يقول الله تعالى ممتنًا على عبده ونبيه داود فى سورة سبأ
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
فنبى الله داود قد آتاه الله فضلًا عظيمًا حيث كانت الجبال والطير تسبح معه حين يسبح، فقوله تعالى أوبى معه أى رددى معه التسبيح وفى ذلك تنشيطًا لنبى الله داود وإعانة له على كثرة ذكر الله.
والله أيضًا قد ألان له الحديد فجعله فى يده كالعجين يشكله كيف يشاء، لكى يقوم بعمل السابغات، فما هى السابغات وما المقصود بقوله "وقدر فى السرد"
أَنِ في قوله: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ مصدرية على حذف حرف الجر. وسابغات صفة لموصوف محذوف وهى الدروع.
فالله الآن له الحديد لكي يعمل منه دروعا سابغات. والدرع السابغ، هي الدرع الواسعة التامة. يقال: سبغ الشيء سبوغا، إذا كان واسعا تاما كاملا. ومنه قولهم: نعمة سابغة، إذا كانت تامة كاملة.
قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً لقمان 20
وقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ والتقدير هنا بمعنى الإحكام والإجادة وحسن التفكير في عمل الشيء. والسرد: نسج الدروع وتهيئتها لوظيفتها.
وقدر في السرد: أي اجعل المسمار مناسباً للحلقة، فلا يكن غليظاً ولا دقيقاً، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدروع وعدم الانتفاع بها.
فالسرد: المسامير التي في الحلق.
وقال آخرون: هو الحلق بعينها.
أى: آتينا داود كل هذا الفضل الذي من جملته إلانة الحديد في يده، وقلنا له يا داود:
اصنع دروعا سابغات تامات، وأحكم نسج هذه الدروع، بحيث تكون في أكمل صورة، وأقوى هيئة.
روى أن الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم، ولا تؤدى وظيفتها في الدفاع عن صاحبها، فألهم الله- تعالى- داود- عليه السلام- أن يعملها بطريقة لا تثقل الجسم ولا تتعبه، وفي الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح، ولا تقطعها السيوف، وكان الأمر كله من باب الإلهام والتعليم من الله- تعالى- لعبده داود- عليه السلام-.
وفى تفسير القرطبى
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أَيْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ، أَيْ كَوَامِلَ تَامَّاتٍ وَاسِعَاتٍ، يُقَالُ: سَبَغَ الدِّرْعَ وَالثَّوْبَ وَغَيْرَهُمَا إِذَا غَطَّى كُلَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَفَضَلَ مِنْهُ. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ فَكَانَتْ ثِقَالًا، فَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ بِالتَّقْدِيرِ فِيمَا يَجْمَعُ مِنَ الْخِفَّةِ وَالْحَصَانَةِ. أَيْ قَدِّرْ مَا تَأْخُذُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِقِسْطِهِ. أَيْ لَا تَقْصِدِ الْحَصَانَةَ فَتَثْقُلَ، وَلَا الْخِفَّةَ فَتُزِيلَ الْمَنَعَةَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التَّقْدِيرُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هُوَ فِي قَدْرِ الْحَلْقَةِ، أَيْ لَا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفُ فَلَا تَقْوَى الدُّرُوعُ عَلَى الدِّفَاعِ، وَلَا تَعْمَلْهَا كَبِيرَةً فَيُنَالُ لَابِسُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّقْدِيرُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هُوَ فِي الْمِسْمَارِ، أَيْ لَا تَجْعَلْ مِسْمَارَ الدِّرْعِ رَقِيقًا فَيَقْلَقُ «1»، وَلَا غَلِيظًا فَيَفْصِمُ الْحَلَقَ. رُوِيَ" يَقْصِمُ" بِالْقَافِ، وَالْفَاءُ أَيْضًا رِوَايَةٌ." فِي السَّرْدِ" السَّرْدُ نَسْجُ حِلَقِ الدُّرُوعِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَانِعِ حِلَقِ الدُّرُوعِ: السَّرَّادُ وَالزَّرَّادُ، تُبْدَلُ مِنَ السِّينِ الزَّايُ.
وفى تفسير بن كثير
{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} : هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} : لَا تُدِقّ الْمِسْمَارَ فَيقلَق فِي الْحَلْقَةِ، وَلَا تُغَلّظه فَيَفْصِمَهَا، وَاجْعَلْهُ بِقَدَرٍ.
ثم أمر- سبحانه- داود وأهله بالعمل الصالح فقال: وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أى: واعملوا عملا صالحا يرضيني، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذي تستحقونه.
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم. بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم، إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخالي عن الامتنان. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»
Comments