يقول الله تعالى فى سورة البقرة
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
والنسخ في اللغة الإبطال والإزالة، يقال. نسخت الشمس الظل تنسخه، إذا أذهبته وأبطلته.
وفي عرف الشرع: بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته، بمقتضى النص الذي تقرر به أولا.
وننسها من أنسى الشيء جعله منسيا.
فمعنى نسخ الآية في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ رفع حكمها مع بقائها.
ومعنى إنسائها في قوله- تعالى-: نُنْسِها رفع الآية من نظم القرآن جملة.
وسمى رفع الآية من نظم القرآن جملة إنساء، لأن من شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به.
ويصح إبقاء الإنساء على حقيقته، وهو إذهاب الآية من القلوب وإزالتها من الحافظة، بعد أن يقضى الله بنسخها.
وإنما قلنا بعد أن يقضى الله بنسخها، لأن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن، والله يقول إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» .
ومما يدل على نسخ الآية المنساة، أى: انتهاء مدة التكليف بها قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أى نأت بخير من المنسية المنسوخة أو مثلها، فيكون قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها معبرا عن حالة تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن وهي أن ينساه الناس لذهابه من قلوبهم، بعد أن يقضى الله بنسخه- كما ذكرنا-.
ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغنى غناءه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها بالهمزة، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ على النوعين السابقين وهما: نسخ الآية حكما فقط، ونسخها حكما وتلاوة.
ومعنى ننسأها تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها، وننزل ما يقوم مقامها في القيام بالمصلحة.
والخيرية والمماثلة في قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ترجع إلى ثواب العمل بها.
فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها، وقد يكون مماثلا له، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها، أقوم على المصلحة من الأخرى.
وبعد أن أثبت- سبحانه- أن النسخ جائز وواقع بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريرى، مخاطبا بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلّى الله عليه وسلّم لتكون دليلا على هذا الثبوت، وهذه الجملة هي قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والمعنى أن الله- تعالى- متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال.
ثم أقام- سبحانه- الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
والمعنى: أنه- سبحانه- مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم، ويعينهم على أعدائهم سواه، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه.
فى أيسر التفاسير للجزائرى
يخبر تعالى راداً على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غداً، أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكماً شاقاً على المسلمين إلى حكم أخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى اثنين. أو حكماً خفيفاً إلى شاق زيادة في الأجر؛ كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان، أو حكماً خفيفاً إلى حكم خفيف مثله؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو حكماً غير حكم آخر؛ كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلاً عنه، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة، ويبقى حكمها؛ كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو ينسخ الآية وحكمها. وهذا معنى قوله: {أَوْ نُنْسِهَا} ، وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآناً نزل وقرأه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظاً، ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو تعال يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
في الكلام إشارة إلى سبب نزول هذه الآيات، والمراد بالذين قالوا أن محمداً..إلخ: هم اليهود، واليهود ينفون وجود النسخ في الشرائع وهم مخطئون في ذلك خطأ كبيراً، إذ قد أباح الله تعالى أن لآدم أن ينكح بناته بنيه فترة من الزمن، ثم نسخ ذلك، وأباح لنوح أكل سائر الحيوان بعد نزوله من السفينة، ثم نسخ ذلك. كما أوحى الله إلى إبراهيم أن يذبح ولده، ثم نسخ ذلك إذ فداه بذبح عظيم قبل الذبح، وهذا نسخ للأمر قبل فعله.
وهذه الأية الكريمة توضح ثبوت النسخ في القرآن الكريم، كما هو ثابت في السنة، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا إجماع.
.........
مختصر شرح الأية
النسخ هو إبدال الحكم فى اية بحكم أخر تراخيا عنه، فالنسخ هو أن يرفع الله حكم فى اية مع الإبقاء على الأية ويأت بحكم أخر فى أية أخرى مثل قول الله تعالى "يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والأنصاب والأزلام رجس من عمل شيطان فاجتنبوه" فهذه الأية فيه حكم تحريم الخمر وقد نسخت هذه الأية الحكم بإباحة الخمر فى قوله تعالى "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعملوا ما تقولون" فقد كانت الخمر مباحة ثم حُرمت. والأيتين ثابتتين فى القرآن ولكن الحكم فى أية نسخ الحكم فى الأية الأخرى.
ومثال الناسخ والمنسوخ أيضا أن التى كان يموت عنها زوجها كانت عدتها عام كامل فى قوله تعالى
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
ثم نسخ هذا الحكم لتكون عدتها أربعة أشهر فى قوله تعالى
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
وأحيانا ينسخ الحكم للأشد واحيانا ينسخ للأسهل تبعا لما تقتضية الحكمة الألهية
وننسها أى نرفعها من الصدور
وفى الحديث كانت سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة فى الطول فرفعت ولم يبق منها إلا هذا القدر
{أَوْ نُنْسِهَا} ، وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآناً نزل وقرأه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظاً، ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو تعال يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
وللإستزادة فى هذا الباب يرجى مراجعة باب الناسخ والمنسوخ فى القرآن الكريم
Comments