسب قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ
وَبَنَاتُ الأُخْت} ، ثم ذكر المحرمات بالرضاع فقال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فمن رضع من امرأة خمس رضعات
وهو في سن الحولين، تحرم عليه ويحرم عليه أمهاتها وبناتها وأخواتها وكذا بنات
زوجها وأمهاته حتى قيل: يحرم1 من الرضاعة ما يحرم من النسب، ثم ذكر تعالى المحرمات
بالمصاهرة، فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد
أن يعقد على بنتها تصبح أمها حراماً. وقال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي
حُجُورِكُمْ} ، فالربيبة: هي بنت الزوجة إذا نكح الرجل امرأة وبنى بها لا يحل له
الزواج من ابنتها، أما إذا عقد فقط ولم يبين فإن البنت تحل له لقوله: {مِنْ
نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، أي: لا إثم ولا حرج.
ومن
المحرمات بالمصاهرة امرأة الابن بنى بها أم لا يبن، لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} أي: ليس ابناً بالتبني، أما الابن من
الرضاع فزوجته كزوجة الابن من الصلب؛ لأن اللبن الذي تغذ به هو السبب فكان إذاً
كالولد للصلبن، ومن المحرمات بالمصاهرة أيضاً: أخت الزوجة، فمن تزوج امرأة لا يحل
له أن يتزوج أختها حتى تموت أو يفارقها وتنتهي عدتها لقوله تعالى: {وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} في الجاهلية فإنه عفو بشرط
عدم الإقامة عليه.
سميت امرأة
الابن: حليلة؛ لأنها تحل معه حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وقيل: سميت حليلة؛
لأنها محللة له.
روي أن أبا
قيس توفى وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنة قيس امرأة أبيه، فقالت له: إني أعدك
ولداً، ولكني آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأستمره، فأتته
فأخبرته، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ
مِنَ النِّسَاء} .
وحرم
بالسنة المتواترة: الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
خالف مالك
رحمه الله تعالى ومن وافقه، فقالوا: لا فرق بين قليل الرضاع وكثيره، إذا وصل اللبن
إلى الأمعاء ولو مصة واحدة مع أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لا تحرم المصة ولا المصتان" رواه مسلم.
من هداية
الآيتين:
1- تحريم
مناكح الجاهلية إلا ما وافق الإسلام منها، وخاصة أزواج الآباء، فزوجة الأب محرمة
على الابن ولو لم يدخل بها الأب وطلقها أو مات عنها.
2- بيان
المحرمات من النسب وهن سبع: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات
الأخ، وبنات الأخت.
3- بيان
المحرمات من الرضاع وهن: المحرمات من النسب؛ فالرضيع يحرم عليه3 أمه المرضع له
وبناته، وأخواتها، وعماته وخالاته، وبنات أخيه، وبنات أخته.
4- بيان
المحرمات من المصاهرة، وهن سبع أيضاً: زوجة الأب بنى بها أو لم يبن، أم امرأته بنى
بابنتها أو لم يبن، وبنت امرأته وهي الربيبة إذا دخل بأمها، وامرأة الولد من الصلب
(24){وَالْمُحْصَنَاتُ}
: جمع محصنة ، والمراد بها هنا: المتزوجة.
وسميت
المتزوجة: محصنة لأن الرجل، أي: الزوج قد أحصنها، أي: حفظها باستقلاله بها عن
غيره.
{إِلا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : المملوكة بالسبي والشراء، ونحوهما.
{مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : أي: ما عداه، أي: ما عدا ما حرم عليكم.
{غَيْرَ
مُسَافِحِينَ} : المسافح: الزاني، لأن السفاح هو الزني.
الآية
الأولى (24) عطف تعالى على المحرمات في المصاهرة المرأة المتزوجة فقال:
{وَالْمُحْصَنَاتُ} أي: ذوات الأزواج، فلا يحل نكاحهن إلا بعد مفارقة الزوج بطلاق
أو وفاة، وبعد انقضاء العدة أيضاً واستثنى تعالى من المتزوجات المملوكة باليمين،
وهي: المرأة تسبى في الحرب الشرعية، وهي الجهاد في سبيل الله، فهذه من الجائز أن
يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب وبزوجها وأهلها
وأصبحت مملوكة، أذن الله تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين.
ولذا ورد
أن الآية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعة كانت بعد موقعة حنين فسبى فيها المسلمون
النساء والذراري، فتحرج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة، ومنهم المتزوجات، فأذن
لهم في غشيانهن بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة، أما قبل إسلامها فلا تحل
لابد من
مراعاة ما حرم بالسنة، وهو الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة خالتها، ولا الالتفات
إلى مذهب الخوراج: إذ يبيحون ذلك كما يبيحون الجمع بين الأختين، وعلة المنع هي: أن
الجمع يسبب قطعية الرحم.
{وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ4} ، أي: ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب وبالرضاع،
وبالمصاهرة على شرط أن لا يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في أول
السورة: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، أي: لا حرج عليكم أن تطلبوا
بأموالكم من النساء غير ما حرم عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال كونكم محصنين غير
مسافحين، وذلك بأن يتم النكاح بشروطه من الولي والصداق والصيغة والشهود، إذ أن
نكاحاً بغير هذه الشروط فهو السفاح، أي: الزنا، وقوله تعالى: {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} يريد تعالى:
أيما رجل تزوج امرأة فأفضى إليها، أي: وطئها إلا وجب لها المهر كاملاً، أما التي
لم يتم الاستمتاع بها بأن طلقها قبل البناء فليس لها إلا نصف المهر المسمى، وإن لم
يكن قد سمى لها إلا المتعة، فالمراد من قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ} أي: بنيتم بهن ودخلتم عليهن. وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} يريد إذا أعطى الرجل زوجته
ما استحل به فرجها، وهو المهر كاملاً فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط
المرأة من مهرها لزوجها، أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته
كما تقدم {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً}
استدل
الروافض بهذه الآية: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} على جواز نكاح
المتعة، وهو استدلال فاسد وباطل، ويكفي في بطلانه؛ إجماع أهل السنة والجماعة على
بطلانه، وإنه زنا إلى أنه لا يقام على صاحبه حد الرجم بالشبهة، والرسول صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ادرءوا الحدود بالشبهات". ونكاح المتعة رخص
فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة ثم أعلن عن حرمته. أعلن ذلك في
حجة الوداع ليعلم كل إنسان ذلك، ومن الأدلة على حرمة المتعة: أن المتمتع بها لا
ترث، والزوجة الشرعية ترث
(25){طَوْلاً}
: سعة وقدرة على المهر.
{الْمُحْصَنَاتِ}
: العفيفات.
{أُجُورَهُنَّ}
: مهورهن.
{وَلا
مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} : الخدين: الخليل الذي يفجر بالمرأة سراً تحت شعار
الصداقة.
{فَإِذَا
أُحْصِنَّ} : بأن أسلمن أو تزوجن، إذ الإحصان يكون بهما.
{الْعَنَتَ}
: العنت: الضرر في الدين والبدن.
الربع
والثمن.
{وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ... } الأية ... تضمنت بيان رحمة الله بعباده
المؤمنين إذ رخص لمن لم يستطع نكاح الحرائر لقلة ذات يده، مع خوفه العنت الذي هو
الضرر في دينه بالزنى، أو في بدنه
اختلف في
تحديد معنى الطول وأرجح الأقوال أنه: سعة المال، وعليه فلا يباح نكاح الأمة إلا
بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت. فلا يصح نكاح الأمة إلا باجتماعهما، ومن
كانت تحت حرة لا يجوز أن ينكح عليها أمة؛ لأن الحرة تدفع الحرة تدفع العنت عنه.
وحكى الإجماع على من كانت له أمة لا يحل له أن يتزوجها، بل يطئها بملك اليمين،
وذلك لتعارض حق الملك مع حق الزوجية، وإذا أعتقها فأصبحت حرة فله؛ حينئذ أن
يتزوجها.
وقوله
تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} -أي: الإماء- بالزواج وبالإسلام {فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ} أي: زنين فعليهن حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو جلد خمسين
جلدة وتغريب ستة أشهر؛ لأن الحرة إن زنت وهي بكر تجلد مائة جلدة وتغرب سنة.
من هداية
الأية
الصبر على
العزوبة خير من الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك.
يشهد لذلك
قول عمر رضي الله عنه: "أيما رجل تزوج أمة فقد أرق نصفه، يعني يصير ولده
رقيقاً، فالصبر على عدم التزوج بالإماء أفضل، لكي لا يرق الولد.
قال أبو
هريرة: "سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لحرائر
صلاح البيت، والإيماء هلاك البيت" أو قال: " فساد البيت".
(26) {سُنَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتنهجوا
نهجهم فتطهروا وتكملوا وتفلحوا مثلهم.
{وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ} : يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام.
(27){الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} : من اليهود والنصارى والمجوس والزناة.
أي: تغلبهم
شهواتهم مع مخالفة شرع الله لعباده من أمور الدين التي عليها مدار سعادة الإنسان
وكماله.
{أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} : تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث
والكدر بارتكاب المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعداً عظيماً.
{وَخُلِقَ
الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} : لا يصبر عن النساء، فلذا رخص تعالى لهم في الزواج من
الفتيات المؤمنات.
(28) من
هداية الأية : ضعف الإنسان أمام غرائزه لا سيما غريزة الجنس.
(29) ينهى
الله الذين أمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو القمار أو
الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم العديدة فيقول: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، أي: بغير عوض مباح، أو طيب نفس، ثم يستثنى ما كان
حاصلاً عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث: "إنما البيع عن
تراض" و" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"
كبيع
العربون بأن يقول لأخيه: خذ هذه العشرة دنانير إن أخذت السلعة، وإلا فهي لك. هذا
بيع باطل؛ لأنه لاحق له في أخذ العربون إن عجز أخوه عن أخذ السلعة له.
(31) {كَبَائِرَ
مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} : الكبائر: ضد الصغائر، والكبيرة تعرف بالحد لا بالعد،
فالكبيرة ما توعد الله ورسوله عليهما، أو لعن الله ورسوله فاعلها أو شرع لها حد
يقام على صاحبها، وقد جاء في الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر، وعلى المؤمن
أن يعلم ذلك ليجتنبه.
{نُكَفِّرْ}
: نغطي ونستر فلا نطالب بها ولا نؤاخذ عليها.
{مُدْخَلاً
كَرِيماً} : المدخل الكريم هنا: الجنة دار المتقين.
الذنوب
قسمان: كبائر، وصغائر. ولذا وجب العلم بها لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك،
ومن زل فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له
اجتناب
الكبائر إن كان المراد به: كبائر الذنوب فلابد من ضميمة أداء الفرائض، فإن اجتناب
الكبائر مع تضييع الفرائض غير مجد، وإن أريد باجتناب الكبائر تحاشي ترك الفرائض
والاحتماء من فعل الكبائر فذاك ويشهد لهذا حديث الصحيح: "الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر".
اختلف في
تحديد الكبيرة وفي عددها: أما العدد فقد قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال:
"هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع" وقد ورد النص في بعضها كحديث
مسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات" فعد منها ستاً. وفي أحاديث صحاح أخرى
ذكر عدداً آخر، والذي عليه أهل العلم أنها لا تعد ولكن تحد كما في التفسير، وأما
الصغيرة: فهي نسبية فالنظرة إلى اللمسة صغيرة، واللمسة إلى القبلة صغيرة وهكذا.
أهل
الكبائر الذين ماتوا يزاولونها ولم يغفر لهم ويشفع لهم فإنهم يطهرون وتزكوا نفوسهم
بعذاب النار ثم يغسلون أيضاً في نهر عند باب الجنة، يقال له: نهر الحيوان، فيدخلون
الجنة بنفوس زكية وأرواح طاهرة نقية.
(32){وَلا
تَتَمَنَّوْا} : التمني: التشهي والرغبة في حصول الشيء، وأداته: ليت، ولو، فإن كان
مع زوال المرغوب فيه عن شخص ليحصل للمتمني فهو الحسد.
{نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبُوا} : أي: حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية.
{وَلا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ} -من علم أو مال. أو صحة أو جاه أو سلطان-
{بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل،
فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمنى
ذلك تمنياً، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان ولا يتمنى النجاة
تمنياً كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسنته المنوطة به، ولا يتمنى فقط
فإن التمني كما قيل بضائع النوكى، أي: الحمقى
(33){مَوَالِيَ}
: الموالي: من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب.
{عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ} : أي: حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة واليمين.
{فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} : من الرفادة والوصية والنصرة لأنهم ليسوا ورثة.
التمني:
نوع إرادة يتعلق بالمستقبل، وعلى خلافه التلهف؛ لأنه يتعلق بالماضي، وسر النهي
عنه: أن فيه تعلق البال بالمتمني ونسيان الأجل، ولذا حرم التمني الذي هو الحسد،
وهو نوعان: تمني زوال النعمة من غيره لتحصل له، وتمني زوال النعمة من غيره ولو لم
تحصل له، وهو شر الحسد. وهل الغبطة من الحسد؟ والجواب: لا. والغبطة هي: أن يرى
العبد نعمة علم أو مال لأحد فيغتبط ويسأل الله تعالى أن يكون له ذلك العلم ليعلمه
ويعمل به، أو يكون له ذلك المال ليتصدق به. فهذه الغبطة محمودة لحديث البخاري:
"لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول
الرجل: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثله فهم في الأجر سواء ".
{وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي: أقارب يرثونه إذا مات، وذلك من النساء والرجال، أما
الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء فقط، أي: ليسوا من أولي الأرحام، فالواجب إعطاؤهم
نصيبهم من النصرة والرفادة. والوصية لهم بشيء إذ لاحظ لهم في الإرث، لقوله تعالى:
{وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، ولما كان توزيع المال
وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أنه على كل شيء شهيد
فلا يخفى عليه من أمر الناس شيء فليتق ولا يُعص.
هذه الآية
ناسخة لكل من الإرث بالتحالف والمؤاخاة، وهي كقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} ، وهو المقصود بقوله تعالى:
{والَّذين عَقَدت أيمَانكم} فقد كان الرجل في الجاهلية يقوله لمن أراد محالفته:
دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثي وأرثك. وأما
المؤاخاة: فقد كانت بين المهاجرين والأنصار بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فتوارثوا بها حتى نسخت بهذه الآية، وآية الأنفال: {وَأُولُوا
الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} .
(34){قَوَّامُونَ}
: جمع قوام: وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلاحاً.
{بِمَا
فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ} : بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح
للقوامة.
{وَبِمَا
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} : وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على
النساء فإن الرجل بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي
هي الرئاسة.
فَالصَّالِحَاتُ}
: جمع صالحة: وهي المؤدية لحقوق الله تعالى وحقوق زوجها.
{قَانِتَاتٌ}
: مطيعات لله ولأزواجهن.
{حَافِظَاتٌ
لِلْغَيْبِ} : حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن.
{نُشُوزَهُنَّ}
: النشوز: الترفع عن الزوج وعدم طاعته.
{فَلا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} : أي: لا تطلبوا لهن طريقاً تتوصلون به إلى ضربهن
بعد أن أطعنكم.
{وَاللاتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي: ترفعهن بما ظهر لكم من علامات ودلائل كأن يأمرها فلا
تطيع ويدعوها فلا تجيب وينهاها فلا تنتهي، فاسلكوا معهن السبيل الآتي:
{فَعِظُوهُنَّ} أولاً، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه وما يترتب
على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه، وبما قد ينجم من إهمالها في ضربها أو
طلاقها، فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات، وترهيب من عقوبة المفسدات العاصيات
فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية وهي: أن يهجرها2 الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو
نائم معها على فراش واحد وقد أعطاها ظهره فلا يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك
حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة الله ربهما معاً، وإن أصرت ولم يجد معها الهجران في
الفراش، فالثالثة وهي: أن يضربها1 ضرباً غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر2 عضواً.
لحديث مسلم في خطبة الوداع، إذ فيه: "واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوام
ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح،
ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
وأخيراً
فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب الزوج طريقاً إلى أذيتها لا يضرب ولا
بهجران لقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي: الأزواج {فَلا تَبْغُوا} أي:
تطلبوا {عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} لأذيتهن باختلاف الأسباب وإيجاد العلل والمبررات
لأذيتهن.
(35) {شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا} : الشقاق: المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق مقابل.
{حَكَماً}
: الحكم: الحاكم، والمحكوم في القضايا للنظر والحكم فيها. معنى الآيتين:
هذا الهجر
في الفراش شهر فلا يزيد عليه كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين
أسر إلى حفصة فأفشته لعائشة، ولا يكون كالإيلاء أربعة أشهر.
روى أبو
داود، والنسائي، وابن ماجة، أنه لما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا تضربوا إماء الله". فجاء عمر وقال: يا رسول الله ذئرت النساء على
أزواجهن فرخص صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء
كثير يشتكين أزواجهن. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد
طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم" ومعنى ذئرت
النساء: أي: نشزت وتغير خلقهن، أي: نشزن وأجترأن، والإجتراء هنا أولى بالمعنى.
النشوز:
العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، ويقال: نشز الرجل ينشز إذا كان
قاعداً فنهض قائماً. ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} ،
أي: ارتفعوا وقوموا. فنشوز المرأة: ترفعها عن طاعة الزوج.
(36){وَابْنِ
السَّبِيلِ} : المسافر استضاف أو لم يستضف.
{وَالْجَارِ
ذِي الْقُرْبَى} : أي: القريب لنسب أو مصاهرة.
{وَالْجَارِ
الْجُنُبِ} : أي: الأجنبي مؤمناً كان أو كافراً.
{وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ} : الزوجة، والصديق الملازم؛ كالتلميذ والرفيق في السفر.
{وَمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : من الأرقاء العبيد فتيان وفتيات.
(37){مُخْتَالاً
فَخُوراً} : الاختيال: الزهو في المشي، والفخر والافتخار بالحسب والنسب والمال
بتعداد ذلك وذكره.
الشرك
ثلاثة أنواع: شرك في ربوبية الله تعالى للعالمين. شرك في أسماؤه تعالى وصفاته.
وشرك في عبادته تعالى. والشرك بأنواعه الثلاثة من الذنب الذي لا يغفر لصاحبه إلا
بالتوبة الصادقة منه. ومن شرك العبادة: الرياء.
قالت عائشة
رضي الله عنها: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي. فقال: "إلى
أقربهما منك باباً" والجيران الثلاثة: جار له ثلاثة حقوق. وجار له حقان. وجار
له حق واحد. فالجار الذي له ثلاثة حقوق: فالجار المسلم القريب؛ حق الجوار، وحق
القرابة، وحق الإسلام. والجار الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق
الإسلام. والجار الذي له حق واحد: هو الكافر له حق الجواز.
{قَرِيناً}
: القرين: الملازم الذي لا يفارق صاحبه مشدود معه بقرن، أي بحبل.
التوحيد ضد
الشرك، وقد ورد في الشرك تحذيراً منه أحاديث صحاح منها حديث مسلم يقول الرسول
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء
عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
وأي داء
أدوأ من البخل "، وقال: "إ ياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم
بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا"، وفي رواية: " حملهم على أن
سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم".
(40){مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ} : المثقال: الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل، والذرة أصغر حجم
في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة.
الشهيد:
الشاهد على الشيء لعلمه به.
{تُسَوَّى
بِهِمُ الأَرْضُ} : يكونون تراباً مثلها.
{وَلا
يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} : أي: لا يخفون كلاماً.
(41){فَكَيْف إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} ؟ ومعنى الآية: فكيف تكون حال أهل الكفر
والشر والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد عليهما فيما أطاعت وفيما
عصت يتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإيمان والمعاصي
والطاعات، وجئنا بك أيها الرسول الخليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً
على هؤلاء، أي: على أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آمن به ومن كفر، إذ
يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معرفة رسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآثار الشهادة على العبد بيوم القيامة إذ
أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يوماً: "اقرأ عليَّ القرآن، فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: أحب
أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} حتى
وصلت هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية،
وإذا عينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تذرفان الدموع وهو يقول:
حسبك. أي: كفاك ما قرأت عليَّ".
إن بكاء
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا لسببين: الأول: المسرة التي نالته
بتشريف الله تعالى له في هذا المشهد العظيم، حيث يؤتى به شهيداً على أمته، لا يعرف
عدد أفرادها إلا الله خالقها، ويدخل الجنة بشهادته عدد لا يحصى. والثاني: الأسى
والأسف الذي يلحقه من رؤيته أعداداً هائلة من أمته يدخلون النار بشهادته عليهم. واليكاء:
يكون للمسرة والحزن معاً.
(43){عَابِرِي
سَبِيلٍ} : مارين بالمسجد مروراً بدون جلوس فيه.
{الْغَائِطِ}
: المكان المنخفض للتغوط: أي: التبرز فيه.
{لامَسْتُمُ
النِّسَاءَ} : جامعتموهن.
{فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً} : اقصدوا تراباً طاهراً.
لا شك أن
لهذه الآية سبباً نزلت بمقتضاه، وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حسب رواية
الترمذي أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم
أحدهم يصلي بهم، فقرأ بسورة الكافرون، وكان ثملان فقراً: قل يا أيها الكافرون أعبد
ما تعبدون، وهذا باطل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ1
آمَنُوا....} أي: يا من صدقتكم بالله ورسوله، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاة} أي: لا
تدخلوا فيها، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت يومئذ حلالاً غير حرام، حتى تكون
عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب فتعلموا ما تقولون في صلاتكم. ولا تقربوا
مساجد الصلاة للجلوس فيها، وأنتم جنب حتى تغتسلوا اللهم إلا من كان منكم عابر
سبيل، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي. {وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى} بجراحات يضرها الماء أو مرضى مرضاً لا تقدرون معه على استعمال الماء للوضوء
أو الغسل، أو كنتم {عَلَى سَفَرٍ2 أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بمضاجعهن أو مستموهن بقصد الشهوة {فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً} تغتسلون به إن كنتم جنباً أو تتوضأون به إن كنتم محدثين حدثاً أصغر
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي: اقصدوا تراباً طاهراً {فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} مرة واحدة فإن ذلك مجزئ لكم عن الغسل والوضوء، فإن
صح المريض أو وجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لانتفاء الرخصة بزوال المرض
أو وجود الماء. وقوله تعالى في ختام الآية {إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً}
يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده المؤمنين إذا خالفوا أمره،
وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه، ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما صلوا وهم
سكارى لم يعرفوا ما يقولون، وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليماً لهم وهداية لهم.
تقرير مبدأ
النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة.
روى أبو
داود في سننه: "أنه لما نزلت أية البقرة: {يَسْألوُنَك عَنْ الخَمر
والمَيِسْر} قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ولما نزلت هذه الآية
من النساء قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ولما نزلت آية المائدة:
{فَهلْ أنْتم مُنتَهون} قال: انتهينا يا ربنا".
وجوب الغسل
على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء، أجامع أهله فأولج ذكره1 في
فرج امرأته ولم لم ينزل ماء.
وكيفية
الغسل: أن يغسل كفيه قائلاً: بسم الله ناوياً رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل
فرجيه وما حولهما، ثم يتوضأ فيغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض ويستنشق الماء، ويستثره
ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل
رجليه إلى الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه، ثم يحثو الماء
على رأسه بغسله بكل حثوة، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يغسله، ثم على شقه الأيسر
يغسله. من أعلاه إلى أسفله، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبو عنه الماء
كالسرة وتحت الركبتين.
(44){يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ} : أي: الكفر بالإيمان.
(45){الأعداء}
: جمع عدو، وهو يقف بعيداً عنك يود ضرك ويكره نفعك.
(46){هَادُوا}
: أي: اليهود، قيل لهم ذلك لقولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} ، أي: تبنا ورجعنا.
{يُحَرِّفُونَ}
: التحريف: الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل.
{الْكَلِمَ}
: الكلام، وهو كلام الله تعالى في التوراة.
{وَاسْمَعْ
غَيْرَ مُسْمَعٍ} : أي: اسمع ما تقول لا أسمعك الله. وهذا كفر منهم صريح.
{وَطَعْناً
فِي الدِّينِ} : سبهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الطعن الأعظم في
الدين.
{وَانْظُرْنَا}
: وأمهلنا حتى تسمع فتفهم.
{وَأَقْوَمَ}
: أعدل وأصوب.
{لَعَنَهُمُ
اللهُ بِكُفْرِهِمْ} : طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روي أن هذه
الآيات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة، كان إذا كلم
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوى لسانه، وقال: راعنا سمعك يا محمد
حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعليه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله
{فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً}
{مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي: هم من اليهود
الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والكلام هو كلام الله تعالى في التوراة، وتحريفه
بالميل به عن القصد، أو بتبديله وتغييره تضليلاً للناس وإبعاداً لهم عن الحق
المطلوب منهم الإيمان به والنطق والعمل به. ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلك
كفراً وعناداً {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا3 وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ4} ، أي: لا أسمعك
الله {وراعنا} وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ اليهود يعدونها من الرعونة يقولونها لرسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباً وشتماً له قبحهم الله ولعنهم وقطع
دابرهم، وقوله تعالى: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} أي: يلوون
ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بخا حتى لا تظهر عليهم، ويطعنون بها رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله
تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا}
أي: انتظرنا بدل راعنا لكان خيراً لهم وأقوم، أي: أعدل وأكثر لياقة وأدباً، ولكن
لا يقولون هذا؛ لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب كفرهم فهم لا يؤمنون
إلا قليلاً. أي: إيماناً لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا
يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة.
{مِنَ
الّذينَ هَادُوا} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا، جماعة يحرفون الكلم عن
مواضعه، و"من" تبعيضية.
قال ابن
عباس رضي الله عنهما: "إنهم كانوا يقولون: سمعنا قولك وعصينا أمرك".
وعن ابن
عباس رضي الله عنهما: "أن مرادهم من قولهم: {واسْمَع غَيرْ مُسْمع} اسمع لا
سمعت".
{أُوتُوا
الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى، والمراد بهم هنا اليهود لا غير.
{نَطْمِسَ
وُجُوهاً} : نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها.
{فَنَرُدَّهَا
عَلَى أَدْبَارِهَا} : نجعل الوجه قفا، والقفا وجهاً.
{كَمَا
لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} : لعنهم: مسخهم قردة خزياً لهم وعذاباً مهيناً.
قال
القرطبي: قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤساء من
أحبار يهود منهم: عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وقال لهم: "يا معشر يهود
اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق". قالوا: ما
نعرف ذاك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
من هداية
الآية:
المفروض أن
ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره
الشر والإصرار عليه لا ينفعه العلم، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله
تعالى إلى الإيمان فلم يؤمنوا.
قال مالك
رحمه الله تعالى: "كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ
هذه الآية: {يَا أهْل الكتاب ... } إلخ. فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقري إلى بيته
فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي".
(48)روى
الترمذي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "ما في القرآن آية أحب
إلي من هذه الآية {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} "، قال هذا حديث حسن غريب.
يروى أنه
لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً} قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ1 بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فأخبر تعالى عن
نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت
المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها، وإن شاء آخذه بها وعذبه، وأن من
يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأنه من لا حق
له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل، ومن هنا كان ذنبه عظيماً.
سائر
الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف.
(49)تزكية
النفس: تبرئتها من الذنوب والآثام.
{يُزَكِّي
مَنْ يَشَاءُ} : يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس،
وإعانته عليه.
الفتيل:
الخيط الأبيض يكون في وسط النواة، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو
جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها.
(50){الْكَذِبَ}
: عدم مطابقة الخبر للواقع.
ومن جملة
أقوالهم في تزكية نفوسهم بأفواههم قولهم: "لا ذنب لنا وما فعلناه نهاراً يغفر
لنا ليلاً"، وما فعلناه ليلاً يغفر لنا نهاراً" وقولههم: "نحن
كالأطفال في عدم الذنوب". وثناء بعضهم على بعض.
من هداية
الايتين:
حرمة تزكية
المرء نفسه بلسانه والتفاخر بذلك، إما طلباً للرئاسة، وإما تخلياً عن العبادة
والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته، ورضى الله تعالى عنه.
الله يزكي
عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من
صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية النفس البشرية وتطهيرها.
روى مسلم
عن عمر بن عطاء، قال: سميت ابنتي: برة. فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن هذا الاسم، وسميت برة. فقال رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتزكون أنفسكم الله أعلم بأهل البر
منكم". فقالوا: بما نسميها؟. فقال: "سموها زينب". قال الدارقطني:
فدل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه. ويجري هذا المجرى ما قد كثر
في هذه الديار المصرية. من نعت أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية: كزكي الدين،
ومحي الدين، وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسلمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه
النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئاً.
(51){بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ} : الجبت1: اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغون سواء كانا صنمين
أو رجلين.
أهدى
سبيلا: أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما.
روي أن
جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب
لحرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نزلوا مكة قالت قريش:
نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم
خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله
{عَظِيماً} . وهذا شرحها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ
الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ألم ينته إلى علمك أيها
الرسول: أن الذين أوتوا حظاً من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت
ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى {وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وهم مشركوا قريش: دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقاً
في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب
والتعجب لأهل العلم والمعرفة بالدين الحق، إذ يقرون الباطل ويصدقون به؟ {أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ} أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة، البعيدون في أغوار
الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى
أخرج أبو
داود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الطرق والطيرة
والعياثة من الجبت" والمراد من الطرق: الخط بخط في الأرض للبحث عن معرفة ما
يحدث للإنسان. والعياثة: زجر الطير للتشاؤم والتيمن، والطيرة: التطير. وأصل الجبت:
الجبس، وهو مالا خير فيه.
(53){نَقِيراً}
: النقير: نقرة في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها.
الحسد:
تمني زال النعمة عن الغير والحرص على ذلك.
(54){وَالْحِكْمَةَ}
: السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإلهي.
{أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} أم بمعنى
بل كسابقتها للإضراب -الانتقال من حال سيئة إلى أخرى، والهمزة للإنكار ينكر تعالى
عليهم حسدهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين على النبوة والدولة،
وهو المراد من الناس وقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ}
؛ كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكمة التي هي السنة التي كانت
لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى، وكلها علم نافع وحكم صائب سديد،
والملك العظيم هو ما كان لداود وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا
يحسدون محمداً والمسلمين، والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل
والجهل مع العلم.
فَمِنْهُمْ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آمن بالنبي محمد ورسالته، وهم القليل،
{وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي: انصرف وصرف الناس عنهم وهم الأكثرون {وَكَفَى
بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} لمن كفر حسداً وصد عن سبيل الله بخلاً ومكراً، أي: حسبه
جهنم ذات السعير جزاء له على الكفر والحسد والبخل، والعياذ بالله تعالى.
(56)روي أن
جلودهم تبدل في الساعة مائة مرة، وروي أن هذه الآية تليت عند عمر رضي الله عنه
فقال عمر للقارئ: أعدها فأعادها عليه. وعنده كعب فقال: يا أمير المؤمنين أنا عندي
تفسير لها. فذكر أنه تبدل في الساعة الواحدة مائة وعشرين مرة.
(57){سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو
يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائض ودم الحيض. وقوله تعالى:
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} وارفاً كنيناً يقيهم الحر والبرد. وحدث يوماً
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "في الجنة شجرة تسمى شجرة
الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها".
(58) روي
أن الآية الأولى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ} نزلت في
شأن عثمان بن طلحة الحجبي، حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادناً، فطلبه رسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه صبيحة يوم الفتح، فصلى في البيت ركعتين
وخرج، فقال العباس رضي الله عنه أعطينيه يا رسول الله، ليجمع بين السقاية
والسدانة، فانزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها فقرأ رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية على الناس، ودعا عثمان بن طلحة وأعطاه المفتاح. غير أن
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على
شيء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه3 إلى صاحبه
السادن:
الخادم للبيت، وتسمى هذه المهنة: السدانة.
من هداية
الأية : الإجماع على وجوب رد الأمانات لأصحابها كفاراً أو مؤمنين، فجاراً أو
أبراراً.
(59) {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} : أحسن عاقبة، لأن
تأويل الشيء ما يؤول إليه في آخر الأمر.
من هداية
الأية : العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإسلام ما تنازع فيه
إلى كتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(60 - 63){يَزْعُمُونَ}
: يقولون كاذبين.
{الطَّاغُوتِ}
: كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة، والمراد به هنا: كعب بن الأشرف اليهودي أو
كاهن من كهان العرب.
قيل فيه
طاغوت لأنه ذو طغيان زائد في الظلم والشر والفساد.
روي أن
منافقاً ويهودياً اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى
كعب بن الأشرف اليهودي، فتحاكما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فقضى لليهودي فنزلت فيهما هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} والمراد بهذا المنافق، {وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ، والمراد به اليهودي، والاستفهام للتعجب. ألم ينته إلى
علمك موقف هذين الرجلين {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}
"كعب بن الأشرف" أو الكاهن الجهني، وقد أمرهم الله أن يكفروا به
{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} ، حيث زين لهم لهم
التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون
عنك اعراضاً هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} وحلت بهم بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين
عنك؟ أم ماذا؟ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ} قائلين، ما أردنا إلا الإحسان
في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث، وأما
الرابعة وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}
فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط، فيقول: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من النفاق والزيغ فهم عرضة
للنقمة وسوء العذاب، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فلا تؤاخذهم، {وَعِظْهُمْ} آمراً إياهم
بتقوى الله والإسلام له ظاهراً وباطناً، مخوفاً إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك
التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولاً بليغاً ينفذ إلى
قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.
هؤلاء هم
قوم القتيل المنافق جاءوا يطالبون بدية أخيهم في النفاق، وقالوا: الكثير أكثر مما
ذكر في الآية، وكل أقوالهم باطلة أملاها النفاق، ولذا أمر الرسول بالإعراض عنهم.
روي أن
المنافق لم يرض بحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذهب باليهودي
إلى أبي بكر فحكم بحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يرض المنافق
فذهب بخصمه اليهودي إلى عمر، فذكر له اليهودي القصة، فقال عمر للمنافق وهو يشير:
أكذا هو؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به
المنافق حتى برد، وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. وهرب
اليهودي ونزلت هذه الآية وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر:
"أنت الفاروق".
(64){وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية نزلت في الرجلين اللذين
أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ واستغفارهما الله تعالى، واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما،
وإلا فلا توبة لهما، أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.
(65) شجر:
اختلط واختلف، ومنه سمي الشجر شجراً لاختلاط أغصانه
قيل أن هذه
الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} نزلت في الزبير والأنصاري في قضية سقي
البستان، إذا اختلفا وأتيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير: "اسقي يا زبير أرضك ثم أرسل
الماء إلى أرض جارك". أي: الأول، فقال الأنصاري: أراك تحابي ابن عمتك. فتلون
وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال للزبير: "اسق ثم أحبس
الماء حتى يبلغ الجدر"، فنزلت الآية. والحديث في صحيح البخاري.
(66) روي
أنه لما نزلت هذه الآية: {وَلو أنا كَتبْنا} قال أبو بكر الصديق: "لو أمرنا
لفعلنا"، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إن
من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي".
ما زال
السياق في الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا
أن يكفروا به فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} أي: يقتل بعضكم بعضاً كما حصل ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا كما أنا
لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا {مَا فَعَلُوهُ إِلا
قَلِيلٌ} منهم. ثم قال تعالى داعياً لهم مرغباً لهم في الهداية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي: ما يذكرون به ترغيباً وترهيباً من أوامر الله
تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيراً في الحال والمآل، {وَأَشَدَّ
تَثْبِيتاً} للإيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم
(69) في
هذه الآية إشارة أصرح من عبارة: على خلافة أبي بكر لرسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ ذكر الله تعالى الأنبياء ثم ثنى بالصديقين، وقد أجمع
المسلمون على تسمية أبي بكر بالصديق، كما أجمعوا على تسمية محمد صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبي، فدل على تعيين خلافة أبي بكر، إذ لم يقدم عليه أحد في
الذكر سوى الأنببياء.
(71) {خُذُوا
حِذْرَكُمْ} : الحذر والحذر: الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه.
{فَانْفِرُوا
ثُبَاتٍ} : النفور: الخروج في اندفاع وانزعاج، والثبات: جمع ثبت، وهي: الجماعة.
(72){لَيُبَطِّئَنَّ}
: أي: يتبطأ في الخروج فلا يخرج.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا
جَمِيعاً} ينادي الله تعالى عباده المؤمنين، وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة
وإدخاله في حظيرة الإسلام، خذوا الأهبة والاستعداد حتى لا تلاقوا عدوكم وأنتم ضعفاء،
قوته أشد من قوتكم {فانفروا ثباتٍ} عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى {أَوِ
انْفِرُوا جَمِيعاً} بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه القيادة
ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم، أي: من عدادهم وأفراد مواطنيهم لمن والله ليبطئن عن
الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معاً؛ لأنه لا يريد لكم نصراً لأنه منافق كافر
الباطن وإن كان مسلم الظاهر
من هداية
الأية : وجوب أخذ الأهبة والاستعداد التام على أمة الإسلام في السلم والحرب سواء.
(74){يَشْرُونَ}
: يبيعون، إذ يطلق الشراء على البيع أيضاً.
(75){وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}
: المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه.
(76){فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} : أي: في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان، ونشر الفساد.
فرضية
القتال في سبيل الله ولأجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالاً
للباطل.
لا يمنع
المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف.
(77){فَتِيلاً}
: الفتيل: خيط يكو في وسط النواة.
روى أن
بعضاً من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالبوا بالإذن لهم بالقتال
ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب القتال، فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
ريثما بأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين، ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن
القتال وقالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} متعللين بعلل واهية،
فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين (77) و (78)
(81)
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} أي: ويقول أولئك المنافقون السيئو الفهم لما تقول: طاعة
أي: أمرنا طاعة لك، أي: ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت، فنحن
مطيعون لك {فَإِذَا بَرَزُوا} أي: خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول
واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك، وفي مجلسك، والله تعالى يكتب بواسطة ملائكته
الكرام الكاتبين ما يبيتونه من الشر والباطل. وعليه {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} ولا تبال بهم {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} فهو حسبك
وكافيك ما يبيتونه من الشر لك.
بيتوا:
زوروا وبدلوا، إن التبييت: هو تدبر الأمر بالليل حيث اتساع الوقت والفراغ من العمل
وقلة العيون، وبيتوا العدو: أتوه ليلاً، قال الشاعر:
أجمعوا
أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
(82) في
هذه الآية: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} مع آية سورة القتال: {أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} دليل على وجوب تدبر
القرآن لفهم معانيه، لاعتقاد الحق والعمل به، وفيه رد على من زعم أنه لا يؤخذ من
القرآن إلا ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفسيره، ودليل على
وجوب النظر والاستدلال وإبطال التقليد.
من هداية
الأية : وجوب تدبر القرآن لتقوية الإيمان
آية أن
القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.
(83){وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} يخبر الله تعالى
عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعياً عليهم إرجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} أي: إذا وصل من سرايا
الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا بإفشائه وإذاعته، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن
الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر؛ لأن حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر
عنه بالأمن فهم يعلنونه حسداً أو طمعاً، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف
يعلنونه فزعاً وخوفاً؛ لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم، قال تعالى في تعليمهم وتعليم
غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ} القائد الأعلى، {وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} وهم أمراء السرايا
المجاهدة {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: لاستخرجوا سر
الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعاً أذاعوه، وإن كان ضاراً أخوفه.
الاستنباط
مأخوذ من: استنبط الماء، إذا استخرجه من الأرض، والنبط: الماء المستنبط أول ما
يخرج من ماء البئر أو ما يحفر. وسمي النبط نبطاً؛ لأنهم يستخرجون ما في الأرض،
والاستنباط لغة الاستخراج، وفي هذه الآية دليل على الاجتهاد.
من هداية
الأية : وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يطاع لذاته
وإنما يطاع لذات الله عز وجل.
تقرير مبدأ
أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا حتى لا يقع الاضطراب في صفوف
المجاهدين والأمة كذلك.
أكثر الناس
يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي.
(84) {وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ} : حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال.
{بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا} : قوتهم الحربية.
{وَأَشَدُّ
تَنْكِيلاً} : أقوى تنكيلاً، والتنكيل: ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل
عن الظلم.
في الآية
دليل على شجاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخارقة للعادة، إذ كلفه
الله به على انفراد وأمره بتحريض المؤمنين على القتال، ومعنى هذا: أنه أمره
بالجهاد ولو كان وحده، ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله
لأقاتلهنم حتى تنفرد سالفتي"، أي: حتى أموت. وتحريض المؤمنين هو أمرهم
بالقتال وحثهم عليه لا على سبيل الإلزام، كما ألزم به هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
ليس من حق
الحاكم أن يجند المواطنين تجنيداً إجبارياً، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد
ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب.
(85) الشفاعة:
الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر فهي
السيئة.
الشفاعة من
الشفع، وهو الزوج ضد الفرد، وسميت شفاعة؛ لأن الشفيع يصير مع المشفوع له شفعاً،
أي: زوجاً، والشفعة: ضم ملك إلى ملك.
{كِفْلٌ
مِنْهَا} : نصيب منها.
{مُقِيتاً}
: مقتدراً عليه وشاهداً عليه حافظاً له.
(86) في
الآية سنية إلقاء السلام ووجوب رده وقد بينت السنة أن القليل يسلم على الكثير،
والقائم على القاعد، والراكب على الماشي، وأن الراد يكون بزيادة: ورحمة الله
وبركاته. وأنه لا يسلم على المرأة الصغيرة خشية الفتنة. وأن المصلي إن سلم عليه رد
السلام بالإشارة إن شاء الله.
(88){أَرْكَسَهُمْ}
: الارتكاس: التحول من حال حسنة إلى حال سيئة؛ كالكفر بعد الإيمان، أو الغدر بعد
الأمان وهو المراد هنا.
الفئة:
الطائفة، اشتق لفظها من الفيء الذي هو الرجوع، إذ أفرادها يرجع بعضهم إلى بعض،
وأصلها فيء، فحذفت الياء من وسطها لكثرة الاستعمال فصارت: فئة، بعد زيادة هاء
التأنيث عوضاً عن الياء المحذوفة.
{وَلِيّاً
وَلا نَصِيراً} : الولي: من يلي أمرك، والنصير: من ينصرك على عدوك.
{يَصِلُونَ}
: أي: يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم.
{حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ} : ضاقت.
{الْفِتْنَةِ}
: الشرك.
{ثَقِفْتُمُوهُمْ}
: وجدتموهم متمكنين منهم.
{سُلْطَاناً
مُبِيناً} : حجة بين على جواز قتالهم.
لما ذكر
تعالى الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب، أي: القادر على الحساب والجزاء،
أخبر عز وجل أنه الله الذي لا إله إلا هو، أي: المعبود دون سواه لربوبيته على
خلقه، إذ الإله الحق ما كان رباً خالقاً رازقاً مدبراً بيده كل شيء وإليه مصير كل
شيء، وأنه جامع1 الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة.
هذا ما دلت
عليه الآية الكريمة: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} ، ولما كان هذا خبراً يتضمن وعداً ووعيداً أكد
تعالى إنجازه، فقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} اللهم إنه لا أحد أصدق
منك.
أما الآيات
الأربع الباقية، وهي (88) و (89) و (90) و (91) فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل
حربية معينة، أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهم ضليعون في
موالاة الكافرين، وقد يكونون في مكة2، وقد يكونون في المدينة، فرأى بعض الأصحاب أن
من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا
يدعون الإيمان لعلهم بمرور الأيام يتوبون. فلما اختلفا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل
الله تعالى هذه الآيات فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ1 بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ
اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} ومعنى الآية، أي: شيء
صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من
الذنوب العظام. أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله، وهل يقدر أحد على
هداية من أضله الله؟ وكيف، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له
هادٍ، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.
(90)
استثنى رب العزة سبحانة و تعالى للمؤمنين صنفين من المنافقين المذكورين فلا
يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم، الصنف الأول الذين ذكرهم تعالى بقوله {إِلا
الَّذِينَ يَصِلُونَ} أي: يلجأون {إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ4
مِيثَاقٌ} فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا
عهدكم. والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم،وقتال قومهم فهؤلاء الذين يلم
يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم
واصبروا عليهم، إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم
(91) قوله
تعالى: ستجدون قوماً آخرين غير الصنفين السابقين {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} فهم إذاً يلعبون على الحبلين كما يقال {كُلَّ مَا
رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} أي: إلى الشرك {أُرْكِسُوا فِيهَا} أي: وقعوا فيها
منتكسين، إذ هم منافقون، إذ كانوا معكم عبدوا الله وحده، وإذا كانوا مع قومهم
عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك، وهو معنى قوله تعالى:
{كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} ، وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ
فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: إن لم يعتزلوا
قتالكم ويلقوا إليكم السلام، وهو الإذعان والانقياد لكم، ويكفوا أيديهم فعلاً عن
قتالكم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ
جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي: حجة واضحة على جواز أخذهم
وقتلهم حيثما تمكنتم منهم
(92)حكم من
قتل خطأ أن يعتق رقبة ذكراً كانت أو أنثى مؤمنة وأن يدفع الدية لأولياء القتيل إلا
أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها والدية مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب،
أو اثنا عشر ألف درهم فضة.
ومن الغنم:
ألف شاة، وهل الإبل تخمس خلاف، ومذهب الشافعي ومالك أنها تخمس؛ فعشرون حقه، وعشرون
جزعه، وعشرون بنات مخاص، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور. وتغلظ دية
العمد، بأن يكون أربعون منها في بطونها أولاده، وشبه العمد: ما كان بأداة لا تقتل
عادة؛ كالعصا ونحوها لحديث: "ألا أن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط
والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها".
أكثر أهل
العلم: أن دية المرأة على نصف دية الرجل، وإن دية الجنين إذا سقط حياً دية كاملة،
وإذا سقط ميتاً فديته غرة عبد أو أمة، ومعنى: غرة: أن يكون أبيض لا أسود فيقوم
العبد وتعطي قيمته دية.
(93) بينت
الأية حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً لما قضى
الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما
لم يعف أولياء الدم فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها وإن طالبوا بالقصاص
اقتصوا، إذ هذا حقهم وأما حق الله تعالى: فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله،
فالله تعالى رب العبد خصمه وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها
القتل
العمد العدوان يجب له أحد شيئين: القصاص. أو الدية حسب رغبة أولياء الدم وإن عفوا
فلهم ذلك وأجرهم على الله تعالى، وعذاب الآخرة وعيد إن شاء الله أنجزه وإن شاء عفا
عنه.
(94) روي
أن نفراً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرجوا فلقوا رجلاً
يسوق غنماً من بني سليم، فلما رآهم سلم عليهم قائلاً: السلام عليكم. فقالوا له: ما
قلتها إلا تقية لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه. فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} يريد خرجتم مسافرين للغزو
والجهاد {فَتَبَيَّنُوا} ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم، أو
كافرين فتقاتلوهم {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} أعلن
إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام {لَسْتَ مُؤْمِناً} فتكذبونه في دعواه الإسلام
لتنالوا منه: {تَبْتَغُونَ} بذلك {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: متاعها
الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية
والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلُ} أي: مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفاً
من قومكم {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون
دينكم. مستقبلاً، ولا تقتلوا أحداً حتى تتأكدوا من كفره وقوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تذييل يحمل الوعد والوعيد، الوعد لمن أطاع، والوعيد
لمن عصى، إذ لازم كونه تعالى خبيراً بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها، وهو على
كل شيء قدير.
(95) من
هداية الأية : أصحاب الأعذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في
الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام بهم من أعذار وللمجاهدين فعلاً درجة تخصهم دون ذوي
الأعذار.
روى
البخاري تعليقاً، وغير واحد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قفل
عائداَ من إحدى غزواته، قال: "إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم
مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر".
(97){ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ} : بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم.
ظلم النفس:
أن يفعل العبد فعلاً يؤول إلى مضرته، فهو بذلك ظالم لنفسه، والمراد به هنا: ترك
الهجرة إذ يترتب عليها ترك العبادة فتخبث النفس، وذلك ظلم لها.
{إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حيث تركوا الهجرة
ومكثوا في دار الهون يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم.
هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم {فِيمَ كُنْتُمْ} ؟
تسألهم هذا السؤال؛ لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك على الصالحات، فيقولون
متعذرين: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} فلم نتمكن من تطهير أرواحنا
بالإيمان وصالح الأعمال، فترد عليهم الملائكة قولهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله عن الحكم فيهم بقوله:
{فَأُولَئِكَ} البعداء {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} وساءت جهنم مصيراً يصيرون إليه
ومأوى ينزلون فيه.
(98) من
هداية الأية : أصحاب الأعذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة.
روى ابن
أبي حاتم عن ابن عباس رضي تعالى عنهما: "أن ضمرة بن جندب خرج إلى رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيته} .
الهجرة: هي
الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي فريضة من فرائض الإسلام، وهي هجر
متعددة، منها: الهجرة من بلاد البدعة، قال مالك: "لا يحل لمؤمن أن يقيم بأرض
يسب فيها السلف الصالح"، ومنها: الخروج من أرض غلب عليها الحرام، إذ طلب
الحلال فريضة، ومنها: أن يؤذى المسلم في دينه أو عرضه أو ماله، ومنها: الخوف من
المرض ما لم يكن طاعوناً فإنه يحرم الفرار منه، ومنها: ألا يكون في بلده من يعرف
أحكام الشريعة فيها جر لطلب ذلك.
(101) {ضَرَبْتُمْ
فِي الأَرْضِ} : أي: مسافرين مسافة قصر، وهي: أربعة برد، أي: ثمانية وأربعون
ميلاً.
{أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} : بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين، والعشاء ركعتين
لطولها.
{إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} : هذا خرج مخرج الغالب، فليس الخوف بشرط في القصر
وإنما الشرط السفر.
من أحكام
صلاة السفر: أن المسافر لا يشرع في التقصير حتى يتجاوز مباني المدينة التي يسكنها،
وأن المسافر إذا صلى وراء مقيم يتم معه، وأن المسافر إذا أم غيره قصر والمقيم يتم،
وأنه يشرع له الجمع بين الظهرين، والعشاءين تقديماً أو تأخيراً.
بمناسبة
الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير
الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي: سرتم
فيها1 مسافرين {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي: حرج وإثم في {أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبينت السنة
أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالي فقط، وقال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ
كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين،
فلذا شرع لهم هذه الرخصة.
(101 ،
103) بينت هاتين الأيتين صلاة الخوف وصورتها: أن ينقسم الجيش قسمين قسم يقف تجاه
العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة، ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة، ويسلمون
ويقفون تجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفاً تجاه العدو فيصلي بهم الإمام
القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم
لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة،
(105 : 109) روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن
أبيرق وإخوته هم ثلاثة أنفار: بشر، وبشير، ومبشر. يقال لهم: بنو أبيرق.
، وكان قد
سرق درعاً من دار جارٍ له يقال له قتادة وودعها عند يهودي، يقال له: يزيد بن
السمين، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي، وقالوا هو
السارق، وأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحلفوا على براءة أخيهم
فصدقهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني
أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة، ولما افتضح طعمة وكان
منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار
فمات تحته كافراً.. وهذا تفسير لآيات قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ} أي: القرآن، أيها الرسول {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ
اللهُ}
شهد لهذا
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "إنما أنا بشر وإنكم
تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن حجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن
قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار".
{بِمَا
أَرَاك الله} معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي.
أي: بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك
من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} أي:
مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة
عنهم بأيمانهم الكاذبة. {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ} من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي،
{إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} فيغفر لك ما هممت به ويرحمك {وَلا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} حيث اتهموا اليهودي كذباً
وزوراً، {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} كطعمة بن أبيرق
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} حياء منهم، {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ} ولا
يستحيون منه، وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة
بإلصاقها باليهودي البريء، وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي هذا
القول مما لا يرضاه الله تعالى.. وقوله عز وجل: {وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطاً} فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي ثم اتهامهم اليهودي،
وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى، والله به محيط، فسبحانه من
إله عظيم. وقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} أي: يا هؤلاء {جَادَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} هذا الخطاب موجه إلى الذين
وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله: {هَا
أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} ، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا
عنهم تهمة السرقة {فَمَنْ4 يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس
شيئاً والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعاً شديداً لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً
كهذا.
(110) {سُوءاً}
: السوء: ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير.
{أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ} : ظلم النفس: بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا.
(111) {إِثْماً}
: الإثم: ما كان ضاراً بالنفس فاسداً.
(112) {احْتَمَلَ
بُهْتَاناً} : تحمل بهتاناً: وهو الكذب المحير لمن رمي به.
هذا السياق
معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق، وهو يحمل الرحمة الإلهية لأولئك الذين
تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل
سوءاً يؤذي به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب
ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإنابة إليه يتب الله تعالى
عليه ويقبل توبته
(113){وَلَوْلا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} ، والمراد
بالطائفة التي ذكر الله تعالى هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله: {وَمَا يُضِلُّونَ
إِلا أَنْفُسَهُمْ} ، فهو كما قال عز وجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره
ذلك وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}
امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه
الحكمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم، وما أوحى إليه من العلوم والمعارف
التي كلها نور وهدى مبين، وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا
كان فضله على رسوله عظيماً، فلله الحمد والمنة.
تأثير
الكلام على النفوس حتى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاد يضلله بنو
أبيرق فيبرئ الخائن ويدين البريء إلا أن الله عصمه.
(114){نَجْوَاهُمْ}
: النجوى: المسارة بالكلام، نجواهم: أحاديثهم التي يسرها بعضهم إلى بعض.
النجوى:
مشتقة من نجوت الشيء، أنجوه، إذا خلصته وأفردته، والنجوي من الأرض ما ارتفع منها
دون ما حواليه، ومن ناجى أحداً فقد خلصه وأفرده له. وتسمى الجماعة: نجوى نحوهم،
عدل. قال تعالى: {وإذْ هُم نَجْوى} .
المعروف
لفظ يعم جميع ألفاظ البر، أمر الله تعالى في كتابه فقال: {خُذْ العُفوْ وأمر
بالعُرف} أي: المعروف.
ما زال
السياق في بني أبيرق ففي الآية الأولى (114) يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من
أولئك المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر
أصحابها بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين، أو معروف1 استحبه الشارع أو أوجبه
من البر والإحسان أو إصلاح بين الناس للإبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين. ثم
أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس طلباً
لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب ألا وهو الجنة دار السلام إذ لا أجر
أعظم من أجر يكون الجنة.
ورد في
إصلاح ذات البين الكثير من الأحاديث، منها: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى يا
رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين" رواه الترمذي وصححه وقال: "ليس
الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً".
من هداية
الأية : - حرمة تناجي اثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة.
-
الاجتماعات السرية لا خير فيها إلا اجماعاً كان لجمع صدقة، أو لأمر بمعروف أو
إصلاح بين متنازعين من المسلمين مختلفين.
(115){يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ} : يحاده ويقاطعه ويعاديه. كمن يقف في شق، والآخر في شق.
{وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} : أي: يخرج عن إجماع المسلمين.
{نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى} : نخذله فتتركه وما تولاه من الباطل والشر والضلال حتى: يهلك فيه.
فى هذه
الأية يتوعد الله تعالى أمثال طعمة بن أبيرق، فيقول جل ذكره: {وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ} أي: يخالفه ويعاديه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي: من
بعد ما عرف أنه رسول الله حقاً جاء بالهدى ودين الحق، ثم هو مع معاداته للرسول
يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم هذا الشقي الخاسر {نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى} أي: نتركه لكفره وضلاله خذلاناً له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترف
فيها، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها.
من هداية
الأية : - حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل
الإسلام إلا في دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم.
(116){إِنَّ
اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ} إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك،
أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر لهم وإن
شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والفكر. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} أي: ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن
الحق بعداً كبيراً وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته.
في هذه الآية
رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنب دون الشرك، ويوجبون الخلود في النار لمن مات
على كبيرة، قال علي رضي الله عنه: "ما في القرآن أحب إلي من هذه: {إِنَّ
اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ} " رواه الترمذي.
(117){إِلا
إِنَاثاً} : جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة، أو أمواتاً لأن الميت يطلق عليه لفظ أنثى
بجامع عدم النفع.
{الشَّيْطَانُ}
: الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنياً أو إنسياً.
{مَرِيداً}
: بمعنى ما رد على الشر والإغواء للفساد.
{إِنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً} هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله، فأخبر
تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا
يعقلون. إذ أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات
والعزى ومناة ونائلة، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً، إذ هو الذي
دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا
الأوثان، ولذا قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً} لعنه الله
وأبلسه عن إبائه السجود لآدم
(118){وَقَالَ
لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}
قيل: كان
نصيبه من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، لحديث مسلم: "أبعث بعث النار فيقول
وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". المخاطب: آدم عليه
السلام.
أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك وهم
معلومون معروفون بمعصيتهم إياك، وطاعتهم لي.
(119) {فَلَيُبَتِّكُنَّ}
: فليقطعن.
البتك:
القطع، يقال: سيف باتك.
وواصل
العدو تبجحه قائلاً: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} يريد عن طريق الهدى
{وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون
عذاباً أو أنه سيغفر لهم. {وَلآمُرَنَّهُمْ} فيطيعوني {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ
الأَنْعَامِ} أي: ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقنهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف
أنها للآلهة؛ كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة، {وَلآمُرَنَّهُمْ} أيضاً
فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع والشرك، والمعاصي كالوشم والخصي.
(120){وَيُمَنِّيهِمْ}
: يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح.
{يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ} فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ
إِلا غُرُوراً} إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟.
حرمة الوشم
والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع1.
أذن الشارع
في وسم الماشية، ولكن في غير الوجه، كما أذن وخصي الغنم ضائنًا أو ما عزًا لمصلحة
إصلاح لحومها.
(122) القيل،
والقول، والقال: بمعنى واحد.
من هداية
الأية : الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها.
هذا من
منهج القرآن الخاص به، وهو الجمع بين الترهيب والترغيب؛ لأنه كتاب هداية وتربية
فلذا يجمع بين الوعد والوعيد، وذكر الشيء وضده.
(123) {بِأَمَانِيِّكُمْ}
: جمع أمنية: وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالباً تحقيقه.
روي أن هذه
الآية نزلت لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا، فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم
وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم
الله تعالى بينهما بقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أيها المسلمون {وَلا
أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} من يهود ونصارى، أي: ليس الأمر والشأن بالأماني
العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب
الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل
صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه
هذه الآية
عامة في الكافر والمؤمن، ويؤكد عمومها رواية مسلم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لما نزلت وبلغت من المسلمين مبلغًا، قال: "قاربوا وسددوا ففي كل ما
يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها"، ويفسرها لنا أيضاً
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية أحمد لأبي بكر، وقد قال لما نزلت
كيف الفلاح يا رسول الله، بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملناه جزينا به. "غفر الله
لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ " قال:
بلى. قال: "فهو مما تجزون".
من هداية
الأية : ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى
والصبر والإحسان.
(124){نَقِيراً}
: النقير: نقرة في ظهر النواة.
(125){خَلِيلاً}
: الخليل: المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب.
{وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} من هداية
الأية : إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان
أفادت هذه
الآية حكماً عظيمًا، وهو أنه: لا يصح عمل بدونه أبدًا. وهو الإخلاص والمتابعة، وهو
أن يكون العمل خالصًا لله، وأن يكون صوابًا، أي: وفق ما شرع الله تعالى في كتابه،
وعلى لسان رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد شرف
بالخلة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي الصحيحين أنه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبهم أخر خطبة، فقال: "أما بعد أيها الناس: فلو كنت
متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم
خليل الله".
(127) نزلت
هذه الأية إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لأن
العرف الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث ، وكان
اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق كامل، فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه
السورة وقررت حق المرأة والطفل في الإرث وحضت على المحافظة على مال اليتيم وكثرت
التساؤلات لعل قرآناً ينزل إجابة لهم حيث اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الآية
الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد
هذه، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أي: وما زالوا يستفتونك في النساء، أي: في شأن
مالهن وما عليهن من حقوق؛ كالإرث والمهر وما إلى ذلك. قل لهم أيها الرسول {اللهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وقد أفتاكم فيهن وبين لكم مالهن وما عليهن. وقوله تعالى:
{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي: وما
يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كافٍ لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم
أيضاً، إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها
وليزوجها غيره وليتزوج هو من شاء، ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها، وإن
كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها مهر مثيلاتها ولا يبخسها حقها من مهرها
شيئاً. وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} أي: وقد أفتاكم بما يتلى
عليكم من الآيات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم
وافياً في آية {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ} الآية.
(128) {نُشُوزاً}
: ترفعاً وعدم طاعة.
{وَأُحْضِرَتِ
الأَنْفُسُ الشُّحَّ} : جلبت النفوس على الشح فلا يفارقها أبداً.
{وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا
أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} فقد تضمنت حكماً عادلاً رحيماً وإرشاداً
ربانياً سديداً وهو أن الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزاً، أي: ترفعاً أو إعراضاً
عنها، وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها، وقد تزوج غيرها في هذا الحال في الإمكان أن
تجري مع زوجها صلحاً يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض
حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجباً لها وهذا خير لها من الفراق. ولذا قال
تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ}
يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إلا أن المرأة
أضمن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقها من زوجها. إذاً فليراع الزوج هذا، ولذا
قال تعالى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} أيها الأزواج إلى نسائكم {وَتَتَّقُوا} الله تعالى
فيهن فلا تحرموهن ما لهن من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإحسان
إحساناً وبالخير خيراً فإنه تعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . {وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي: وما تلى عليكم في أول السورة كان آمراً
إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله: {وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} ،
وقوله تعالى في ختام الآية {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ
بِهِ عَلِيماً} حث لهم على فعل الخير بالإحسان إلى الضعيفين المرأة واليتيم زيادة
على توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها. هذا ما دلت عليه الآية الكريمة
(129) {وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن
العدل بين زوجاته اللائي في عصمته، فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى
منتهاه أبداً، والمراد بالعدل هنا في الحب والجماع. أما في القسمة والكساء والغذاء
والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم
يؤاخذه بميلة النفس، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" والمحرم على الزوج
هو الميل الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن، لأن ذلك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع
لا هي متزوجة تتمنع بالحقوق الزوجية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد
بحقوقها معه، وهذا معنى قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ، وقوله
تعالى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا} أي: أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم
وتتقوا الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه
فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن
الله تعالى كان وما زال عفواً للتائبين رحيما ًبالمؤمنين.
(131) إن
قيل ما وجه تكرار جملة: {لله مَا في السمَواتْ ومَا في الأرض} ثلاث مرات؟ فالجواب:
أنه تعالى لما ذكر أن الزوجين إذا تفرقا بعد مصالحة، وعلى تقوى يغنيهما الله. برهن
على ذلك بأن له ما في السموات وما في الأرض، ومن كان كذلك قهو قادر على إغنائهما،
ولما وصى عباده بتقواه وهي طاعته بفعل الأمر وترك النهي، أعلم أنه قادر على عقوبة
من عصاه، وأنه لم يوص بالتقوى لحاجة به، إنه يملك ما في السموات وما في الأرض، ومن
كان كذلك فلا حاجة به إلى أحد، ولما ذكر غناه وحمده دلل عليهما بأن له ما في
السموات ما في الأرض وأنه الحفيظ لعباده المدبر لهم.
{وَكَانَ
اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً}في هذه الآية إرشاد عظيم للعباد، لقد علم تعالى أن
الإنسان بحكم وجوده في هذه الحياة ورغبته في السعادة فيها، هو يعمل لها جهده
غافلاً عن الحياة الآخرة التي هي أعظم لبقاءها وكبر شأنها، فلفت نظره إليها معلمًا
إياه أنه لديه تعالى ثواب كل من الحياتين، فليطلب ذلك منه بالإيمان به، وطاعته كما
طلب الدنيا بالأعمال الموصلة إلى تحقيق السعادة فيها، وفوق ذلك أن ثواب العملين
بديه تعالى لا بيد غيره.
هذا
التذييل يربي ملكة مراقبة الله تعالى، إذ من علم أن الله سميع لأقواله عليم بأعماله.
راقبه واتقاه.
(135){قَوَّامِينَ}
: جمع قوام: وهو كثير القيام بالعدل.
{تَلْوُوا}
: أي: ألسنتكم باللفظ تحريفاً له حتى لا تتم الشهادة على وجهها.
{تُعْرِضُوا}
: تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم.
القاعدة
العامة منذ عهد بعيد: أن القريب لا يشهد لقريبه، ولكن يشهد عليه. فلا يشهد الأب
لابنه، ولا الابن لأبيه، لوجود تهمة المحاباة للقرابة، وكذا لا يجوز شهادة على
عدوه، وهذا مذهب عامة الفقهاء، وحتى الخادم في البيت لا يجوز شهادته لأهل البيت،
إذ قد يحابيهم لمنفعته.
(137){إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}ي هذه الآية: أن
الكافر إذا آمن غفر له كفره، وإذا ارتد يؤاخذ بكفره الأول والأخير سواء. وشاهده
حديث مسلم: إذ قال أناس: يا رسول الله أتأخذنا بما عملنا في الجاهلية. قال:
"أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء -كفر- أخذ بعمله في
الجاهلية والإسلام ". وفي رواية: "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول
والآخير".
المرتد
يستتاب ثلاثة أيام وإلا قتل كفراً أخذاً من قوله: {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}
.
(138){بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ} : البشارة: الخير الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيراً كان أو
شراً. والمنافق: من يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقية ليحفظ دمه وماله.
(139){أَوْلِيَاءَ}
: يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين.
{الْعِزَّةَ}
: الغلبة والمنعة.
{وَيُسْتَهْزَأُ
بِهَا} : يذكونها استخفافاً بها وإنكاراً وجحوداً لها.
{يَخُوضُوا}
: يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام.
من هداية
الأية : الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة
وهذا باطل، فالعزة لله ولا تطلب إلا منه تعالى بالإيمان واتباع منهجه.
تكفل الله
تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه
(140) في
الآية دليل على حرمة الجلوس في مجالس المعاصي وغشيان الذنوب إلى أن ينكر ذلك على
أصحابها؛ لأن الرضا بالمعصية معيصية، بل الرضا بالكفر كفر بالإجماع. ويدخل في هذا
مجالس أرباب الأهواء وأصحاب البدع، والآية محكمة لا نسخ فيها.
(141){يَتَرَبَّصُونَ
بِكُمْ} : ينتظرون متى يحصل لكم انهزام أو إنكسار: فيعلنون عن كفرهم.
{نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ} : أي: نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم.
أصل
الاستحواذ: الحوط، يقال: حاذه يحذه حوذًا، إذ أحاطه، فمعنى: استحوذ: أحاط واستولى
وغلب.
(142){يُخَادِعُونَ
اللهَ} : بإظهارهم ما يحب وهو الإيمان والطاعات، وإخفائهم الكفر والمعاصي.
{وَهُوَ
خَادِعُهُمْ} : بالستر عليهم وعدم فضيحتهم، وبعدم إنزال العقوبة بهم.
{يُرَاؤُونَ}
: أي: يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.
(143){مُذَبْذَبِينَ}
: أي: يترددون بين المؤمنين والكافرين فأي جانب عز كانوا معه.
يخبر تعالى
أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإيمان به وبرسوله وهم
غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله
تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو
العذاب المعد لهم عاجلاً أو آجلاً، كما أخبر تعالى إذا قاموا إلى أداء الصلاة
قاموا كسالى متباطئين؛ لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروي، فلذا هم يراءون بالأعمال
الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا ذكراً
قليلاً في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك لعدم إيمانهم بالله تعالى وعدم حبهم له كما
أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإيمان والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإيمان
والمؤمنين يسكنون، ولا إلى الكفر والمنافقين يسكنون فهم في تردد وحسرة دائمون،
وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا يوجد لهدايته سبيل.
شاهده من
السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "إن أثقل صلاة على
المنافقين العتمة -العشاء- والصبح"؛ لأن الصلاة تقعان في الظلام، ولأن العتمة
يكون المرء فيها تعبًا مرهقًا من أعمال النهار، وأما الصبح فإن غلبة النوم أشد على
العبد، ولولا الخوف من السيف ما شاهدوا الصلاتين.
وفي صحيح
مسلم وصف بحال المنافقين في تذبذبهم وحيرتهم، إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مثل المنافق؛ كمثل الشاة العائرة -المترددة بين قطيعين من الغنم-
بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى".
(144){سُلْطَاناً
مُبِيناً} : حجة واضحة لتعذيبكم.
(145){الدَّرْكِ
الأَسْفَلِ} : الدرك: كالطابق، والدركة كالدرجة.
الدرك
بالإسكان والفتح، والنار سبع دركات، يقال فيمن تعالى وارتفع: درجة، وفيما سفل
ونزل: دركة. والدركات: هي كالتالي: جهنم، ثم لظي، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر،
ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى: جهنم.
(146){وَأَصْلَحُوا}
: ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال.
روي عن ابن
عمر رضي الله عنهما أنه قال: أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر
من أصحاب المائدة، وآل فرعون تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وقال في أصحاب
المائدة: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ
الْعَالَمِينَ} ، وقال في آل فرعون: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ} .
(147){مَا
يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً
عَلِيماً} لا يضيع المعروف عنده. لقد شكر لبغي سفيهاً كلباً عطشان فغفر لها
وأدخلها الجنة.
هذا مقتبس
من حديث الصحيحين، ونصه: روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب
منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ مثل الذي بلغ
بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"
والشاهد في فضل الشكر والإيمان.
(148)يخبر
تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما
يكره ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة، ولما حرم
تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب، استثنى المظلوم فإن له أن
يجهر بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم
في الآية
دليل على جواز الدعاء على الظالم ممن ظلمه، وجواز رد الشتم والسب بمثله إلا أن ترك
ذلك أفضل.
(153){الصَّاعِقَةُ}
: صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها.
{اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ} : أي: إلهاً فعبدوه.
نعى الرب تعالى على أهل الكتاب قولهم نؤمن
ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى
وكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كفر به اليهود أيضاً ذكر تعالى
لرسوله أن اليهود إذا سألوك أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فلا تعجب من قولهم،
ولا تحفل به إذ هذه سننهم وهذا دأبهم، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا،
فقالوا له: أرنا الله جهرة، فأغضبوا الله تعالى، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون
واتخذوا العجل إلهاً يعبدونه في غياب موسى عليهم، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم
البينات حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم،
وآتى نبيهم سلطاناً مبيناً، ولم يؤثر ذلك في طباعهم
(154){مِيثَاقاً
غَلِيظاً} : عهداً مؤكداً بالأيمان.
أخبر تعالى
أنه رفع فوقهم الطور تهديداً لهم ووعيداً وذلك ما امتنعوا أن يتعهدوا بالعمل بما
في التوراة، فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقاً غير أنهم
نقضوه كما سيأتي الإخبار بذلك.
وقوله
تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} كان هذا عندما دخل يوشع بن
نون فتى موسى مدينة القدس فاتحاً أوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل أن
يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكراً لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن
يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفاً على استاهم مكراً وعناداً
والعياذ بالله. وقوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي: ونهيناهم
عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصياناً وتمرداً، وقوله تعالى:
{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} أي: على أن يعملوا بما شرعنا لهم
تحليلاً وتحريماً في التوراة، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا، إذاً فلا غرابة في
سؤالهم إياك على رسالتك وليؤمنوا بك أتنزل عليهم كتاباً من السماء.
كل ما ذكر
في هذه الآيات هو تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيفاً على نفسه،
مما يلاقي من تعنت اليهود، وصلفهم، وقساوة قلوبهم ومعاملاتهم.
(155){غُلْفٌ}
: جمع أغلف، وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه.
{غُلْف} :
قد يكون جمع غلاف، ومعناه حينئذ: أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة بهم إلى علم سوى
ما عندهم ولا منافاة بين المعنيين في النهر وأيسر التفاسير.
(156){بُهْتَاناً
عَظِيماً} : البهتان: الكذب الذي يحير من قبل فيه، والمراد هنا رميهم لها بالزنى.
ما زال
السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سبباً في لعنهم وذلهم، وغضب
الله تعالى عليهم، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا
السياق وهي: (155-156-157) .
1- نقضهم
العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بها في التوراة.
2- كفرهم
بآيات الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- قتلهم
الأنبياء؛ كزكريا ويحي وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة.
4- قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة
الإسلام، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى، وأخبر أن
لا أغطية على قلوبهم، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب ذنوبهم فران عليها الران
فمنعها من قبول الحق اعتقاداً وقولاً وعملاً
5- كفرهم:
أي: بعيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً.
6- قولهم
على مريم بهتاناً عظيماً1 حيث رموها بالفاحشة، وقالوا عيسى ابن مريم ابن زنى لعنهم
الله.
7- قولهم
متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وهو رسول الله،
وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ} أي: برحل آخر ظنوه أنه هو فصلبوه وقتلوه، وأما المسيح فقد رفعه
الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية (158) {بَلْ رَفَعَهُ
اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} أي: غالباً على أمره حكيماً في
فعله وتدبيره.
وأما قوله
تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} ، هذا إخبار من
الله تعالى بحقيقة أخرى وهي أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه
القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا في هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو
عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبداً بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه
هو المسيح عليه السلام، ولذا قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ3 يَقِيناً، بَلْ
رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1.
عزة الله
يتنافى معها تسلط اليهود على عبده ورسوله عليسى وقتلهم له وحكمته تتجلى في رفعه
إليه وإنزاله آخر أيام الدنيا.
ما زال
الخلاف قائمًا إلى اليوم، فالجمهور منهم يقولون: صلب عيسى وقتل وبعد ثلاثة أيام
رفع. وخلاف الجمهور يقولون: لم يصلب عيسى ولم يقتل.
(159) الله
تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا
آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وليس هو ابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود، ولا هو
الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى، ولكن هذا الإيمان لا نيفع صاحبه لأن حصل عند
معاينة الموت قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ
حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} هذا ما دلت
عليه الآية الكريمة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: يشهد على
كفرهم به وبما جاءهم به، ووصاهم عليه من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ودين الحق الذي جاء به.
(160) {فَبِظُلْمٍ}
: الباء سببية، أي: فبسبب ظلمهم.
روي أنه
لما نزلت آية: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} الآية. قالت يهود
منكرة ما أخبر به تعالى عنهم: أن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها ولم
تكن حرمت بظلمنا، فنزل: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ} ، وهم: عبد الله بن سلام، وأحبار اليهود المسلمون.
(161)أورد
القرطبي هنا سؤالاً وهو مع علمنا: أن اليهود يأكلون الربا والسحت وجميع ما حرم
الله تعالى، فهل يجوز التعامل معهم؟ وأجاب بالجواز استدلالاً بقول الله تعالى:
{وطَعامْ الذين أُوتوا الكِتَاب حلاً لَكُمْ} وبتعامل الرسول صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم، فقد رهن درعه عند يهودي.
(162){الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ} : أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم راسخة في
نفوسهم ليست لنيات بل هي يقينات.
من أهل
الكتاب صلحاء ربانيون وذلك؛ كعبد الله بن سلام وآخرين.
الرسوخ في
العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات.
(163){إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : الوحي: الإعلام السريع الخفي، ووحي الله تعالى إلى
أنبيائه: إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره.
الوحي:
مصدر وحى يحي وحيًا؛ كرمى يرمي رميًا إليه بكذا أعلمه، وأوحى يوحي إيحاء إليه بكذا
أعلمه به بطريق خفي.
{وَالأَسْبَاطِ}
: أولاد يعقوب عليه السلام.
{زَبُوراً}
: الزبور: أحد الكتب الإلهية أنزله على نبيه داود عليه السلام.
في قوله
تعالى: {وآتينا داود زبورا} وهي جملة معطوفة على جملة: {إنّا أَوْحَينَا إِليِك}
إشارة إلى أن الزبور كتاب، وهو كذلك. إذ هو أحد الكتب الأربعة، ولو لم يرد ذلك
لعطف اسمه على من سبقه فقط، كأن يقول: وهارن وسليمان وداود.
(164){قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} : ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولاً وسبعة
ذكروا في سور أخرى وهم: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو، وشعيب، وصالح،
وذو الكفل، وإدريس، وآدم.
روى أن
اليهود لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الأية السابقة أنكروا أن يكون هذا
وحيا، وقالوا لم يوح الله تعالى إلى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله: {إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ} فذكر عدداً من الأنبياء، ثم قال: ورسلاً، أي: وأرسلنا رسلاً قد قصصناهم
عليك من قبل، أي: قص عليه أسماءهم وبعض ما جرى لهم مع أممهم وهم
يبلغون
دعوة ربهم، وأرسل رسلاً لم يقصصهم عليه، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه
كلاماً بلا واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء،
وقد أرسلهم تعالى رسلاً مبشرين من آمن وعمل صالحاً بالجنة، ومنذرين من كفر وأشرك
وعمل سوء بالنار وما فعل ذلك إلا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا
ما أرسلت إلينا رسولاً هذا معنى قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي: بعد إرسالهم
(171) {يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ} : المراد بهم هنا: النصارى.
{لا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} : الغلو: تجاوز الحد للشيء، فعيسى عليه السلام عبد الله
ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله.
النصارى
غلوا في عيسى فتجاوزوا حد الإفراط حيث ألهوه، أي: جعلوه إلهًا وعبدوه، واليهود
غلوا في التفريط في عيسى، إذ قالوا: ساحر وابن زنا والعياذ بالله.
{الْمَسِيحُ}
: هو عيسى عليه السلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب، أي: لا ذنب له قط.
لم يذكر
الله تعالى امرأة في القرآن باسمها العلم سوى مريم، إذ ذكرها في القرآن في نحو من
ثلاثين موضعًا، وسر هذا أن العرب يتحاشون أن يذكروا أسماء نساؤهم إنما يكنون عنهن
بالعرس والأهل والعائلة. وأما الإماء فيذكرونهن بأسماؤهن، لذا ذكر تعالى مريم وهي
أمته باسمها العلم ثلاثين مرة.
قال ابن
عباس رضي الله عنهما: المراد من التثليث: الله تعالى وصاحبته وابنه. والأقانيم عند
بعضهم هي: الأب والابن وروح القدس. وعند بعضهم هو: الوجود والحياة والعلم.
(173)وأما
الذين استنكفوا واستكبروا، أي: حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع
إليه فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذاباً أليماً، أي:
موجعاً لا يجدون لهم من دونه ولياً ولا ناصراً فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء
بما كانوا يعملون.
(175){صِرَاطاً}
: طريقاً يفضي بهم إلى جوار ربهم في دار الكرامة.
{وَاعْتَصَمُوا}
: أي: تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع.
(176) روي
أن هذه الآية وتسمى آية الكلالة نزلت في آخر ما نزل، وسبب نزولها: أن جابر بن عبد
الله مرض فعاداه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر فأغمى على
عبد الله فتوضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم صب عليه من فضل
وضوءه فأفاق، فقال يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ وكان له تسع أخوات، فلم يرد
عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية.
{الْكَلالَةِ}
: أن يهلك الرجل ولا يترك ولداً ولا يترك ولد ولد، وإنما يترك أخاً أو أختاً.
هذه الآية
تسمى آية الكلالة، وآيات المواريث أربع: الأولى في شأن الولد والوالد: {يُوصِيكُمُ
اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} . والثانية: في
شأن الزوج والزوجة: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلخ ... وفي شأن
الإخوة لأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ
أَوْ أُخْتٌ} إلخ.. وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء. والثالثة، هي هذه:
{يَسْتَفْتُونَكَ} إلخ.. وهي في شأن ميراث الأخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم يترك
ولداً ولا ولد ولد.. وهو معنى الكلالة. والرابعة: في آخر سورة الأنفال وهي في شأن
ذوي الأرحام، وهي قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللهِ} .
وهذه الآية
نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة، فقال تعالى: يسألونك أيها
الرسول عن الكلالة. قل للسائلين: {اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ، وهذه
فتواه: إن هلك امرؤ ذكراً كان أو أنثى، وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو
لأب فلها نصف ما ترك، وهو يرثها أيضاً إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد. فإن كانتا
اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، أي: ذكوراً وإناثاً
فللذكر مثل حظ الأنثيين وبعد أن بين تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبيناً حكمة
هذا البيان: {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: كيلا تضلوا في قسمة
التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ4}
فلا يجهل شيئاً ولا يخفى عليه آخر، وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره
ولا رب سواه.
بيان قسمة
تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة؛ فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك،
والاختان لهما الثلثان، والأخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ يرث أخته
إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ
الأنثيين إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد.
بعض
الملاحظات :
وأية
الكلالة تسمى أيضاً آية الصيف لأنها نزلت في زمن الصيف، وقال عمر رضي الله عنه:
"إني والله لا أدع شيئاً أهم إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله عنها
فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في جنبي أو صدري وقال: "يا عمر
ألا تكفيك آية الصيف.
الجمهور ما
عدا ابن عباس والظاهرية على أن الأخوات عصبة مع البنات، فلو هلك هالك وترك أختًا
له وبنتا فإن المال بينهما نصفين، وإن ترك ثلاثًا فالمال بينهما أثلاثًا، وهكذا
الأخوات عصبة مع البنات. قضى بهذا معاذ رضي الله عنه.
من جملة
الأشياء العليم بها: أحوالكم، وما تتطلبه حياتكم في الدنيا والآخرة، وهذا يقتضي
الثقة والطمأنينة فيما شرع لكم وتنفيذه في إخلاص وحسن أداء.
Comments